القرآن ذكر حكمة آل إبراهيم، وحكمة داود وسليمان، وحكمة لقمان وعيسى بن مريم… وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فرشّح لها مِن كل أبناء الزمان.
ولكن لما قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231] وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]… قال أصحاب نظرية الوحيين: “الحكمة هي السنة! وإلا ما معنى نزولها؟”
وهذا الزعم يصطدم باللغة، وبالاستعمال القرآني، وبالآثار التي يصححونها. فأما اللغة فإنه لم يعرف فيها أن الحكيم لا يكون إلا نبيا، وأما الاستعمال القرآني فإن الله قال عن كتابه :{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 2]، وقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] والوحي المتلو هو القرآن، وقال بعد أن ذكر أمهات الأخلاق: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء: 39].
وأما اصطدامها بالآثار المُصحَّحة فمثل ما رواه البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ضَمَّنِي النَّبِيُّ (ص) إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ». ثم عقب البخاري قائلا: ” وَالحِكْمَةُ: الإِصَابَةُ فِي غَيْرِ النُّبُوَّةِ “.
وبهذا تتهافت هذه الشبهة التي تعلق بها أصحاب الوحيين، وتبقى الحكمة متاحة بفضل الله لأهل كل زمان، لا يستغني عنها إلا من رفض عصره، وأبى إلا أن يستنسخ (ماضيا مقدسا) قد شغفه حبا.
الحكمة هي الإصابة في القول والعمل، والإصابة من الأمة تتوقف على كفاءة مراجع الحكمة فيها، وهي مؤسسات العلم ومؤسسات العمل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]
إذن حقيقة الحكمة هي القدرة على الانتقال من الإمكان السماوي إلى الإمكانات التاريخية المتعددة.
والرسول (ص) حين كُلف أن يُعلم الكتاب والحكمة، كان المطلوب منه أن يُخرّج الحكماءَ لا المقلدين لحكمته، والعجيب حقا أن أصحاب الوحيين يتداولون بلا حرج حديثا يروون فيه عن النبي (ص) أنه قال: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين”، أي أن الرسول له سنة، ولكل خليفة راشد سنة، ولا يمكن أن نتصور سنة الخلفاء وحيا، فتبين أن السنة هي الحكمة العملية التطبيقية التي اقتضاها كل عصر.
واقتران الكتاب بالحكمة في القرآن فيه إشارة إلى إمكان تخلف الحكمة عن الكتاب، فنكون وجها لوجه مع ظاهرة: (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وظاهرة الأميين الذين لا يقرؤون الكتاب إلا أماني، وهذه الحالة هي المقصودة بالحديث الذي رواه أحمد عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ (ص) شَيْئًا، فَقَالَ: ” وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ ” قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ” ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ؟! “
العلم المقصود هنا هو الحكمة، وبغياب الحكمة تتعطل فاعلية الكتاب التاريخية، ويصير الدين صورا محنطة، ومجموعة من الآصار المرهقة، والأغلال الكابحة.
القرآن بين الأفق الأدنى والأفق الأعلى
إن أول من علمنا الحكمة تعليما عمليا هو الله تعالى، فكلنا نعرف أن القرآن نزل مفرقا غير مرتب، وذلك مراعاة للشرط التاريخي، فأمد النبي (ص) ببصيرة تتوافق توافقا تاما مع الإمكان، تحقيقا لوعده تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8]
ولهذا نرى القرآن المكي خاليا من الإلزامات ذات الطابع القانوني، كانت إلزاماته كلها أخلاقية في غاية من التخفيف، وأخطر ما جاء به كان يتعلق بأعمال القلوب، حيث لا سلطان لبشر على بشر، وحيث تكون إمكانات الإنسان بلا حدود، ولما ضاق صدر طغاة قريش بدعوة محمد (ص) وسلطوا صنوف العذاب على المستضعفين ليحملوهم على ترك الإسلام نزل قوله تعالى: {… مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فكانت رخصة التقية.
وترَك الله المسلمين مندمجين من الناحية العملية في مجتمعهم المكي الجاهلي، برغم ما كان في أعرافه من إثم وعدوان، فلم يحرم الخمر، ولا الربا، ولا وضع مواصفات للباس المرأة، ولا تدخل في مسألة الإرث وأحكام الزواج والطلاق، بل حتى الصلاة جعلها طرفي النهار وفي جوف الليل كي لا تكون سببا للتصادم والشقاق.
وكان من فائدة ذلك عدم تشتيت الجهود في معارك جانية يمكن تأجيلها إلى ما بعد الحسم في أم المعارك ألا وهي تحرير الناس من التسلط الماكر للطغاة، الذين يصطنعون واجهة دينية ذات طابع قومي تعطي امتيازات ظالمة للكبراء، وتلك حقيقة الشرك التي عبر عنها مهندسه الأول: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118]
ومع الهجرة وجد الإسلام أنصارا في غاية الكرم والاستعداد للتضحية، لكن لم يكن ذلك كافيا لإنزال التشريعات الملزمة دفعة واحدة، فهذا المجتمع الفتي كان يعيش في سياق محلي ودولي قائم على منطق الاستضعاف والاستتباع، وعزله من خلال تحريم الربا مثلا سيخنقه من الناحية الاقتصادية فيموت. وهذا المجتمع له أيضا تقاليد راسخة ليس من السهل الانفكاك عنها، أضف إلى ذلك وجود منافقين ذوي نفوذ يتربصون الدوائر بالإسلام من داخل قلعته، ويهود مجاورين ملأ قلوبَهم الحسدُ فقاموا يكيدون كيدا تزول منه الجبال طمعا في إفشال المشروع المحمدي المتمم للمشروع الإبراهيمي العظيم.
فهل كان من العبث أن يتأخر الكلام في لباس المرأة إلى السنة الخامسة من الهجرة، وأن يكون من آخر ما نزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278-279]، هذا النص الذي يشهره خطباء اليوم في وجه الضعفاء، وهو موجه إلى المتنفذين، ويتوعدهم بحرب حقيقية لا نستطيعها اليوم، لا بحرب أسطورية لا توجد إلا في عقول الواهمين!
زبدة الكلام أن القرآن له ترتيبان: ترتيب راعى فيه الإمكان التاريخي في قصة الدعوة المحمدية، وترتيب مصحفي خالف الترتيب الأول ليخرج من الأفق الزمني الأدنى، وليتبوأ الأفق الأعلى استعدادا لتجديد الاتصال الحكيم بكل الأزمنة الآتية.
السنة النبوية حكمة وقتية
اليوم سنبين من خلال أمثلة أن السنة النبوية كانت تدابير وقتية، لأن النبي (ص) بشر مُمتحن مثلنا، ليس ذا قدرات خارقة، نعم نجح نجاحا مدهشا، لكنه بقي منتميا لتاريخه، وتاريخه (ص) كان محكوما بنفس السنن التي تحكم التاريخ.
أولا- قال تعالى مخاطبا نبيه: {قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] فهل قالها الرسول لكل الناس؟ طبعا لم يستطع، لأن عمره لم يكن كافيا ليفعل ما فعله نوح، وعاش في زمن كانت وسائل الإعلام والاتصال محدودة جدا. لكنه (ص) اجتهد في التبليغ بنية التنفيذ على الوجه المطلوب، وكان ذلك كافيا منه، وترك البقية لأمته من بعده، لكن إلى اليوم لم يصل خبره (ص) إلى كل الناس.
ثانيا- بعدما دخل النبي (ص) مكة فاتحا قال: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ»، هذا اللفظ العام لو لم يكن حكما وقتيا لاقتضى إبطالا نهائيا لمبدأ الهجرة، وهو مبدأ عظيم نوه به القرآن، وكان أول مهاجر في سبيل الله هو إبراهيم الخليل: {قَالَ: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]
والهجرة هي الحل الذي أرشد الله إليه المستضعفين، حتى إنه توعد المتخلفين القادرين منهم كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. قَالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]
والسؤال: هل انعدم احتمال اضطهاد المؤمنين بعد فتح مكة إلى قيام الساعة؟
ثالثا- في السنة السادسة والثلاثين من عمر النبي (ص) اضطرت قريش لإعادة بناء الكعبة، لكن الميزانية المرصودة لم تكن كافية لإتمامها، فتركوا جزء منها خارج البناء الجديد، ولا زالت الكعبة على ذلك الوضع إلى يوم الناس هذا، فلماذا لم يسارع النبي (ص) بعد الفتح إلى إدخال ما كان خارجا من الكعبة في البناء؟
الجواب نأخذه من كلام النبي نفسه، فقد روى الإمام مسلم أن الرسول (ص) خاطب عائشة قائلا: «لولا حداثة عهد قومِك بالكفر لنَقضْتُ الكعبةَ، ولجعلتها على أساس إبراهيم»
وهذا الذي منع من تصحيح وضع الكعبة – وهي أقدس بنية في الإسلام- هو الذي نسميه الشرط التاريخي.
رابعا- موسم الحج عند المسلمين يكون في ذي الحجة، لأن النبي (ص) حج في هذا الشهر، لكن القرآن يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] والأشهر المعلومات هي الأشهر الأربعة الحُرُم، والمسلمون إلى اليوم لم يستفيدوا من هذه التوسعة اتباعا للتقاليد، مع أن الحاجة قد مست إليه اليوم، تُرى لو دخلت أمم الأرض كلها في الإسلام كيف سيصير أمر الحج؟
هذه بعض من الأمثلة التي تفيد بأن السنة النبوية لم تكن إلا حكمة وقتية تدفقت في وادي زمانها، فنجحت في تأسيس إمكانات تاريخية جديدة. لكنها لم تكن تطبيقا نهائيا للقرآن.