1-قراء ابن خلدون وتعدد زوايا النظر
لماذا يثير عبد الرحمان ابن خلدون كل هذا الاهتمام؟
لماذا كتب عنه الكثيرون ولا زالوا يكتبون؟
لماذا كتب عنه كل من: طه حسين، وعلي الوردي، وساطع الحصري، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وبنسالم حميش، وعزيز العظمة، وعبد الرحمان بدوي، وأحمد عبد السلام، ومهدي عامل، وجاسم سلطان، وعماد الدين خليل، ومحمد عبد الله عنان، ومحمود إسماعيل، وناصيف نصار، وعبد الواحد وافي، ومحمد الطالبي…؟
لماذا اهتم به غربيون كثيرون غير هؤلاء أمثال: غاستون بوتول، غوته، وأرنولد توينبي، وإيف لاكوست، وفون فيسنديك… وكثير من المستشرقين كبروكلمان…؟
لقد ذكر سالم حميش في كتابه “التراكم السلبي والعلم النافع: عن قراء ابن خلدون”(1) قرابة أربع وأربعين شخصية اهتمت بابن خلدون، بين متكلفين بالطبع والنشر، ومترجمين للفرنسية والانجليزية وغيرهما من اللغات، وشراح ودارسين ونقاد ذوي وجهات نظر مختلفة.
ليس الماركسيون العرب وحدهم هم الذين تأثروا بابن خلدون ودرَسوا تراثه، ولكنه كان محطّ اهتمام العديد من الليبيراليين (أمثال طه حسين) والسوسيولوجيين (أمثال: علي الوردي وعلي عبد الواحد وافي) والقوميين (أمثال ساطع الحصري) والإسلاميين (أمثال: جاسم سلطان وعماد الدين خليل) وفقهاء الشريعة (أمثال مصطفى البحياوي)…
ينزع الليبيرالي إلى تحرير الإنسان من قيوده، ومن ثم ينزع إلى تفسير كل قيد اجتماعيا ونفسيا. ولذلك، فهو يقرأ المتن الخلدوني من تلك الزاوية لا غير. فيجد أن ابن خلدون لا يفسر الدين اجتماعيا –وإن كان أقرب إلى ذلك-بسبب عاطفته الدينية، ويلاحظ عليه عدم تمييزه بين النفس والمجتمع كما ينبغي، وينتقد عليه اهتمامه بفلسفة التاريخ على حساب التحقق من الأحداث التاريخية التي يستشهد بها… الاعتداد بالمعرفة الحديثة ومناهجها، والرغبة في تصور الدين بشكل مغاير… تلك هي الخلفية التي تحكم الليبيرالي وهو يقرأ لابن خلدون وعنه. (2)
يهتم السوسيولوجي بعدة قضايا في متن ابن خلدون، لعل أبرزها: الظروف الاجتماعية التي أنتجت ابن خلدون، تجاوزه التفكير الأفلاطوني الطوباوي بالتفكير الاستقرائي، تجاوزه المنطق الصوري الأرسطي بالمنطق الجدلي، اهتمامه بالجزئيات والتفاصيل في الواقع قبل الاهتمام بالكليات والمجردات في الذهن، متابعة ابن خلدون تفسيره لبعض الظواهر الاجتماعية في عصره (مثل: العصبية، الدين، الأخلاق، اللغة…)، استشهاده بالقرآن على وجه الاستئناس لا على وجه التأصيل (ومن ثم تمييزه عن الفقهاء وتأثره بسياقه التاريخي وبواقع مجتمعه)، العلاقة الجدلية بين التجربة السياسية والإنتاج النظري (انحطاط سياسي وعبقرية نظرية)، البحث في مدى إمكانية القول بتأسيس ابن خلدون لعلم الاجتماع (نفي علي الوردي، تأكيد علي عبد الواحد وافي)… (3)
يأخذ الشعور القومي صاحبه إلى تقديم ابن خلدون العربي متفوقا على الكثير من رواد الفكر الغربي، أمثال: فيكو في فلسفة التاريخ، ومونتيسكيو في السياسة والقوانين والأخلاق، وداروين في الأحياء… وهكذا. فابن خلدون أقدم من فيكو، ولكنه “أقرب إلى الروح العلمية منه بالرغم من هذه الأقدمية”. وهو أٌقدم من مونتيسكيو، ولكنه سبقه في: إدخال عنصر الاقتصاد في التاريخ وفي تفسير السياسات والأخلاق، تفسير عدد السكان بطريقة الحكم واستغلال الأمة من قبل غيرها، تفسير الأخلاق والقوانين بالجغرافيا والظروف الطبيعية (مع عدم المغالاة، كما فعل مونتيسكيو)… وابن خلدون من الأوائل الذين تأملوا في تطور العالم (من معادن إلى النبات، إلى الحيوان، فالإنسان)، وكان ذلك في القرن 14 م قبل ظهور نظرية “داروين” بما يقارب خمسة قرون… (4)
يركز الإسلاميون على الفكرة الدينية في متن ابن خلدون، فذلك مما يبرر وجودهم ويجعلهم أكثر تعلقا بما يؤمنون به ويستهدون به في عملهم السياسي والاجتماعي والثقافي والدعوي… العصبية الدينية أوثق من مثيلتها العرقية، والأصل: “دعوها فإنها منتنة”. الدين له دور في التاريخ، كل التاريخ ومنه التاريخ “الإسلامي”. “الوضعانية” ليست منهجا خلدونيا، لأن ابن خلدون يرفض كل النظم والنتائج والأحكام والمعارف ذات الصلة المنقطعة بالله… (5)
وفقهاء الشريعة يقرؤون “المقدمة” بمنطق من يبحث عن: الغاية من الخلق والعمران. يبحثون في سيرة ابن خلدون العلمية، ويفاخرون بدراسته (على فقهاء تونس، وعلى الآبلي الذي درسه الأصول والعلوم العقلية) وتدريسه للعلوم الشرعية وتلخيصه “المحصول” في أصول الفقه (كتاب ألفه الفخر الرازي) وحديثه عن العلوم الشرعية في “مقدمته”… يقفون عند الآيات التي يستشهد بها أو يستأنس بها، متأملين متدبرين رابطين بين قواعد العمران ومقاصد الشريعة…. يبحثون عن خصائص المتصوف فيه، فيجدون ضالتهم في معتكفه بقلعة “بني سلامة”… (6)
2-إشكالية الدراسة
كل هؤلاء وغيرهم، بحثوا في سيرة ابن خلدون وفكره. وليس مقصدنا هنا أن نعرف ما قيل عن ابن خلدون في كل كتاب، وإنما مرادنا هو البحث عنه في كتب الماركسيين العرب.
لماذا اهتموا به أكثر من غيره؟ وكيف درسوا متنه؟
هل تناولوا تراثه علميا أم اكتفوا باستحضاره وتأويله في سياق معاركهم الإيديولوجية الطاحنة مع تقليد السلطة و”تخلف” مكونات المجتمع (في نظرهم بالطبع)؟
ما سر اهتمام هؤلاء المفكرين الماركسيين الكبار أمثال: عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وعلي أومليل، وبنسالم حميش، ومهدي عامل، وعبد السلام الموذن، وأحمد صادق سعد، محمود إسماعيل، وهشام غصيب، وعبد الصمد بلكبير، وعزيز العظمة، والطاهر عبد الله… قلت: ما سر اهتمام هؤلاء جميعا بابن خلدون؟
ما سر اهتمامهم به وهو:
– المؤمن بالله.
– المدافع عن الروح.
– المستشهد بالقرآن الكريم.
– المؤيد لمنهج المحدثين في التأريخ.
– الخائف على القرآن من تطور اللغة العربية مع مرور الزمن.
– المعتبر لقيمة العصبية الدينية.
– المفاخر بالعلوم الإسلامية…؟
أسئلة وغيرها، سنحاول الإجابة عنها في سلسلة مقالات ارتأينا أن نعنونها بعنوان: “ابن خلدون ماركسيا: البحث في أسباب اهتمام الماركسيين العرب بابن خلدون”.
لم يتناول كل الماركسيين العرب المتن الخلدوني كمادة بشكل أساسي، ولكنهم كانوا في العلاقة به أصنافا. فمنهم من لم يهتم به إلا قليلا، ومنهم من درسه واستشهد به بشكل عرضي هنا وهناك، ومنهم من أفرده بكتاب أو كتابين أو دراسة خاصة به.
3-أصناف الماركسيين العرب في علاقتهم بابن خلدون
في الصنف الأول: من لم يهتم بابن خلدون إلا قليلا
أمثال هؤلاء كثر، ومنهم: صادق جلال العظم، ومحمود أمين العالم، وياسين الحافظ، وإلياس مرقص، وعزيز بلال، وأحمد الغرباوي، وسمير أمين، والعفيف الأخضر، وبندلي الجوزي، فلاح أمين الرهيمي…
في الصنف الثاني: من درس المتن الخلدوني واستشهد به بشكل عرضي هنا وهناك
من هؤلاء نذكر:
– خليل عبد الكريم: في كتاب “قريش: من القبيلة إلى الدولة المركزية”…
– أحمد صادق سعد: في كتاب “في ضوء النمط الآسيوي للإنتاج”…
– عبد السلام الموذن: في بعض دراساته ومقالاته، منها: مقالته المطولة “الموقف من التراث”، ودراسته “الوعي التاريخي القومي” (7)…
– سلامة كيلة: في كتابيه “الإسلام في سياقه التاريخي” و”التاريخ كصيرورة: أنماط الإنتاج في التاريخ العالمي/نقد النظرية الماركسية حول أنماط الإنتاج”…
– ياسين بوعلي: في كتابه “ينابيع الثقافة”…
– حنا بطاطو: في كتابيه “فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم” و”العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية…
– هادي العلوي: في كتابه “فصول من تاريخ الإسلام السياسي”…
– هشام غصيب: في كتابه “هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري”…
– عبد الصمد بلكبير: في كتابه “شعر الملحون: الظاهرة ودلالاتها”…
في الصنف الثالث: من أفرد ابن خلدون بكتاب مستقل أو دراسة مستقلة
من هؤلاء نذكر:
– عبد الله العروي: من خلال دراسته “ابن خلدون وماكيافللي” وكتبه التالية: “مجمل تاريخ المغرب”، و”مفهوم الدولة”، و”مفهوم التاريخ”… وغيرها.
– محمد عابد الجابري: من خلال كتبه: “فكر بن خلدون العصبية والدولة”، و”مواقف: الواقع العربي بعيون ابن خلدون”، ومشروع “نقد العقل العربي”… وغيرها.
– بنسالم حميش: من خلال كتبه: “التراكم السلبي والعلم النافع: عن قراء ابن خلدون”، و”الخلدونية في ضوء فلسفة التاريخ”، “عن سيرتي: ابن بطوطة وابن خلدون”… ومن خلال روايته “العلامة”.
– رضا الزواري: من خلال كتابه “فلسفة ابن خلدون”…
– عزيز العظمة: من خلال كتابيه: “ابن خلدون”، و”العرب والبرابرة: المسلمون والحضارات الأخرى”…
– مهدي عامل: من خلال كتابه “في علمية الفكر الخلدوني”…
– محمود إسماعيل: من خلال كتبه: “هل انتهت أسطورة ابن خلدون؟”، و”سوسيولوجيا الفكر الإسلامي”، و”دراسات في الفكر والتاريخ الإسلامي”…
– علي أومليل: من خلال كتابه “الخطاب التاريخي: دراسة منهجية ابن خلدون”…
– الطاهر عبد الله: من خلال كتابه “نظرية الثورة: من ابن خلدون إلى ماركس”…
4-ويعود الباحث إلى شوقه
لقد كانت هذه التفاصيل بمثابة خطة أولية لبداية الكتابة والاستمرار في بحث بدأ منذ سنتين وزيادة، لمّا كانت البدايات مع علي الوردي في “منطق ابن خلدون” فانطلقت بلا توقف لمدة سنة مع محمد عابد الجابري وبنسالم حميش وطه حسين وساطع الحصري وعلي عبد الواحد وافي… وفي السنة الموالية، توقف صاحب الشوق -إلى “عبقرية تاريخية اجتماعية” تجاوزت عصرها-عن تفقد أحوال “المقدمة وما كُتِب حولها”. سنة وزيادة أخرى، قضاها الباحث عن ضالته في قراءة الماركسية والتلذذ بأفكار ومواقف وتفاسير روادها العرب. واليوم، تضع “الخلدونية” يدها في يد “الماركسية” باحثة عن الأسباب التي حملت هذه على اعتمادها في واقع عربي تفتك به: التجزئة والتخلف والاستعمار (بعد أن كان عسكريا أصبح جديدا) والرجعية نظريا وعمليا والتبيعة الاقتصادية للرأسمال الأجنبي…
ليس هذا البحث بالأمر الهين، ولكننا سنخوض هذه المغامرة علّنا نحصل منها على شيء.
هذا، وقد يقول قائل: “وما دور هذه العودة إلى الماضي في زمننا الحاضر؟”.
ونحن نجيب: تمهّل، فإن الحاضر ينتعش بين أحضان الماضي بشكل غير متوقع. تمهّل، فإن الماضي المُستعار هو ما نحن في حاجة إليه. الجدل، الواقعية، التاريخ، العلم، الإيديولوجيا، المجتمع، الأخلاق، النفس، الإنسان، اللغة، الحكم/السياسة، المنهج، الاقتصاد، الثقافة، الغزو/الاستعمار، الدين… كلها مفاهيم تطلب أصحاب النظر المهتمين بالعمل، وكلها مفاهيم لن تخلو هذا الدراسة من تحديدها باستحضار: “المتن الخلدوني” و”الهم الماركسي في الواقع العربي”.
الهوامش:
(1): بنسالم حميش، التراكم السلبي والعلم النافع: عن قراء ابن خلدون، أفريقيا الشرق، الطبعة الأولى، 2001.
(2): طه حسين، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية: تحليل ونقد، ترجمة محمد عبد الله عنان، 2006، الصفحات: من ص 55 إلى ص 111.
(3): علي الوردي، منطق ابن خلدون: في ضوء حضارته وشخصيته، دار كوفان، الطبعة الثانية، 1994.
(4): راجع: “دراسات عن مقدمة ابن خلدون”، لساطع الحصري.
(5): راجع: “فلسفة التاريخ”، لجاسم سلطان. وكذلك: عماد الدين خليل، ابن خلدون إسلاميا، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1983.
(6): راجع سلسلة دروس، يشرح فيها مصطفى البحياوي “مقدمة ابن خلدون”.
(7): لا يتناول عبد السلام الموذن في هذه الدراسة ابن خلدون، ولكن دلالات الاستفادة منه كامنة فيها. إنها كامنة في الدراسة، وتصبح أكثر وضوحا باعتماد مقالته المذكورة.