|
ما هو الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه في هذه المرحلة من جائحة فيروس كورونا؟
تبين لنا هذه الأزمة أن العولمة ما هي إلا اعتماد متبادل دون تضامن. فقد أنتجت حركة العولمة بالتأكيد التوحيد التقني والاقتصادي للكوكب، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب. ومنذ بداية العولمة في تسعينيات القرن الماضي، اشتعلت الحروب والأزمات المالية. وقد خلقت المخاطر على مستوى الكوكب -البيئة والأسلحة النووية والاقتصاد غير المنظم- مصيرًا مشتركًا للبشر، لكن البشر لم يدركوا ذلك بعد. وقد جلّى لنا هذا الفيروس بشكل فوري ومأساوي هذا المصير المشترك للإنسانية. فهل سنتمكن من وعي ذلك أخيراً؟ وفي غياب التضامن الدولي والمنظمات المشتركة لاتخاذ تدابير في مستوى الوباء، فإن ما نشهده اليوم بالمقابل هو انغلاق أناني للأمم حول ذاتها.
تحدث الرئيس ماكرون في خطابه عن خطر “الانغلاق القومي” …
لأول مرة هذا خطاب حقيقي جدير برئيس دولة. لم يتعلق الأمر بالاقتصاد والأعمال فحسب، بل أيضًا بمصير جميع الفرنسيين، المرضى ومقدمي الخدمات الصحية، والعمال الذين أجبروا على البطالة المؤقتة. إن تلميحه إلى نموذج التنمية الذي يجب تغييره هو بداية. ومع ذلك، فإن الترياق للانغلاق القومي ليس هو بالمقابل الانغلاق الأوروبي، لأن أوروبا غير قادرة على التوحد في هذا الشأن، وإنما هي في حاجة إلى تشكيل تضامن دولي وقد أعطى انطلاقته أطباء وباحثون من جميع القارات.
ما هي التغييرات التي يجب إجراؤها برأيك؟
يخبرنا فيروس كورونا بقوة أن البشرية كلها يجب أن تبحث عن مسار جديد يتخلى عن العقيدة النيوليبرالية من أجل بناء سياسة اجتماعية وبيئية مضادة للأزمة (New Deal). إن المسار الجديد سيحمي ويعزز الخدمات العامة مثل المستشفيات التي عانت من تخفيضات مجنونة في أوروبا لسنوات. سوف يصحح المسار الجديد آثار العولمة من خلال إنشاء مناطق متحررة من العولمة (démondialisées) من شأنها حماية أشكال من استقلالات ذاتية أساسية …
ما هي هذه “الاستقلالات الذاتية الأساسية”؟
أولا، الاكتفاء الذاتي من الغذاء. فأيام الاحتلال الألماني، كانت لدينا زراعة فرنسية متنوعة جعلت من الممكن إطعام السكان بدون جوع على الرغم مما كان يقوم به الألمان من سلب. اليوم نحن بحاجة إلى إعادة التنويع. ثم هناك الاستقلالية الصحية. اليوم، يتم تصنيع الكثير من الأدوية في الهند والصين ونحن معرضون لخطر النقص فيما يخص هذه الأدوية. يجب علينا استرجاع ما هو حيوي للأمة.
هل تؤدي العولمة إلى تفاقم الأزمة الصحية لتصبح أزمة عامة؟
لقد وقع بالفعل. فعندما قرّر بوتين الحفاظ على مستوى إنتاج النفط الروسي، فقد أدى بقراره هذا إلى انخفاض الأسعار في المملكة العربية السعودية وفي الولايات المتحدة حيث تواجه ولاية تكساس خطر التعرض لصعوبات خطيرة قد تتسبب في خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية … وتؤثر حالة الفزع هذه أيضًا على الأسواق المالية، مما يسبب انهيار سوق الأسهم. نحن لا نتحكم في هذه التفاعلات المتسلسلة. إن الأزمة التي ولدت من الفيروس تفاقم الأزمة العامة للبشرية التي جرفتها القوى المتحررة من كل مراقبة.
إذا قارنا بالأنفلونزا الإسبانية لــ 1918-1919 التي كانت موضوع صمت حقيقي من جانب السلطات آنذاك، فإن الحكام اليوم بدلاً من ذلك جنحوا للشفافية … أليس في هذا تأثير إيجابي للعولمة؟
في وقت الأنفلونزا الإسبانية، لم تكن هناك رغبة في أن يدرك الناس حجم الكارثة، وخاصة المقاتلين منهم. هذا التعتيم أصبح مستحيلا اليوم. فحتى النظام الصيني لم يتمكن من حجب المعلومات بمعاقبته البطل الذي أطلق جرس الإنذار … لقد مكنتنا شبكات المعلومات من أن نكون على علم بتطور الوباء دولة بدولة. لكن ذلك لم يفض إلى تعاون على مستوى أعلى. ما تم إنجازه هو لا يتعدى إعطاء الانطلاقة لتعاون دولي عفوي بين الباحثين والأطباء. كما أن كل من منظمة الصحة العالمية والأمم المتحدة عاجزتان عن توفير وسائل المقاومة لأكثر البلدان حرمانا.
“لقد عدنا إلى وقت الحرب”: غالبًا ما تعود هذه العبارة لوصف الوضع في إيطاليا وفرنسا. لقد عرفت بنفسك هذه الفترة. ماذا يلهمك هذا التشبيه؟
تحت الاحتلال، كانت هناك ظواهر من الحبس، والاحتجاز، وكانت هناك معازل (ghettos) … لكن الاختلاف الكبير مع ما يجري اليوم هو أن إجراءات الحجز فرضها العدو، بينما هي تُفرَض الآن على العدو، أي الفيروس. فبعد بضعة أشهر من الاحتلال الألماني، بدأت تظهر قيود على التموُّن. لم نصل إلى هذا المستوى بعد، على الرغم من أن هناك بوادر ذعر. ولكن إذا استمرت هذه الأزمة، مع تقليص نقل البضائع على المستوى الدولي، يمكننا أن نتوقع عودة نظام التقنين. هنا ينتهي التشابه. نحن لسنا في نفس نمط الحرب.
لأول مرة منذ عام 1940 تم إغلاق المدارس والجامعات …
نعم، ولكن في ذلك الوقت، كان الإغلاق مؤقتًا للغاية. فهزيمة فرنسا حدثت في يونيو، أي مع بداية العطلة. وفي أكتوبر، تم فتح المدارس من جديد.
ماذا يمكن أن نتوقع من الحجز؟ الخوف؟ عدم الثقة بين الأفراد؟ أو على العكس من ذلك، تطوير علاقات جديدة مع الآخرين؟
نحن في مجتمع تدهورت فيه هياكل التضامن التقليدية. وإحدى المشاكل الكبيرة التي تواجهنا هي استعادة التضامن، بين الجيران، وبين العمال، وبين المواطنين … مع القيود التي نمر بها، سيتم تعزيز التضامن بين الآباء والأطفال الذين لم يعودوا في المدرسة، وكذلك بين الجيران … وسوف يتم ضرب إمكانياتنا الاستهلاكية، ويجب علينا الاستفادة من هذا الوضع لإعادة النظر في النزعة الاستهلاكية، وبعبارة أخرى في الإدمان، و”الاستهلاك المخدِّر”، وفي ما نتعرض له من تسمم من منتجات دون فائدة حقيقية، لكي نتخلص من الكم لصالح الكيف.
ربما ستتغير علاقتنا بالزمن أيضًا …
نعم بفضل الحجز، وبفضل هذا الوقت الذي نحن بصدد استعادته، الذي لم يعد مقطعا، ومحتسبا بدقة (chronométré)، هذا الوقت الذي يتفلت من الدائرة المغلقة للمترو-العمل-النوم، يمكننا أن نستعيد ذواتنا، ونحدد احتياجاتنا الأساسية، أي الحب والصداقة والحنان والتضامن وشعرية الحياة … الحجز يمكن أن يساعدنا على البدء في تطهير طريقة عيشنا، وفهم أن العيش بشكل جيد هو تحقيق إمكانات “الأنا” (notre «Je»)، ولكن دائمًا داخل “النحن” المتعدد.
وأخيرًا، هل يمكن أن تكون هذه الأزمة مفيدة بشكل مفارق؟
لقد تأثرت للغاية لرؤية هؤلاء النساء الإيطاليات، على شرفتهن، يغنين ترنيمة الأخوة هذه، “Fratelli d’Italia” (“إخوة إيطاليا”). يجب أن نستعيد التضامن الوطني، غير المنغلق والأناني، بل المنفتح على المصير المشترك “الأرضي” … قبل ظهور الفيروس، كان ما يجمع البشر من جميع القارات هو وحدة مشاكلها: تدهور المحيط الحيوي، انتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يزيد من عدم المساواة … المصير المشترك حاضر بذاته، ولكن بما أن العقول أسيرة الخوف المستشري، وبدلاً من أن تدرك ذلك، فإنها تلجأ إلى الأنانية الوطنية أو الدينية. بالطبع، التضامن الوطني ضروري، ولكن إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، إذا لم نتقدم في التضامن، وإذا لم نغير تفكيرنا السياسي، فإن أزمة الإنسانية ستسوء أكثر. رسالة الفيروس واضحة. وويل لنا إذا كنا لا نريد سماعها.