“ابتهال” المغربية تُحيي الكلمة، وتُشْرِق بالكلمة وتمنحها المعنى، وتُعيد تشكيل الوعي الحضاري والإنساني وهي تحتَجّ وتَفضح أصحاب الذّكاء الاصطناعي والتكنولوجي في موقف تاريخي خالِدٍ أمامَ “فرعون التّقنية الحديث” الملطّخَة يداه بعار الجريمة والوالِغ في دَمِ المَدنيين الأبرياء والضحايا من النساء والأطفال، وتمنَح كلماتها لغزة مجسدة عزة الإيمان، وتختار التضحية لتحفظ إنسانيتها وهويتها وتنحاز لصف المظلومين والمقهورين.
- الكلمة رُوح.. وشَرَف:
للكلمة معنى ورمز وكلفة وذاكرة وموقف وروح، إنها تلك الأسماء التي علّمها الله لآدم عليه السلام[1]. في البدء كانت الكلمة، والأنبياء تكلَّموا بكلام الله، وكلّ دعوتهم كانت كلمات، وعيسى-عليه السلام- نبي الحق “كلمة الله”[2] ومرشد الناس إلى الحقيقة، وموسى عليه السلام[3] الذي “كّلمه الله تَكليما”[4] ليواجه الاستبداد الفرعوني والاستكبار القاروني وينشُر رسالة العدل ويجْهَر بالحقّ ويُخرج بني إسرائيل من ضلالاتهم وانحرافاتهم، فكان نموذجا لكلمة الحق في وجه الطغيان والتأله والإفساد.
والكلمة تَنشأ في عالم الأفكار وتترسّخ في القناعات ثم تُغرَس في القلوب لتتَحَوّل إلى إرادات وطاقة قُوّة وعَمل في ساحة الفعل، تلك الكلمة التي ليست كالكلمات تغير الوضع من حالة العجز إلى الفعالية العادلة[5]، الكلمة الصادحة في وْجه “سُلطان ظالم”، سواء أكان سُلطان السياسة والمال أم سلطان الاستعباد والاستهلاك أم سلطان التكنولوجيا المعاصرة، لأنها جهاد روحي وفكري وسلوكي للإجابة على سؤال: (عَنْ عُمره فيم أفْناهُ؟).
“أتدْرِي ما معنى الكلمة”؟ _ يقول الأديب عبد الرحمن الشرقاوي _؛ إن “مفتاح الجنّة في كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تَعرف حرمة، زادٌ مذخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قُبور، وبعض الكلمات قِلاع شامخات يَعتَصِم بها النُّبل البشري، الكلمة فرقان ما بين نَبَيّ وبَغِيّ، بالكلمة تنْكشف الغُمة، الكلمة نُور ودليلٌ تتبَعُه الأمة (..) الكلمة زَلزلت الظّالم، الكلمة حِصن الحرية، إنّ الكلمة مسؤولية، إنّ الرجل[6] هو الكلمة، شرف الرّجل هو الكلمة”[7].
- الموقِف: تَضحيةٌ وصمودٌ وخُلود:
إنّ ما أقْدَمت عليه الشابة الذكية، الإنسانة الألمعية “ابتهال يتجاوَزُ” حالةَ الصّدْحِ بالكلمة إلى الإحراجِ بالموقف، والتضحية بالموقع والمكانة والعمل وموارِد الرّزق. والتّضحية _ كما يؤكد علي عزت بيغوفيتش _ تبدو كأنها شيء غير عقلاني وبِلا مَعنى وفِكرة عبثية مِن المنظور المادي؛ لكنّها تَبقى مع ذلك السّبيل الوحيد للإنسان لإثبات ذاته. نَلمَس بها الرّوح ونَشعر بها، فالتّضحية مِن المنظور الرّوحي فكرة عظيمة وسامية، تمهِّد الطريق للحياة مِن جديد، إنها تنطوي على عددٍ مِن عمليات النّفي الجذري لعالم الحسابات والمصلحة؛ وبغير هذا النّفي لن يكون للدّين وُجود.[8]
إنّ أعظم تضحية في الوجود أنْ يُضحّي الإنسان بمصالحه وأنانيته وامتيازاته، فَـيَختار طريق الإحساس بآلام الآخرين ومعاناتهم وحَـمْل همُومِهم، باحثا عن العدل والحرية؛ وبهذا المعنى تتحوّل التّضحية إلى قيمة روحية عظيمةٍ تتجسّد في الواقع قُدْوَةً ونموذجاً وتجربةً حيةً، لأنّها تَنفي عالم المصالح والحسابات وتُحَلّق نحو عالم المثُل والمعنى. ولو كانت “فضيلة التضحية” مُربحة، لتَسارع للقيام بها الانتهازيون ليَكونوا نماذج للفضيلة لينتفعوا منها ماديا، كما عبّر عن ذلك علي عزت بيغوفيش.
فإنْ أنتَ نظرتَ في واقعنا؛ رأيتَ من بيننا “مثقفا” يحفَظ ما قاله أفلاطون وأرسطو، ويتغنّى بمقولات فولتير ولوك وكانط، ويُقَدّس هيجل وماركس وهيْدجر وسارتر، و”أكاديميا” يُلَقّن طلّابه نظريات الدّولة والسيادة والقانون الدّولي وحقوق الإنسان، وآخَر يحكي عن المدارس الفكرية والفلسفية التي غيّرت تاريخ الحضارة ومسار العالم الحديث، و”باحثة” تَكْتُب عن الثّوَرات وسيكولوجيا الجماهير وروح الشّعوب، و”مهندسا” يُتْقِن لُغة الخوارزميات الرقمية، وخبيرا في تكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي، غيرَ أنَّ حِفْظَ المقولات الفكرية والفلسفية والتّمكن مِن التقنيات الرقمية واستحضار النّظريات السياسية والـمَقولات الحقوقية؛ غيرُ كافٍ، خصوصا إذا كانت هذه “المعرفة” غير مؤَطّرَة بوعي نَقدي وموقِف أخلاقي-إنساني ومنظومة قيمية تَـمْنَح فَهْمًا عَميقا لمسؤوليتها الأخلاقية، وإدراكاً لآثارِ تطبيقاتها.
إنّ عَجْز هذا المثقَّف وَخوفَ ذاك، واستسلام الأكاديمي وحِيادية المهندس عن اتّخاذ الموقف النّقدي اللاّزم والتّحَيّز الثقافي والحضاري تجاه القضايا الوطنية أو العالمية العادلة ومنها قضية فلسطين؛ لَـمِمّا يؤكّد الفَجوة بين المعرفة والالتزام الأخلاقي، ويُبَيّنِ الشرخ القائم بين العلم والقِيَم، فحِينَ تَتَحوّل هذه النّخب إلى كائنات صامِتة لا صوتَ لها في زمن الإبادة، ولا انخراطَ لها في بناء خطاب الممانعة الثقافية والمقاوَمة المعرفية؛ فإنّها تَفْقِد-آنذاك- مصداقيتها وتتحَوّل إلى أدوات وَظيفية تُسْتَعْمَل في تبرير جرائم الاحتلال وعبادة إله السوق، تحت مسمى “الحياد القيمي” و”الموضوعية العلمية”، التي تعني أن يتجرد الباحث من ذاته ويسكت ذاكرته الحضارية وقيمه وضميره وخياله، ومن ثم إبداعه[9]، حتى ينعت بالـعالِـم المتنور وحارس الحداثة العظيم.
وقد ظل هؤلاء “المحايدون الأبرياء” يقدمون تصورات حول الإنسان والمعرفة والعقل بوصفهم ظواهر طبيعية محكومة بدوافع مادية بدون أي دوافع جوانية أو معاني باطنية تحدد سلوك الإنسان بصفته كائنا ذا قصد يحمل قيما أو يبحث عن معنى أو صاحب ضمير أو يشعر بالذنب أو كائنا يعبر برموز ثقافية ولغوية أو يستبطن ذكريات وخبرة حضارية وذاكرة تاريخية…الخ[10]. أما العقل في نظرهم فهو صفحة بيضاء وشيء سلبي بسيط مثل آلة تصوير يسجل كل ما حوله دون حذف أو اختيار أو تضخيم أو تشويه، فتكون المعرفة عملية تراكمية تتكون من التقاط أكبر قدر ممكن من تفاصيل الواقع كما هو تقريبا بصورة فوتوغرافية، وأن المعطيات الحسية تتراكم لتكون أفكارا بسيطة من تلقاء نفسها وبشكل آلي، ثم تمتزج هذه الأفكار البسيطة لتكون أفكارا مركبة مجردة بالطريقة نفسها. حيث يكون إدراك باحث ما يتحلى بالموضوعية والحياد لا يختلف عن إدراك أي باحث آخر، وهكذا ستؤدي عملية التراكم إلى معرفة موضوعية عالمية، خالية من التحيزات، وعلى الإنسان أن يلغي ذاكرته وضميره ووجدانه وآماله وأحلامه باعتبارها أمورا مؤثرة في عملية الإدراك وتشكل عائقا في طريق التلقي الموضوعي السلبي- كما أشار عبد الوهاب المسيري- وهذا يعني إلغاء فعالية العقل وإبداعه[11]، وكذا قدراته في التفكيك والتركيب والفهم والتحليل.
لا يَنْفي الحديث عن مثل هذه الحالات والنماذج وجودَ صِنْفٍ آخرَ مِن النّخب، قادِر على اتّخاذ “الموقف” الصّحيح مهما كان ثمنه، جَريء على الصّدع “بالكلمة” في الوقت المناسب والمكان المناسب، واع بأنّ إخراجَ “البيان” عن وقْتِ الحاجَة لا قيمَة له، بَلْ لا يَجوز، ومِن هذا الصِّنْف طالَعَتْنا المهندسة ابتهال بدرسٍ بَليغٍ في رفْضِ استعمال التقنيات الحديثة في خدمة الإبادة والتّوَحُّش، مؤكِّدة بذلك عَدَم انفصالِ البُعد الأخلاقي عن البَحث العلمي والتّكنولوجيا وتقنيات الذّكاء الاصطناعي، ومُبرزة للعالَم أنّ حياد التِّقنية مجرّد وَهْمٍ كبير، فالعِلم لا يُفَكّر كما يقول هايدجر؛ وإنما يحتاج إلى الفلسفة والأخلاقيات والقيم حتى يُصْبِح عِلْمًا مُسَدَّداً ونافعا في خدمة الإنسانية ورُقِيِّها الأخلاقي والحضاري.
لقد تحررت ابتهال من كل أشكال الخوف على المنصب أو الخوف من طاغية التقنية، فقررت الخروج من وضع الغثائية الذي يورث الوهن في القلوب ويجعل الناس تستكين للدنيا وملذاتها، فاختارت اللحظة المناسبة والمشهد الحاسم لاستعادة “المهابة” لتقول كلمتها وتختار الانتصار للكرامة والحقيقة والعدل، وفي ذلك جهاد روحي وتزكية أخلاقية تحوّل الفعل الفردي إلى الأثر النافع لاستنهاض الأمة وميلاد مجتمع جديد.
بتاريخ 06 أبريل 2025
الموافق لــ 07 شوال 1446
الهوامش:
[1] مصداقا لقوله تعالى: “وعَلّمَ آدم الأسماء كلّها، ثم عَرَضَهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاءِ إن كًنتم صادقين” [البقرة- 31]
[2] يقول عز وجل:”إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ”[النساء-171]، قال تعالى:”إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” [آل عمران: 59].
[3] قال تعالى:”قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ”[الأعراف-144]
[4] “وكلّمَ الله موسى تكليما”، [النساء، الآية- 164]
[5] مصداقا لقوله تعالى: “وضَربَ الله مثلاً رَجلَينْ: أحَدهُما أبْكَمُ لا يَقدِرُ على شيء، وهو كَلٌ على مولاهُ، أينما يوجهْهُ لا يأتِ بخير؛ هل يستوي هو ومَن يأمُرُ بالعدل، وهو صراطٍ مستَقيم؟”[النحل – 76].
[6] وبالتّبَع؛ المرأة كذلك.
[7] عبد الرحمان الشرقاوي، من مسرحية “الحسين ثائرا”.
[8] علي عزت بيغوفيتش، هروبي إلى الحرية، ط2، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2016، ص100.
[9] عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، حوارات، تحرير: سوزان حرفي، ط1، دار الفكر، دمشق، سوريا، 2009، ص235 وأيضا: يمكن الرجوع إلى: عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، ط2، دار الشروق، القاهرة، 2006.
[10]راجع في هذا الصدد: عبد الوهاب المسيري، الموضوعية والذاتية. موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.
[11] يراجع: عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، مرجع سابق، ص233 وص235. وأيضا: عبد الوهاب المسيري، دفاع عن الإنسان: دراسات نظرية وتطبيقية في النماذج المركبة، دار الشروق، الطبعة الأولى، القاهرة، 2003.