إن الحضور الطاغي للدولة في شتى مناحي الحياة، واضمحلال الحلم بالوصول إلى السعادة عبرها في ذات الآن، جعل المهتمين بالنقد السياسي والاجتماعي والفلسفي يتوجه للنظريات المتسمة بالتكاملية والنضج، في إهمال واضح لأشكال النقد الأخرى، التي لم تنتظم في مدارس معينة ولم تجد لها صيغا للحضور الأكاديمي. وتعتبر الأناركية إحدى هذه الاتجاهات النقدية بل تتجاوز النقدية كموقع لها نحو كونها فلسفة كونية، لكنها لم تستطع إثبات قوتها بالانتظام في النسق الكلاسيكي للمدارس النقدية والفلسفية، وعانت من التهميش والتجاهل وسوء الفهم. لذا فإن اقترابنا لإزالة اللبس عن فهمنا للأناركية ربما هو عائد لذلك التشابه فيما ما ينطوي عليه التهميش والإقصاء من خطورةٍ تأتي على تضييع بلوغ معنى الحياة ومفاتيح عيشها بكرامة، فقط لانواجدنا في ضفة أخرى، أو لموقعنا في زاوية الالتباس أو في مقام عدم الاكتمال.
يعتبر كتاب الأناركية من النظرية إلى التطبيق لمؤلفه الفرنسي دانييل غيران، من أهم مراجع الفكر الأناركي وسيرورته العملية، ويعزز هذا الموقف، المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي من خلال شهادته ومساهمته في تصدير هذا الكتاب الذي صدر قبل ما يزيد عن سبعة عقود، ولم ينقل إلى العربية إلا في عام 2014 على يد المترجمة عومرية سلطاني، ونشرته دار التنوير، كالتزام معهود منها بطرح القضايا التي تحتاجها الساحة العربية، و وضع المتون الملائمة لها على طاولة القارئ العربي.
كما أن مشاركة البروفيسور نعوم تشومسكي في تصدير الكتاب وهو أحد الأناركيين المعاصرين، شكلت عامل جذب للمترجم، إضافة لدوافع تتعلق بتطورات الساحة العربية بعد انطلاق انتفاضات الربيع العربي، فجاءت هذه النسخة حاملة لهم ضحد الالتباس عن الأناركية، وفهم سيرورة الثورات ومآلاتها.
تصدير نعوم تشومسكي
على الرغم من إشادة البروفسور نعوم تشومسكي بجهود دانييل غيران في تأليف هذا العمل، إلا أنه يعترف بحجم الصعوبة والتحدي في ضبط ما هو أناركي فكرا وممارسة، وباستحالة الحديث عن نظرية عامة، ذلك أن “ثمة أنماطا عدة من الفكر ومن الممارسة يشار إليها بوصفها أنماطا أناركية،الأمر الذي يجعل محاولة جمع كل هذه الاتجاهات المتصارعة في نظرية عامة أو في أيديولوجية إعجازا ميؤوسا منه. وحتى لو واصلنا محاولين تجريد تقليد حي ومتطور من تاريخ الفكر الليبرتاري ، کما فعل دانيال غيران في كتابه هذا ؛ سيظل من الصعوبة بمكان صياغة عقائدها في نظرية محددة ومعينة للمجتمع وللتغيير الاجتماعي.”[1]
فما الفائدة من الاهتمام بتوجه لا يمتلك صورة كاملة لذاته، ولا ينتهي إلى تقديم إجابة وحلول لمعضلاتنا؟
إن مجرد وجود اتجاه معين يعمل على التشكيك في المذاهب الشمولية المدعية للكمال، وتفكيك المقولات الجاهزة، حري بنا الالتفات إليه والإنصات لتحذيراته. سيما وأن الأناركية كفاح للانعتاق من أشكال الاستبداد والقمع، وسعي لتحرير الفرد والمجتمع من كل وصاية أو قيد.
في هذا المسعى، يَبرُز التردد والخلاف بين الاشتراكيين حول قبول سلطة دون أخرى أو تدميرها نهائيا، وحول أسبقية الثورة السياسية أو الاقتصادية، وأسلوب إدارة الإنتاج والتوزيع والامتلاك. كلها قضايا طرحت على مدار قرن وما فتئت عند كل مناسبة، أن يتفتق عنها تيار جديد، الأمر الذي أضعف فرص قيام ثورة ديمقراطية تحتضن كل النزوعات “الانسانوية” التي يطمح إليها الاشتراكيون.
يرى تشومسكي أنه على الرغم من أن فرص الثورة في النجاح بهذه الهشاشة، إلا أن هناك شيئا عظيما يجعلنا نقدر الاشتراكية الليبرتارية، إنها “الحرية” ولا شيء أسمى منها. مقتبسا رؤية باكونين للحرية إذ يقول على لسانه: “أنا عاشق متعصب للحرية، وأعتبرها الشرط الأوحد لتطور ونمو الذكاء والكرامة والسعادة الإنسانية… ولا أقصد الحرية الشكلية المحضة ، التي تقيسها الدولة… ولا أقصد بها الحرية الفردانية والأنانية الناقصة والخيالية… التي تبشر بها مدارس الليبرالية البرجوازية… ليس ذلك كله ما أردت ، وإنما قصدت النمط الوحيد من الحرية ، الجدير بهذا الاسم ؛ والذي يقوم على التطور الكامل لكل القوى الفكرية والمادية والأخلاقية الكامنة في كل فرد ؛ الحرية التي لا تعترف بقيود سوى تلك التي تحددها قوانين طبيعتنا الفردية ، والتي لا يمكن اعتبارها قيودا ؛ طالما لا يفرضها أي مشرع متجاوز لنا ، لكنها قيود جوهرية وكامنة، وتشكل الأساس الأعمق لوجودنا الفكري والمادي والأخلاقي، إنها لا تقيدنا؛ بل تمثل الشروط الحقيقية والآنية لحريتنا”[2].
يعتبر تشومسكي أن الحرية هذه، هي إرث التنوير الحقيقي الذي تحمله الأناركية، هي الجذوة التي أشعلها روسو، وأطلق سراحها همبولت، وأصر عليها كانط وهو يدافع عن الثورة الفرنسية، هي التي كتب لها الليبراليون الأوائل كجون ستيوارت ميل فسُطِّحت أفكارهم لتتحول إلى أيديولوجية للرأسمالية الصناعية. الحرية التي انطلق من أجلها ماركس الشاب، الحرية التي تسبق النضج وبه تكتمل. لقد كانت الاشتراكية الليبرتارية هي التي حفظت ونشرت رسالة الاستنارة الهيومانية الراديكالية وحفظت جوهر المثل الليبيرالية الكلاسيكية.
“كثيرًا ما يُطلب منّي ترشيح قراءات في موضوع الاشتراكيّة الليبرتاريّة (الأناركيّة)، تنظيرًا وتطبيقًا. وهذا الكتاب هو الذي لا أفتأ أرشِّحُهُ في كُلّ وقت. فلا مثيل لتغطيته ولا لرؤيته التحليليّة ” نعوم تشومسكي
يستطيع المقبل على قراءة هذا الكتاب، أن يدرك من خلال اسم صاحبه وباعتباره ناشطا سياسيا ومناصرا لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ومناهضا للنازية والفاشية والكولونيالية، وعلاقاته مع عديد من الشيوعيين والماركسيين، أنه بصدد عمل متفتق عن مثقف عضوي، وأن تنظيره وتحليله يحمل روح الأناركية وحقائقها التاريخية على لسان الكثير من المنظرين والمناضلين أمثال برودون، باكونين، ماكس شتينر، كروبوتيكين، مالاتيسا وآخرين. وقد جاء متنه الرئيسي في ثلاثة أقسام – بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة-: أولها الأفكار الرئيسية للأناركية، ثانيها، البحث عن مجتمع جديد، وثالثها الأناركية في الممارسة الثورية.
الأفكار الأساسية للأناركية
يطرح الكتاب في قسمه الأول الأفكار الرئيسية للأناركية ابتداء بكشف الصلة بين الملفوظ والمفهوم، وما صاحب إنتاجه عند مؤسسيه من تردد وصراع؛ فكان استعمال لفظة “الأناركية” بمعناها الذي يحيل إلى الفوضى في خضم انفعالات جدالية ليس أكثر، إذ كان المعنى ابتداءً هو غياب الحكومة والسلطة فقط، مقابل التعويل على الأصل الخيّر والحر للفرد، وقوة التضامن بين أفراد المجتمع. ولأن المتوقع الشائع في حالة غياب الحكومة هو عموم الفوضى، فقد التبست المعاني على نحو يضر بالمقصود، لكن سرعان ما انتهى المطاف ببرودون مثلا إلى اعتبار نفسه اتحاديا وأتباعه اعتبروا أنفسهم جماعاتيين أو شيوعيين ومن بعدَهم ليبرتاريين.
لقد عكس هذا التخبط الاصطلاحي عجزا في التعبير عن الحقيقة السياسية لهذا التيار، لكن يمكن التسليم بأن الأناركية “تيار فكري اشتراكي، غايته إنهاء استغلال الانسان للأخيه الانسان، هاجسه الحرية المطلقة والتوق لإزالة الدولة.”[3] مع ضرورة احترام التمايز بين الاشتراكيين فــ”كل أناركي اشتراكي، لكن ليس كل اشتراكي أناركي، فالأناركيون هم الاشتراكيون الأكثر أصالة واتساقا مع أفكارهم ومبادئهم”.[4]
يتلبَّس الأناركيون الحرية، ويخوضون بها الجدال والنقد، ويكسرون القيود والحدود التي يفرضها المتسلطون سواء كانوا رجال دين أو سياسة أو أغنياء. مزاجهم ثوري دائم، وضميرهم حي يقظ يدفعهم للدفاع عن المظلومين والمنبوذين، عن العمال وعن الخارجين عن القانون والمتمردين على النظم والقواعد.
يستعرض غيرين مواقف الأناركيين من الدولة، فهي في نظرهم تجسيد لاستبداد فرد أو طبقة، ولذلك فعداؤها عقيدة يتبناه الجميع. غير أن هناك من يبرر وجودها في مراحل محددة، لذلك ستظل في نظر الأناركيين المخلصين الوهم الذي يفترس أحلام الشعب، والانسان الحر يستطيع التخلص من أوهامه، وأكبر وهم هو الاعتقاد بأن لا صلاح ومصلحة للمجتمع من دونها. إنها بلا شك قادرة على ابتلاع كل الطموحات والطاقات الحية، تكبر باستمرار، ويزداد تضخم المركزية، ما يجعل السلم الاجتماعي غير ممكن، فكل شيء في هرم السلطة إلى أدنى مستوى لها تعيث فيه الفوضى ويحتاج إلى تقويم، وكل ما يتاح لها من مقدرات يستخدم كأداة استبداد.
حتى آلية الديمقراطية التمثيلية تصطفي البرجوازية التي تخدم مصالحها وتدعم استمرارية وجود الدولة باسم تمثيل الشعب عبر الاقتراع العام، وما ذلك إلا أكبر خدعة للسلطة الاستبدادية، “فنظرية سيادة الشعب حاملة لتناقض ينفيها، فإذا كان الشعب سيدا فلن يكون هناك حكام ومحكومون، وحين لا يبقى سيد تصبح الدولة رديفا للمجتمع فتنتفي علة وجودها.” [5] سيفعل الأناركيون أي شيء للتخلص من وجودها.
لا يؤمن الأناركي إطلاقا بأن الاقتراع تعبير عن الحرية. لذا كانت مقاطعة التصويت عقيدة وإن كانت نتائجه ثورية، كأن تأتي مثلا بطبقة البروليتاريا. في اعتقاد بأن أي ثورة سياسية ستكون وابلا على الثورة الاجتماعية. لكن لكن موقفا كهذا لا يؤمن به كل الأناركيين، فهناك من يعتبر الاقتراع خيارا تكتيكيا اضطراريا. ويستعرض الكاتب أمثلة لمشاركة أناركين في العملية السياسية وتكوين الأحزاب الثورية. وبالتالي فإن من الطبيعي أن يتجه النقد الأناركي إلى الاشتراكية السلطوية، فهي حتى في حالة الشيوعية لن يكون بمقدورها تحرير الفرد وتخليصه من الاستلاب كاملا، لأنها لا ترى الفرد إلا كعامل منتج، وتابع للجماعة تحت رحمتها، ولا ترى فيه الانسان الحر المستقل، ربما يكون ذلك ممكنا في مرحلة ما بعد الشيوعية. لكن عموما يبقى من وجهة نظر قادة الأناركية الليبرتاريين، أن الاشتراكية السلطوية لا تقيم للفرد قدره، وهي مستعدة للتضحية به من أجل الجماعة. في حين أن كل فرد هو استثنائي بذاته، وهو مصدر من مصادر قوة الأناركية.
يميل الأناركيون إل كونهم فردانيين على نحو خاص، فهم ليسوا بالأنانيين كالبرجوازية، وإنما متحررين من الخضوع للمجال العام دون عدائية أو انتهازية، وكل التزاماتهم نحوه طوعية، وليس على المجتمع أن يفرض على الفرد معايير للانضباط أو العقاب. “إن الحرية هي حق كل كائن بشري في أن يصير ضميره هو المصدر الوحيد للعقوبة على أعماله ، وتكون إرادته هي محدد هذه الأعمال ، ليصبح بالتالي مسئولا أمام نفسه أولا وأخيرا.”[6] فالحرية التي ينالها الفرد لا يمكن إلا أن ينتج عنها الخير والتضامن والسلام، والمفاسد ما هي إلا نتاج التنظيم الفاسد. إنه إيمان عميق بالحرية وخيرية الفرد، واعتقاد بقدرة الحرية على ضمان الأخلاق وليس العكس، لكن الملاحظ هو أن هذه الأفكار تأخذ مناحي متفاوتة بين منظري الأناركية ومناضليها وقد يدفع بها البعض إلى مستويات قصوى.
وبقدر إبمانهم بقوة الفرد، يؤمن الأناركيون بقوة الجماهير، ووعيها الفطري الكامن، الذي يعرب عن نفسه في ثورة لا يحفزها شيء إلا حساسيتها نحو ظروف حياة الشعب. ثورة تنطلق بعفوية تامة بغتة، وبفوضوية محمودة، لتقف في وجه كل سلطة مستبدة دون أي إملاءات من جهات عليا لتخلق أشكالا جديدة للحياة الاجتماعية. قوة الجماهير هذه لا تتصف بالعفوية الفوضوية فقط، بل بروح التنظيم العفوي والتناغم، وهي حالة لا تستطيع الشعوب بلوغها إلا لماما، لكنها تؤشر على أن النظام لا يوجد في أنظمة المكاتب فحسب.
هذا التفاؤل بقوة الجماهير ليس مطلقا، فاستدعاء وجود أقلية ثورية لصياغة الإطار الفكري للثورة يُعلل بعقدة نقص لدى الجماهير، كونها قد ترسخ لديها حاجتُها لحكومات أو أنها تستسهل توكيل شؤونها لأقلية، ما قد يجعل عبودية الطبقات الدنيا حالة مستمرة، لذا فقد ارتأى الأناركيون أهمية وجود مفكرين ثوريين حاملين لذات القضية، يسبق عملهم انتفاضة الجماهير، ومن ثم ستكون الطليعة الثورية قد مارست قيادة طبيعية للجماهير التي تتبنى قضيتها. في خضم ذلك، على الأناركيين أن يكونوا قادة غير مرئيين ومن دون سلطة، يحفزون ويستنهضون الجماهير على تشكيل تنظيم ذاتي من الأسفل إلى الأعلى.
يقف الكاتب على إدراك الأناركيين إشكالية التناقض بين الليبرتارية والعفوية الجماهيرية والطلائع الثورية، وهم بذلك لم يختلفوا عن الاشتراكيين السلطويين. ربما سيترآى للقارئ مشهد يجمع الأناركيين السلطويين والأناركيين الليبرتاريين كما لو أنهم يجلسون معا في قاعةِ انتظارِ تَشكّلِ وعيٍ جماهيري، وتغلغل العلم بالفلسفة والسياسة لدى العامة… ويمرّ الزمن في انتظار فرصة يجود بها التاريخ للتحقق العملي من معتقداتهم!.
في البحث عن مجتمع جديد
بعد أن حدد الكاتب العناصر الرئيسية للفكر الأناركي مستحضرا السجالات التي شكلت وأغنت هذه المفاهيم حتى اتُخِذت كأسس للفكر الأناركي، سيبين لنا نسق استيعاب الأفكار الأناركية، والكامنة في المحطات الكبرى للتاريخ النضالي للانسان ضد الاستبداد، وسيأخذ على عاتقه دحض فكرةَ أَنّ الأناركيةَ تُوبيا[7] لا يمكن تحقيقُها، ويستشهد بلسان الأناركيين بأحداث موجزة مهدت للمجتمع الحديث.
فالانسان منذ زمن سحيق لم يستسلم لمن يصادر حريته، فقد كانت الثورة الفرنسية الصوت القوي الذي رفض سلطة الأرض والسماء على الصعيد السياسي، تبعتها الثورة الصناعية كرفض لسلطة أصحاب المصالح الاقتصادية، إلى أن تشكلت البروليتاريا في المرحلة الاشتراكية. فالأولى لعبت دورا كبيرا في تقويض مبدأ السلطة في وعي الجماهير للأبد ، وأصبح النظام المفروض من أعلى مستحيلا بعدها ، ولم يبق غير تنظيم المجتمع بشكل يمَكِّنُه من العيش بدون حكومة.
تنظيم طبيعي، وليس كما يزعم البعض أن التصور الليبرتاري يعني غياب كل أشكال التنظيم، بل يذهب الأناركيون لوجوب إيجاد المجتمع لتنظيم، يتشكل اجتماعيا بحرية ، ومن أسفل إلى أعلى. ولا يسمح فيه بامتلاك الدولة أو الرأسماليين لوسائل الإنتاج، فالعمال هم من سيسهرون بذواتهم على إدارة العمل عبر جمعيات تذوب فيها الطبقات، وتستعينين بالخبرات التقنية اللازمة. وسيكون بمقدور الجمعيات العمالية تبادل المنتجات والسلع لتغطية كافة الحاجيات الاجتماعية.
تُبقي الأناركية على قيمة المنافسة وتعتبرها حافزا عفويا لا يمكن تعويضه، على أن تكون مؤسسة على روح التبادل العادل وتحفظ المبادرة الفردية وروح التضامن، في انتقاد للاشتراكية السلطوية التي اقتلعت مبدأ المنافسة واعتبرته سببا للفوضى وجشع الرأسمالية، فأدخلها تضييعه حالة من الرتابة وافتقاد الإبداع.
كلما غاصت الأناركية في إيجاد حلول وبدائل إلا ووجدت نفسها أمام مجموعة من الوحدات المتفرقة، التي ستحتاج إلى تنظيم مركزي يضع المخططات لإحداث التناغم بينها إلى أن تشكل البشرية اتحادا اقتصاديا موسعا يعمل على خلق التوازن بين العرض والطلب والتوزيع.
وحين يطرح منظرو الأناركية العلاقة بين الإدارات العمالية والشركات الرأسمالية، أي بين جمعيات العمال والقطاع الخاص بصيغ فيها الكثير من الاختلاف والخلاف، فإنهم يكشفون عن محدودية تأثير المشروع. ما لم تتحول كل الملكيات الخاصة إلى ملكيات جماعية باستثناء الأشياء ذات الاستعمال الشخصي، سيكون تأثير الثورة الاجتماعية محدودا مهما حوت فكرة الجمعيات العمالية بذور التحرر الاقتصادي الكامل للجماهير العمالية. قد يكون دمج النقابات العمالية في الإدارة الذاتية ضمانة لتعزيز تمليك وسائل الإنتاج بموجب عقود تبادلية لكل الاتحادات التعاونية كونها مؤسسات تخطيط، وذلك في محاولة منهم لسد الفجوة التي وجدت في رؤيتهم عن الإدارة الذاتية. كما أن وجود الكوميونات -وهي خلايا محلية- كأحد مقومات التنظيم الذاتي تعتبر كيانا سياديا ذو طبيعة سياسية واقتصادية، سيكون قادرا التصرف في ممتلكات المجموعة بشكل تشاركي، وإنشاء المرافق وفرض الضرائب.. غير أنه لا يمكنها بطبيعة الحال التعايش مع سلطة سيادية أخرى كسلطة الدولة.
يحاول غيرين الإحاطة بالتساؤلات والإشكالات التي لاقاها الأناركيون الشيوعيون والأناركيون النقابيون حول العلاقة بين النقابة والكوميونات، وشكل إدارة هذه الأخيرة هل بالانتخاب أم بغيره، محاولين تجنب الوقوع في النمط الهرمي والسلطوي والبيروقراطي أيضا. كما يتطرق في هذا الفصل بنحو أكثر تفصيلا إلى توثيق النقاشات التي خاضها الأناركيون والاشتراكيون السلطويون، ليلقي الضوء على المبادئ والأفكار وكيفيات تنزيلها بالمرور على أهم المحطات الأممية والأحداث النضالية. فكان مما طرح، مشكل استخدام اصطلاح الدولة بين الاشتراكيين السلطويين والليبرتاريين والتنازلات والتوفقات التي بنيت من أجل استجماع الموقف حول مبدأ الملكية الجماعية ، لكن سرعان ما تعقدت النقاشات حين تعلق الأمر بإدارة المرافق الكبرى حيث يدفع بمسؤولية إدارتها الليبرتاريون لاتحاد الكوميونات، فيم يتمسك السلطويون بدور الدولة. ما يفيد أن المجتمع الجديد المنشود وما يسبقه من مرحلة انتقالية يتطلب شكلا فريدا في مركزيته .
يبين غيرين كيف أن اتحاد الجمعيات العمالية المعنية بكل ما هو اقتصادي واتحاد الكوميونات ذات الإدارة المستقلة، كانتا بحاجة إلى صرح أوسع ييسر لها الانتشار في العالم وهو الفيدرالية، والذي سيقود بدوره إلى تجميع الناس في اتحاد أخوي يدعى الأممية، على أن يكون لكل شعب مطلق الحق في تقرير مصيره، سواء بالاتحاد أو الانفصال.
كان مخاض التمثل العملي للرؤى الأناركية مخاضا عسيرا، فمشاركة الأناركيين النقابيين في النقابات العمالية حتى مع القلة العددية كانت بمثابة محاولة للسيطرة عليها وهدم الدولة، لكن مشاركتهم تلك خصوصا التفوق العددي للاشتراكيين الديمقراطيين في عديد من الدول، جعل منهم صوتا شاذا وعرضة للقمع، وفي كثير من الأحيان أصبحت أهدافهم لا تختلف عن مطالب الحركة النقابية -كتحسين ظروف العمل- بل بعيدة عن الهدف الأصلي، لقد أصبحوا داعمين لجهودها ولايمثلون ضغطا نقديا جذريا.
قد يرى الأناركيون العقائديون أن الأناركية النقابية انتهجت واقعية مفرطة، لكن من وجهة نظر أخرى، ربما كان انخراطهم في النقابات العمالية إلى جانب الاشتراكيين الحزبيين ومن داخل أنظمة الدولة، هو الحصن الوحيد لاستمرار الفكر الاشتراكيي على قيد النضال. فلا يخفى على أحد أن المد الاشتراكي قد أيقظ الحس الثوري والتحرري لدى الشعوب المضطهدة والمستعمرة، وكان حاملا للتعاطف والدعم مع انتفاضات التحرر في مختلف البقاع، على أن الأناركيين كانوا يؤكدون بأن انتصار الثورة الوطنية بمعزل عن الثورة الاجتماعية أمر مستحيل، لذلك كانت تعتبر هذه الأخيرة أولوية وبوابة للتحرر الانساني من كل سلطة سياسية ودينية وأجنبية.
الأناركية في الممارسة الثورية
وفي قراءة للثورة الروسية يظهر غرين مدى تأثرها بروح الأناركية سيما فيما يتعلق بانبثاق السوفييتات بشكل تلقائي، والتخلص من الملكية الخاصة للمصانع وإدارتها الذاتية وممارسة رقابة عمالية على المراسلات والحسابات، لقد بدا الاحتجاج ضد السلطوية القيصرية منذ 1905 كنواة لثورة 1917، أو كما لو أن الحلم الأناركي شارف على التحقق. فهل أثر الأناركيون على قلتهم في الثورة؟ أم كان هناك تأثير لتداول الكتابات الأناركية؟ أم أن الوعي الشعبي بفطرته كان أناركيا في جزء منه؟
لقد بدا البلاشفة أيضا أناركيين في البداية على الأقل، ثم انتهوا بفضل انتظامهم الحزبي وقيادة لينين وتنظيره لمستقبل الثورة المتسم بالازدواجية كما لو كان حاملا لبذور فنائه، إضافة للاضطرابات التي تمخطت عنها الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي، إلى فرض الهيمنة المركزية واستخدام القبضة الحديدية، وهيمنة الحزب الواحد على مفاصل الدولة وإحلال ديكتاتورية جديدة باسم البروليتاريا.
اعترض منظرو الأناركية على امتصاص روح الثورة ودسها في جسد الدولة لإحلال نظام ديكتاتوري شمولي، فقاموا بشحذ أسلحتهم النقدية لتقويض فكر الاشتراكية السلطوية، كما أنهم تمكنوا بفضل ما حدث من اختبار المفاهيم والقيم والأنظمة التي آمنوا بها، وجعلوها أرضية لتطوير الفكر الأناركي.
وتبعا لذلك امتلك الأناركيون في إيطاليا وسائل تواصلية مكنتهم من الوصول إلى نطاق واسع من الجماهير، ونجحوا في الإضرابات واحتلال المصانع، فقاموا ببعض التغييرات على المستوى الهيكلي مثل إحداث نظام المجالس لما رأوا عجز الاتحادات النقابية عن دعم ثورة البروليتاريا. لقد تلقى الأناركيون الايطاليون بجدية التحذيرات المستخلصة من مآل كميونة باريس والثورة الروسية، ما جعل المسافة بينهم كليبرتاريين وبين باقي الفرقاء اليساريين تزداد اتساعا كما هو حال مع الجناح الإصلاحي للاتحادات النقابية، الذي فضل خيار التسوية مع أرباب العمل.
وحتى قيام الثورة الاسبانية سنة 1936 وجد الأناركيون قدرة على أكبر مما كانت لدى نظارائهم الروس والإيطاليين في أجرأة تصوراتهم للبنى التنظيمية الجديدة، فقد تمتعت الكميونة في الريف الاسباني بروح تعاونية عالية وانتشار في عدد مهم من المقاطعات المعروفة بالزراعة والفلاحة خاصة الجنوب الشرقي، وكان هؤلاء المزارعون والفلاحون يملكون ولاءً كبيرا لمناطق إنتمائهم. أما في المدن فقد كان لتداول ترجمة التراث الاشتراكي الليبرتاري والثوري إلى الاسبانية واهتمامهم الكبير بتثقيف العمال وضمان نموهم الفكري والروحي، عاملا في اختلاف نزعاتهم النقابية، إذ كان الاتحاد الوطني للعمل قد أعطى أهمية للمطالب اليومية بينما وجد الاتحاد الأناركي الإيبيري نفسه أكثر ولاء للمبادئ المذهبية. لقد كان الاتحادات النقابية للمصانع عموما ذات اهتمام بالتكاملية والاندماج، وكان هذا في حد ذاته إشكالا يصعب إيجاد توافق حوله. لكن المعضلة بالنسبة للثورة الاسبانية هي في حصول الاشتراكيين السلطويين على الدعم الروسي، ما أدى إلى إضعاف أشكال التنظيم الذاتي. لقد بلغ الأمر مع الحزب الشيوعي الاسباني درجة تصفية قواعد الثورة من التروتسكيين والأناركيين. لكن جميعهم لاحقا تلقوا الضربة القاضية من فاشية فرانكو وحلفائه المحافظين.
ختاما، وبعد مطالعة هذا العمل السردي التاريخي والتحليلي المتحيز للأناركيين الليبرتاريين، يمكننا أن نؤكد مسعى غيرين في أن القارئ سيتمكن من تبين وجهات النظر المختلفة والوقائع والمحطات النضالية الكبرى، وبين الأناركية الخالصة. سيدرك بأنها ليست بفوضى ولا ترفض التنظيم، وإنما ترفض وجود الدولة ولو لفترة انتقالية بعد الثورة، بل وترفض أي مفهوم يحاكيها. هي ضد كل الدكتاتوريات بما فيها ديكتاتورية البروليتاريا، وتملك حساسية مشوبة بالشك والحذر تجاه كل الأحزاب. تؤمن بالقدرة على التنظيم الذاتي لكل العمال والفلاحين وبحق الشعوب في تقرير مصيرها وبالتحرر من الاستعمار. تؤمن بالفرد كقيمة في حد ذاته بغض النظر عن أصله وإنتاجه، وبالتعاون الجماعي وبالأخوة الانسانية.
إذا، من ذات المنطلق الذي قامت عليه الرأسماليةُ -الحرية والإيمان بالانسان- وتغولت به الدولةُ، تنطلق الأناركية، ما يعني لكل ذي بصيرة أنه حتى من داخل النسق الغربي لا يوجد إجماع على كون الدولة هي الشكل الأكثر تقدما وآمانا لحياة المجتمع البشري، ولا أن الرأسمالية هي النمط الحصري لاقتصاده. وطالما لم تستطع الأناركية أن تفي بوعودها على أرض الواقع، فهي حتما تستطيع أن تكون صوت الضمير الانساني، وهو كاف وضروري بالنسبة لنا لتحظى بالتواجد والاحترام.
الهوامش
[1] – دانيال غيران، الأناركية من النظرية إلى التطبيق – ترجمة عومرية سلطاني، دارتنوير للنشر والإعلام، القاهرة، الطبعة الأولى 2014، ص 27.
[2] – أشار نعوم تشومسكي أن اقتباسه هذا من كتاب ميشسل باكونين ” كومونة باريس ومفهوم الدولة”.
[3] – المرجع نفسه، ص 59.
[4] – المقولة تعود لأدولف فيشر وهو أناركي ألماني، تم إعدامه بعد نشاطه في تظاهرات شيكاغو 1873 .
[5] – المرجع نفسه، ص 60
[6] – المرجع نفسه، ص 84.
[7] – المرجع نفسه، ص 95.