إعادة القراءة في أدوار الحركات الوطنية والتحررية في ما يسمى ب “استقلال” الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية يقتضي:
1- نوعا من النظرة الشمولية والعميقة للظاهرة الاستعمارية في العالم برمته. باعتبارها العامل والسياق المحدّد في نشأة الحركات الوطنية وتطورها.
2- النظر بموضوعية للانشطة النضالية والكفاحية للحركة الوطنية والتحررية ومساهمتها في استقلال الأوطان والشعوب المُستَعمَرة.
حيث لم تستطع كل حركات مقاومة الشعوب الوقوف أمام الاستعمار وصَدِّه في بدايته خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن20م، عندما انتقلت الرأسمالية من مرحلتها الميريكانتيلية الى المرحلة الصناعية، حيث صارت في أمس الحاجة الى المواد الاولية والى الاسواق، ودخلت الرأسماليات القومية الاوروبية(البريطانية-الفرنسية- الألمانية- الايطالية- الهولاندية- البلجيكية- الاسبانية..) في منافسة شرسة بينها، فسحق الاستعمار كل حركات المقاومة المسلحة للشعوب، وفرض سيطرته على بلدانها إلى انفجرت التناقضات بين هذه الرأسمالية القومية في الحربين العالميين، وبعد التحول العميق في بنية الرأسمالية، التي بدأت في الانتقال من المرحلة الصناعية الى المرحلة المالية في العشرينات من القرن20، واستكمالها لهذا الانتقال بعد الحرب العالمية الثانية، التي سَرَّعت وثيرة التحول والانتقال في بنية النظام الرأسمالي، لتصير الرأسمالية بعد امبريالية وعالمية، وفي غير حاجة الى الاستعمار المباشر والى التنافس والصراع على المستعمرات، الذي أدخلها في حربين عالمين مُدَمرين، فشرعت القوى الاستعمارية في إعادة انتشار قواتها في المستعمرات قصد الانسحاب منها فيما بعد، فالاستعمار المالي بالبنوك والقروض والرساميل كفيل بالقيام بالمهمة التي كانت تقوم بها العساكر والجيوش والإدارة المباشرة، فبدأت القوى الاستعمارية تنسحب من المستعمرات.
والاستعمار المباشر بنمطه الانتاجي الرأسمالي، خلال مرحلة فرض سيطرته على المستعمرات. ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تفكيك أنظمة الانتاج التقليدية الأهلية(ماقبل الرأسمالية) أو على الأقل سرّع من وثيرة تَفكّكها، وفي نفس الوقت قام بإلحاقها بنمط انتاجه الاستهلاكي، لدرجة لم تَعُد مَعها الدّول الاستعمارية في حاجة إلى القوة العسكرية لضمان نهب ثروات الشعوب والبلدان المُستَعمرة، بعدما صارت اقتصادياتها مُلحَقَة باقتصاديات الدول الاستعمارية فصارت تابعة لها حتى بعد ”الاستقلال”.
فخلال مرحلة الاستعمار المباشر أنشأ الإدارات الاستعمارية في مُستَعمَراتها المدارس والمعاهد، التي خَرَّجَت نُخَبا من المجتمعات المحلية، كما نَشأت حول المشاريع الاستعمارية الاستغلالية فئات اجتماعية من الإداريين والتّجار والوسطاء والحرفيين وبورجوازيات طُفَيلية محلية مُعَدّة للقيام بنفس الأدوار التي كانت تقوم بها الإدارة والجيوش الاستعمارية في هذه المستعمرات، فصارت القوى الاستعمارية في غير حاجة إلى تلك السيطرة العسكرية والادارية المباشرة التي سبق لها أن فرضتها في المُستعمَرات.
وبالفعل تضررت فئات واسعة من الفلاحيين والمَحرومين في البوادي، التي كانت تشكل الأغلبية الساحقة من الشعوب المُستعمَرة، من النمط الانتاجي الرأسمالي، الذي دَمَّر انماطها الانتاجية التقليدية، فانتقل جزء كبير من هذه الفئات الواسعة الى المُدن لتشكل فيها أحزمة من الفقر والامية، وهذه النخب والفئات الفقيرة والفئات التي نَمَت مصالحها وصارت تتضايق من المشاريع الاستعمارية، هي التي سَتُشَكّل القاعدة الاجتماعية لتأسيس الحركات الوطنية والتحررية. وتَزامَن انطلاق نضالها مع بدء القِوى الاستعمارية في إعادة الانتشار والانسحاب، الذي فَرضَه عليها التّحوّل العميق في بِنية النظام الرأسمالي الى رأسمالية مالية، الذي أشرنا إليه سالفا.
وعليه فالعامِلُ المُحدّد والحاسِم في ما يُسمّى ب”استقلال” الشعوب المُستعمَرة هو التّحوّل العميق في بِنية النظام الرأسمالي، وليس نِضالُ ومُقاومَة الحَركات الوطنية والتّحررية، الذي يَبْقى، رغم زخمه الكبير بُعيدَ الحرب العالمية الثانية عامِلا مُساعدا ومُسَرِّعا لإعادة انتشار الاستعمار، الذي تحول من استعمار مباشر إلى استعمار غير مباشر.