“الفُتُوُرُ عَنْ طَلَبِ السَّعَادَةِ حَمَاقَةْ! وَلاَ طَرَيِقَ إلَيْهَا إلاَّ بِالعِلْمِ، وَالعَمَل!”
“الإمام الغزالي” (505هـ (ميزان العمل، ص: 179.
لعل مُشكِل المشكلات الثقافية بالنسبة للعرب والمسلمين اليوم، أنهم لا يزالون محجمين عن الغائية العملية بمعناها الخُلقي، والتقني، إنهم يقصرون الفكر – والعلم عموما- على العملي المحسوس المباشر، ويهملون النظر الباحث عن الحقائق الكبرى: كونًا، واجتماعًا، وفلسفاتٍ… بصرف النظر عن العمل المحسوس والمباشر.
لقد اجتمع عندنا معاشر المسلمين اليوم، الفكر الذريعي المبتَذل، والفكر الفقهي المرتجَل، وأسباب ذلك الوجوم الوجودي عديدة: منها سوء فهم لفقه سد الذرائع: يظنون- مثلا-: أن الفلسفة، والعلوم النظرية والإنسانية والاجتماعية، التي هي ثمرات الفكر الفلسفي الذي يطلب الحقيقة لذاتها! ظنوه من ذرائع الكفر!
ومن أجل ذلك قمنا بـِسَدِّ العلوم النظرية والاجتماعية، والفلسفية، وكل العلوم التي نُعَرِّفْهَا بالوظيفة المنهجية، أو العلوم الأدوات، لأنها مجرد اهتمام بما لا ينفع في الدنيا! والآخرة! ولم يعلموا أن الآخرة تحتاج إلى كدح روحي، ونحت فكري.
أما العلوم ذات النفع البَيِّنْ، فحصرنا البحث فيها، في النفع المباشر” كالطب والهندسة، والمحاسبة،…” .
ولعل أهم العلامات على مثل هذه التصورات، ما نراه في العديد من مؤسسات التعليم والتكوين، التي تولي المعارف التطبيقية: ذات الفائدة السوقية والتجارية والتكنولوجية المباشرة فقط؛ أفضلية وأولوية، وتهمل حقول الثراء الإنساني والاجتماعي والسؤال الفلسفي، -رغم وجود المحاولات الخجولة، إذا ما استثنينا جهود المجتمع المدني من مؤسسات وأفراد-؛ خوفا من التشكيك فيما تتصوره حقائق نهائية يضرها التساؤل الفلسفي أو الشك المنهجي.
لكأننا لم نقرأ القرآن! الذي ندعو إليه، لندرك أنه مثل كل التجارب الوجودية الصادقة، مليء بالسؤال، والحيرة، والشك المنهجي. فلم نسمع عن نبي يذهب به السؤال الفلسفي إلى حد التشكيك في كل شيء دون أن يكون ذلك قادحا في إيمانه مثل النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، إذ إن هذا الشك ليس دليلا على عمق طلب الحقيقة فحسب، بل هو أكبر دليل على صدق الإيمان الناتج عنه، وعن طلب الحقيقة في العمق[1].
لعل جولة بصرية عابرة تأخذها بإنعام في البرامج الأكاديمية، تكشف لك حجم التردي الذي يهولك عنده الوصف السابق، حيثُ الإهمال شبه التام لعلوم النظر التأسيسي والاجتماعي والإنساني، والتي هي الجسر المقنطر الحقيقي، لكل إشكالات علوم العمل التطبيقي، والتي لا تستغني عنه أي دولة كانت ذا شهود فاعل، بصرف النظر عن سلبية الفعل الذي تؤديه من إيجابيته!
مراكز الدراسات الإنسانية، ومعاهد الفنون الجميلة، وأقسام الدراسات النظرية، ومؤسسات الأبحاث المستقبلية، ودوائر الرصد السلوكي، تجدها متساوقة في التشكيلات الاجتماعية الفاعلة.
ما لم يرتقِ الانشداه العاطفي لمنجزات الحضارة الغربية، إلى الاندهاش المعرفي المنحوت عبر الذات الحضارية العربية والإسلامية مستفيدا من الإنجازات البشرية شرقا وغربا؛ فسيبقى الإنسان العربي والمسلم رهين الوجه الغفل من الوعي، علينا أن نبحث على عتبات السلطة الهامانية/الرمزية النظرية، التي تُبرر تنفيذ الفرعونية/ العملية، عن جواب، حتى لا نفرح بسذاجة التذرع باسم الدفاع عن الثوابت، التي غدت نوابت!
هناك ست نَزَعاتٍ كبرى كما يرصدها بعض الباحثين[2] في الخطابِ الإسلاميِّ اليوم، هي: 1/التَّقليدية المذهبية، 2/ والسلفية النصية، 3/ والسَّلفية الإصلاحية، 4/ والسلفية السياسية النصية، 5/والإصلاحية الليبرالية، 6/ والصوفية الطُّرقية. وليس الرهان على أحدها بأقل سلبية من الرهان عليها مجتمعة، فدائرة الكونية تحتويها، وتتخطاها، فقط لأن إحداها مفردة، لا تملك البديل الكوني الذي يؤهلها لتكون بوصلة شعوب الأرض، بسبب حراس الأصنام الفكرية، والمنظومات المتهالكة المعادية للتجديد والإبداع. سيما أن الكثير من النُّخب العربية والإسلامية لا تزال غير مدركة لما للانترنت وثورة الإنفوميديا والذكاء الاصطناعي من تأثيرات عميقةٍ في بنية المجتمعات المعاصرة.
_________
*إحالات:
[1] يـُــنظر: مستقبل الإسلام، مجموعة مؤلفين: سيما بحث: أبو يعرب المرزوقي، مستقبل الإسلام والمسلمين، ص: 9-88.
[2] يـُنظر: الإصلاح الجذري: الأخلاقيات الإسلامية والتحرر، طارق رمضان. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، بيروت-لبنان، 2010 م.