يرتبط مصير التاريخ ارتباطا وثيقا بحماية التراث، فالعناصر المادية واللامادية للماضي تشكل بوصلتنا نحو الحاضر والمستقبل. إن إعادة بناء الصلة بين الأجيال وتراثها ليست ترفا ولا نزعة أصولية غير مبررة، بل هي ضرورة ملحة للحفاظ على الهوية الثقافية. تطرح الرقمنة المتسارعة تحديات جديدة أمام حماية التراث وإحيائه. فبينما تساهم التكنولوجيا الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في نشر التراث وتسهيل الوصول إليه، فإنها تطرح إشكالات تجعلنا نتساؤل حول طبيعة التراث ومدى ملاءمة البيئة الرقمية لحفظه.
ذلك أن طبيعة التراث تتميز ببعد زماني وبصمة جغرافية، حيث يرتبط ارتباطا وثيقا بالأجيال المتعاقبة وبالمكان الذي نشأ فيه. في المقابل، تتميز البيئة الرقمية العابرة للحدود بالسرعة والتغير، مما يثير تساؤلات حول قدرتها على الحفاظ على الأبعاد الزماكانية للتراث. فهل بإمكان الفضاء الرقمي أن يكون أداة فعالة في استعادة التراث المهدد بالاندثار وحماية الممارسة التراثية؟ ما خصائص التراث وما خصائص العالم الرقمي؟ وهل يمكن أن تولد بيئة رقمية تراثا؟
مفهوم التراث وخصوصياته
إن التنوع المفهومي للتراث يتطلب أن نقف عند تحديد أيه المقصود في هذه المقالة، وذلك بالعودة إلى الدلالات اللغوية. فكلمة التراث في اللغة العربية مشتقة من فعل “وَرَثَ”، أي ما يكسبه المرء من سلفه إذا مات، وفعله المزيد “أورث”، أورث بنيه: أي ما يُخَلفه الهالك لورثته من متاع، فيقال له الوِرْث والوَرْث أو الإِرْث والوِرَاثُ والإِرَاثُ والتُراث[1]. وإنما التاءُ في الأخيرة بدل من الواو، فكل ما يبقى بعد الفناء هو تراث. وقد ذكر الجابري أن لفظة التراث كانت الأقل تداولا عند العرب قبل القرن العشرين، من بين الألفاظ الأخرى الدالة على نفس المعنى. فشاع لدى الفقهاء استخدام كلمة (ميراث) في باب الفرائض، أما لفظ (تراث) فلا نكاد نعثر له على أثر في خطابهم. وأما في الحقول المعرفية العربية والإسلامية الأخرى مثل الأدب وعلم الكلام والفلسفة، فلا تحظى فيها كلمة تراث بأي وضع خاص، بل إننا لا نكاد نعثر لها على ذكر.”
ولعل ذلك يعود إلى أنها قد وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في سياق توبيخ الله تعالى للذين يخلطون أموالهم مع مال اليتيم، يلمونه لما ويأكلون حقهم فيه، “(كلاَّ بل لا تُكرِمونَ اليتيمَ ولا تَحَاضُّون علىٰ طعامِ المسْكين، وتأْكلون التُّرَاثَ أكلا لَمّـا، وتُحبون المال حبا جَمّا)”[2]. مع العلم أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يقصر في أحاديثه على أن الإرث هو ما تعين من متاع مادي فقط، وكمثال على ذلك ما جاء في الأثر عن يزيد بن شيبان الأزدي إذ قال: “أتانا ابنُ مِربَعٍ الأنصاري ونحن بعَرَفةَ في مَكانٍ يباعِدُه عمرٌو عنِ الإمامِ، فقالَ أمَا إنِّي رسولُ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم إليكم، يقولُ لَكم: “قِفوا على مشاعِرِكُم فإنَّكم على إرثٍ من إرثِ أبيكم إبراهيمَ[3]“. هذا التوجيه النبوي يحمل مدلولا كيفيا وعاطفيا لمفهوم “الإرث” تماما كالذي نتداوله في عصرنا هذا. أي ذاك الثراء المعنوي والروحي المحمول في مادة عينية أو مكانية أو زمانية ذات قيمة معينة، يتم تناقلها من جيل لآخر، وبالتالي فإن الإرث أو الميراث أو التراث سيان.
ويمكننا استخلاص صفات التراث وخاصياته من خلال معاني المصادر والأفعال المشتقة: ف “رثأ” هي الضم والخلط، و”أرث” “تأريثا” النار أذكاها وقدحها، و “رَث” “رثاثة” هي اهتراء وإتلاف من كثرة الاستعمال، “رثى” “رثاء” ذكر محاسن الميت، وغير ذلك. كلمات عديدة يمكن أن تدل على خاصيات التراث ومحدداته. فنقول إن التراث هو: إرث عن الآباء قد يكون ماديا أو غير مادي، هو بال وعتيق يتم إذكاؤه وتجديده، عندما يضمه ويخلطه الورثة مع ممتلكاتهم ويحيون به في معاشهم فَيُؤبدون محاسنه، ويهملون منه ما لاينفعهم، فلا يطاله التغيير سريعا، وهو عصي على الانتقال القسري لأماكن أخرى ما لم يكن ذلك بالتوارث.
وإذا كان من مقتضيات العصر الحديث الانخراط الشامل في العالم الرقمي الذي تم تشييده في العقود الأخيرة، والسعي إلى جعله فضاء إنسانيا يضم مختلف الأوضاع البشرية من عمل وفعل وخطاب، فلا بد من الوقوف على الخصائص التي تجعل التراث تراثا، وعلى خصائص العالم الرقمي، لنرى مدى إمكانية تحقيق استدامةٍ للتراث في هذا العالم المستجد.
ديمومة التراث
في سعينا لتحقيق استدامة التراث، نتوقف عند مفهوم الديمومة كما قدمها هنري برغسون، إذ يمنحنا القدرة على تمييز وجود الإنسان في الزمن. يمكننا القول إن الوجود إما أن يكون في زمن مرتبط بمكان له إحداثيات محددة، مما يجعل الوجود ثابتا في هذا الزمكان الفيزيائي، أو يتجاوز ذلك إلى حالة شعورية تتحقق من خلال المعاناة وتنساب في حياة الروح. وعند تفكيك التراث وقراءته أو نسخه أو نقده أو تطويره وفق عمليات عقلية ومنطقية، نجد أن ذلك يتم بخفة قاتلة تفقد التراث جوهره الروحي. ما يمنح التراث الحياة هو قدرته على حمل الروح، روح الأسلاف الكامنة في المشاعر التي تتولد في النفس عند استلام الإرث كهبة مقدسة تتجاوز الطبيعة. يمنح السلف كينونة مفترضة بشكل مسبق للأجيال اللاحقة من خلال التراث والذاكرة، مما يشكل لهم بنية وجودية تتحقق فيها الذات بشكل طوعي أو قسري. إن تحقيق الذات الإنسانية يعد معقدا للعقل الذي يعيش في آنيته الموضوعية، لذا يربط الإنسان علاقته بالماضي بطريقة معينة. وعند محاولة العقل استعادة الماضي، فإنه يستعيده في صورة مفككة، ولا يمكنه الإحاطة الكاملة بتحقق الذات إلا إذا أدرك الإنسان ذاته من خلال فهم منبثق من حدس عاطفي وروحاني. وجود الإنسان، لا يُحسم إلا بواسطة “الدّازين”؛ فالوجود لا يُصفى إلا عبر فعل الوجود ذاته[4]. الديمومة إذًا هي الحياة بشكل خاص في الزمن الحي، والتراث الحي متجاوز للزمن الفيزيائي.
ينقسم المنتَج التراثي إلى قسمين: منتج مادي صرف ومنتج غير مادي. المنتج المادي هو ما نحمل أثره بأيدينا، ويستطيع الصمود أمام عوامل التعرية بناءً على طبيعة المادة وأساليب الرعاية، ويجعل من العالم مكانا مألوفا ومهيئا للعيش. أما المنتج اللامادي فهو أثر الفكر، تحميه اللغة، وتنتقل منتجاته عبر الخبرات، وأساليب الحياة، والذاكرة، والحكمة. تلعب الممارسة، سواء كانت فردية أو جماعية، دور الحامي للتراث اللامادي، إذ تعد شكلا من أشكال التجسيد. ترى حنة أرندت أن كامل العالم الواقعي للشؤون البشرية يعتمد من أجل واقعيته ومن أجل مواصلة الوجود، أولا على حضور الآخرين الذين رأوا واستمعوا وسيتذكرون، وثانيا على تحوُلِ غيرِ الملموسِ إلى أشياءَ ملموسة.[5]
النقطة المحورية في هذا السياق هي أن التجربة الأولية للعالم تشكل الموجودات كما هي في العالم، والعلاقة التي تنشأ من السرد والرواية والتعاقب تعزز تلك التجارب والممارسات وتَمُد في أجلها وتخلدها. ومع ذلك، في العالم الرقمي، تتحول هذه العلاقة إلى تجربة فورية يتم استهلاكها أثناء العرض، حيث يتم تقييم الأداء والإنجاز بوتيرة سريعة لتختفي التجربة بعدها. غير مبالية بالرغبة الدفينة للانسان في الخلود وإبداعه في مراوغة حتمية الموت.
خصائص العالم الرقمي
النهج الرقمي يعتمد على آلية الجمع والإضافة والمشاركة، ويطالب بالشفافية، وهي ليست مجرد مشاركة معلومات و تداول لها بحرية، بل تعني انكشافا واسع النطاق ينذر بتحول في النموذج الإرشادي للوجود، حيث تتحول بمرور الوقت إلى مطالب معيارية تحدد ما يجب أن يكون عليه الشيء. العالم الرقمي يعيد تعريف الوجود بطريقة جديدة، محولا الزمن إلى عامل مجرد من العوامل الطبيعية والمحددات الجغرافية، ويسهل قياسه بدقة فائقة تصل إلى أجزاء أجزاء الثانية، مما يعزز من تعاليه عن الطبيعة، ويسمح بتوحيده وتغييره وفق الحاجة.
الزمن الرقمي لا يتبع نمطا محددا في الحركة، مما يجعل حركة الأفراد فيه حرة في جميع الاتجاهات، مستخدمين أدوات تعمل كامتداد للحواس. ومع ذلك، ولأن هذه الأدوات بمثابة امتداد للحواس، فإنها تفشل في الإمساك بالتجربة الحية سواء كانت ماضية أو حاضرة. وبناءً عليه، فإن أول ما يقوم به العالم الرقمي هو إزالة الطابع الزمني للحياة، مشابها بذلك نجاح الرأسمالية في إزاحة الزمن الأسمى من تصورات المجتمع اليومية، كما أزاحت العلمانية الماضي عن الحداثة.
التجريد من المناسباتية
هو أحد التحديات الكبرى التي يواجهها التراث في العصر الرقمي. عندما يُفصل التراث عن السياقات التي أوجدته، يفقد جزءا كبيرا من قيمته ومعناه، ويظهر بشكل فوري وفوضوي يفتقر إلى العمق والتوقير. هذا الفصل عن النسق الثقافي يؤدي إلى ابتذال التراث، حيث يصبح عرضة للاستخدام السريع وردود الفعل المندفعة. يصبح الأثر انفعاليا وسريعا الزوال[6]، مما يجعل حضور التراث استعراضيا وخاليا من الغايات، ويدخل المتلقي في دائرة الفراغ والاغتراب الثقافي. كما أن الممارسات الثقافية المرتبطة بالأمور الحميمية والفضاءات الخاصة. في العالم الرقمي، تصبح هذه الممارسات مشاعا ويُكشف عنها في كافة السياقات، ما يؤدي إلى تجرُدها من الاحترام والحشمة.
إسقاط الوقار
تُعرض القطع التراثية في العالم الرقمي دون إشراف من الأشخاص الأكثر أهلية -كما جرت العادة في العالم المعيش-، مما يؤدي إلى نقلها عبر عمليات المشاركة الشيوعية دون مراعاة التسلسل الهرمي أو التراتبية الضرورية. هذا الانقطاع يُخل بالسلسلة التي تضمن انتقال التراث بأمانة عبر الأجيال. عندما يحصل الأفراد على القطع التراثية بشكل عشوائي، فإنهم غالبا لن يدركوا قيمتها أو يفتقرون إلى الكفاءة اللازمة للتعامل معها، مما يؤدي إلى تداول غير منظم يفكك التسلسل الهرمي ويضعف الهيمنة الرمزية لهذه القطع. ينتج ذلك تساويا بين الناقل والمتلقي، ويؤدي إلى تراجع القدرة التنظيمية والثقافية للتراث، ما يسهم في خلق فوضى وتشويش تعيقه عن أداء دوره في الحفاظ على الرسالة الثقافية.
هذا النمط من الانتهاك يصل إلى حد المساس بالمقدسات، فلطالما أحاطت الأماكن المقدسة نفسها بزمن كثيف ومحدد يصنع هالتها، أو بحجب وأستار، وأبواب وسلالم تحفظها من الانكشاف أو الوصول إليها بغير ميعاد أو عتاد، فالزائر يقصدها في رحلة إيمانية. أما في العالم الرقمي، فتنكشف هذه المقدسات بشكل غير متحكم فيه، فهل ينال ذلك منها شيء.
العزل عن العالم المعيش
“إن الحاضر محكوم بفقر التجربة، ولكن ذلك لا يعني خلوه من التجارب بل يمكن أن يكون الحاضر مشبعا بها لدرجة أنه قد يصعب علينا سرد ما كنا نتذكره. يمكن أن نقول على هذا النحو بأن صدمة التجارب المعاشة غير كافية لتشكيل التجربة وعلاوة على ذلك فإن الصور التي فقدت طابعها الحسي وانتزعت من سياقاتها لهي دليل صارخ على ذلك.”[7]
لا يختلف تقييم أثر الوتيرة المتسارعة لتشارك القطع التراثية في العالم الرقمي عن تأثير السرعة على المادة. إذ تؤدي إلى ارتفاع حركة جزيئات المادة، ما يزيد من طاقتها الحركية ودرجة حرارتها، وقد يؤدي ذلك إلى تغييرات في حالتها الفيزيائية كالذوبان أو التبخر. بشكل مماثل، يتعرض التراث في العالم الرقمي ذو الوتيرة المتسارعة إلى “احتراق” أو “ذوبان” رمزي، حيث يُفقد معناه الأصلي وسياقه بفعل الانتقال السريع والمشاركة الفورية التي تنزع عنه هالته. فهم سرعة التقدم التكنولوجي والقدرة على إيجاد مساحة للتباطؤ تعد بمثابة الملاذ الآمن للحفاظ على التراث كتراث. لأن التراث يحيى بالتوارث والتجديد، وإذا لم يُسمح له بالتجدد وفق العمليات الحسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإنه سيتعرض للانتقاص والاندثار.
لذا لا يمكن أن يكون العالم الرقمي الملاذ الآمن للتراث، إنما يمكن أن يراكم تراثا رقميا اصيلا بخصائصه الفريدة من التفاعلية والديناميكية والوصولية العالية والعولمية، يمثل شكلا جديدا من أشكال “التراث”، يتطور وفقًا لقوانينه الخاصة، وبالتالي، فإن التراث الرقمي ليس مجرد نسخة رقمية للتراث المادي، بل هو منتوج جديد، يساهم في تشكيل هويتنا الثقافية من بعد آخر.
لقد استطاع الإنسان أن يتغلب على غربة وجوده في العالم بصناعة اللغة والأشياء، واستطاع أن يؤثث بهما عالمه ليصبح أكثر ألفة وملاءمة. التفكير والكلام والفعل يصنعون حيزاً في العالم من خلال الوقائع والأحداث. ومع ذلك، في عالم يتجه بشكل متزايد نحو الاعتماد على التقنية، تصبح احتمالية القطيعة مع التراث التقليدي واردة، خاصة في ظل الانعطافة الكبيرة التي يشهدها الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، مما سيؤثر بوضوح على أنماط حياة الأفراد والمجتمعات.
في ظل هذه التحولات، قد يُختزل التراث إلى مجرد سلعة مادية بحتة، مما يهدد بتقلصه أو اندثار أصناف عديدة منه. إلا أن التراث، حتى بغياب قيمته السوقية، يبقى ذو قيمة ذاتية ومصدر فخر للأجيال. إذ يحمل في طياته سرداً للهوية المشتركة وتاريخاً للأمة، مما يجعله مكوّناً حيوياً في كينونتنا. الحفاظ على التراث يتطلب وعياً جماعياً ورغبة في صونه، ليس فقط كذكرى، بل كتجربة حية تواصل الربط بين الماضي والحاضر في انسجام مستدام.
الهوامش
[1] – لسان العرب – ابن منظور – ج 2 – الصفحة 200
[2] – قرآن كريم – سورة الفجر – الآيات [ 17 – 18 – 19- 20]
[3] -سنن أبي داود – كتاب المناسك، باب موضع الوقوف بعرفة – حديث رقم 1919
[4] -مارتن هيدجر- الكينونة والزمان ترجمة فتحي المسكيني الناشر: دار الكتاب الجديد- الطبعة الأولى 2018 صفحة 64
[5] – حنة آرنت – الوضع البشري -ترجمة هادية العرقي- الناشر: جداول للنشر والترجمة والتوزيع – الطبعة الأولى 2015
صفحة 117
[6] – بيونغ تشول هان – من داخل السرب – ترجمة بدر الدين مصطفى الناشر: دار معنى الطبعة الأولى 2021 صفحة 22
[7] – كمال بومنير – التسارع، الاغتراب، والتصادي، قراءات في فكر هارتمورت روزا. صفحة 109