لعالم الأنثروبولوجيا “فريديريك كيك1” طريقته الخاصة في اقتفاء أثر الفيروسات. فخبرته في آسيا، مكنته من تتبع “أمراض العولمة”. ذلك أن أوبئة الإنفلونزا وفيروس كورونا هذه، تفصح عن ترابطنا المضطرب مع الحيوانات، وترسم عالمًا شاملا يجب أن يتعلم كيفية توقع مستقبل لا يمكن التنبؤ به.
|
نص الحوار:
فيروس كورونا الذي انتقل من خفاش إلى بانجولين في سوق بـ”ووهان”، ثم إلى البشر في جميع أنحاء العالم: ماذا يعني برأيكم هذا؟
فريديريك كيك: نحن بصدد الانتقال من عالم إلى عالم آخر، وقد بدأت أوروبا التي حجز عليها كورونا في اكتشاف ذلك. بينما تنبهت الصين والدول التي أسميها “حراس الأوبئة” (تايوان وسنغافورة …) إلى هذا الأمر منذ فترة طويلة. فبعد وباء المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس) -وهو بالفعل نوع من فيروس كورونا- في 2003، تم ضخ استثمارات ضخمة في الأبحاث الفيروسية، وفي تقنيات تحديد وفحص ورصد السكان للاستعداد لحلقة جديدة من هذا النوع. وقد كان الباحثون الصينيون يتوقعون فيروس الخفافيش الذي يسبب أمراض وبائية تنفسية.
إذا كانت هناك ثلاثة أسابيع ضائعة من الإخفاقات السياسية بين نهاية ديسمبر ومنتصف يناير، فإن السلطات المحلية في “ووهان” قد تمكنت من التحكم في الوباء، وقد فعلت كل ما كان ينبغي فعله. من جانبنا، لم نكن نرغب في رؤية أي شيء: كنا نشاهد الصينيين يحذرون من أمراض الخفافيش، وها نحن الآن عاجزون. ليس لدينا المعدات اللازمة للتعامل معها، ولا المخيال لفهم ما يحدث لنا. وبما أن السارس -مرض مميت أكثر بكثير من مرض كورونا، ولكن لكونه انتشر بشكل أقل، فقد تسبب في عدد أقل من الوفيات في جميع أنحاء العالم- كان تأثيره محدودا علينا، فإننا لم نفهم التحول العالمي الذي تسبب فيه. يرجع هذا التغيير إلى حقيقة كون الصين قد سيطرت على الأوبئة على أراضيها وكذلك على الصعيد العالمي، لأن تعيين قيادة منظمة الصحة العالمية منذ عام 2006 يتم بدعم من بكين. ومن هذا الباب تسعى الصين لترسيخ مكانتها كرائدة في إدارة الكوارث الصحية. وهذا ما يفسر لجوء إيطاليا وسلوفينيا إلى الصين بدلاً من أوروبا لإدارة الطوارئ.
ما هو هذا الاختلاف في المخيال الذي يمنع أوروبا من الفهم؟
في أوروبا، تم بناء الأمن الاجتماعي (بالمعنى الواسع) على مبدأ الوقاية وليس على مبدأ الاستعداد، حيث ترتبط الوقاية الصحية بدولة قومية على أرض محددة. وضمن هذه الرؤية تندرج على سبيل المثال، حملات التطعيم ضد مرض السل أو الجدري. فالدولة تتحكم في حركة الفيروسات، مع كل التفاوتات الاجتماعية التي تكشفها، بين الأغنياء والفقراء، وبين الحضر والريف. ومن ناحية أخرى، فإنه عندما يتعلق الأمر بالأمراض المعدية الفيروسية، فإن الاستعداد يتطلب بالضرورة تعاونا على المستوى العالمي. ذلك أنه من الضروري الإسراع بالكشف عن ظهور الفيروس واحتواء الحالات المرضية في مراحلها الأولى. هذا المنهج في الفهم بكون الأخطار المحلية يمكن أن تكون لها تداعيات عالمية، ظهر في المجال الطبي خلال تسعينيات القرن الماضي مع أنفلونزا الطيور. فالأمر يتعلق بالاستعداد للحدث الكارثي. وقد كان النموذج السائد آنذاك هو المتمثل في استراتيجية الولايات المتحدة لتوقع هجوم نووي. ويمكنك العثور على نماذج أخرى في التاريخ، وفقًا للثقافات السياسية والفكرية للبلدان المختلفة. فاليابان لديها ثقافة الحدث مرتبطة بالزلزال. وفي فرنسا، فإن نموذج الاستعداد هو بالأساس اجتماعي: إنه مرتبط بالإضراب، وهو ما اختبرناه للتو خلال خريف عام 2019. ولقد وجدته أيضا، على سبيل المثال، في خطاب التضامن في نهاية القرن التاسع عشر: “يجب أن نستعد للإضراب” كما قال جوريس[1]. في الواقع، فإن كلا من الإضراب والإنفلونزا يهددان بانهيار الاقتصاد. يتيح لك التهييء للإضراب التفكير في الاستعداد للإنفلونزا! وأعتقد اليوم أن الاستعداد للأوبئة سيبني رؤيتنا للعالم.
كيف نستعد؟
لقد أجريت بحثي الإثنوغرافي في هونج كونج وسنغافورة وتايوان بين عامي 2007 و2013 التي شهدت وباء السارس في عام 2003، حيث عرفت هذه المناطق تعبئة ضد فيروس إنفلونزا الطيور القادم من الصين. وعملية الاستعداد تتم في هذه الدول عبر ثلاث صيغ رئيسية. أولاً، عن طريق نشر “الحراس” في مواقع استراتيجية، على سبيل المثال في أسواق الحيوانات في وسط الصين، أو عبر وضع بعض الدجاج غير الملقح ضد الأنفلونزا ضمن قطيع يضم 70.000 دجاجة ملقحة. إذا ماتوا أو مرضوا، يمكن أن يكشفوا عن وجود الفيروس في المزرعة أو العلامات المبكرة لمسبب جديد للمرض (agent pathogène). وكذلك عن طريق محاكاة الكوارث، ولا سيما باستخدام التقنيات الرقمية. ثم بتخزين اللقاحات ومضادات الفيروسات والأقنعة. وأخيرًا، من خلال توعية جميع السكان أن الأمر يتعلق بالاستعداد لكارثة لن تعرف حدودًا وستؤثر على جميع البشر، بل وعلى جميع الكائنات الحية.
“في مقابل اختصاصيي الفيروسات “صيادي” الفيروسات، تجسد السلطات الصحية العالم الرعوي، الذي لديه القدرة على “الإحياء والإماتة”، كما قال فوكو “ |
بصفتك أنثروبولوجيا، فأنت تربط منطق الاستعداد بنشاط الصيادين وجامعي الثمار (chasseurs-cueilleurs) بينما تربط منطق الوقاية الخاص بعالم الرعي. هل يمكنك شرح هذا التمييز؟
علماء الفيروسات هم “صيادو” الميكروبات أو الفيروسات. هذا هو السبب في أنهم يتفاهمون بشكل جيد مع دارسي الطيور (ornithologues)، الذين يمارسون التعقب أيضًا. بالنسبة لي فإن أنثروبولوجيا مجتمعات الصيادين-الجامعي الثمار تتيح لي إعادة تقييم صورة الصياد. إن عالِم الفيروسات-الصياد ليس هو ذلك الذي يذهب إلى العالم البري لمراقبة الكيانات غير المرئية تحت المجهر فقط، بل هو قبل كل شيء قادر على الإنصات للطيور والخفافيش والقرود. إن الفيروس هو إشارة تحذير تؤثر على الحيوانات، ويمكن لـ”الصياد” أن يتابع انتقاله من الطيور إلى الخنازير ثم إلى البشر، أو من الخفافيش إلى البنجولين (pangolins) ثم إلى البشر (في حالة كورونا). هذا هو نهج فن الصيد cynégétique)). إنها القدرة على تحمل عدم اليقين في العلاقات مع الحيوانات، لأن تلك التي نصطادها يمكن أن تَقتُل أيضًا. كما أن علاقات الصيد قابلة للعكس بشدة.
على العكس من ذلك، فإن السلطة الرعوية هي جزء مما أسماه ميشيل فوكو بالسياسة الحيوية (biopolitique). فالراعي يتحكم في قطيعه ويمكنه أن يقرر أي الحيوانات يعتني بها وأيها يذبح أو يضحي بها لحماية بقية القطيع. كما قال فوكو: إنها القدرة على “الإحياء والإماتة” (faire vivre et laisser mourir). وهي مرتبطة بالسلطة السيادية لـ “الإماتة والإحياء”. إنها نوعا ما الخيار الذي أقدم عليه بوريس جونسون في المملكة المتحدة، والذي هو بصدد التخلي عنه لأن مثل هذا الخيار لا يمكن الدفاع عنه سياسيا: إذا تركنا الفيروس ينتشر، سيكون لدينا 400.000 قتيل، ولكن هؤلاء سيكونون من كبار السن والضعفاء والفقراء. سيتم الحفاظ على تجار المدينة، وهذا سوف يكلفنا أقل. لقد مكنت السلطة الرعوية من بناء الدولة الحديثة التي تقوم على الوقاية. لذا فإن علماء الأوبئة، والسلطات الصحية، هم بجانب الرعاة.
لكن ألسنا ملزمين بالمرور عبر الرعوي عندما يتواجد الوباء فعليا؟
المساحة الوسيطة بين منطق الصيد والرعوي، بين الاستعداد والوقاية، هو الاحتياط. فالرعوي الذي يمضي إلى النهاية يتحمل التضحية، ويفترض أن هناك أشخاصًا سيموتون، لكن الشيء المهم هو الحفاظ على صحة الساكنة في عمومها. على العكس من ذلك، لم تفرض تايوان وسنغافورة الحجر الصحي لأنهم اختاروا الصيد، وسرعان ما تعقبوا الفيروس، وتعقبوا الأشخاص الذين كانوا على اتصال بالمرضى الأوائل، ولم يحجروا إلا على هؤلاء فقط، وليس على الساكنة كلها. فهم يتجنبون التكلفة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للحجر المستدام للسكان على المستوى الوطني.
إذا تم تطبيق تقنية الصيد بشكل غير صحيح، أو بعد فوات الأوان، فلا يبقى أمامنا إلا الاحتياط القائم على تعظيم المخاطر، وإغلاق كل شيء. وقد تم ذلك لمدة عشرين عامًا مع الأبقار المجنونة والدجاج المصاب بالإنفلونزا عن طريق ذبح جميع القطعان والماشية بمجرد أن يصاب شخص واحد فقط. هنا، نحن الذين حُجِّر عليهم بشكل جماعي.
” وكل أربع أو خمس سنوات، سيظهر مرض جديد قادم من الحيوانات وليس لدينا مناعة أو لقاح ضده “ |
بماذا ينبئنا هذا الوباء فيما يخص اختلال التوازن في علاقة الإنسان/الحيوان؟
إن علم بيئة الأمراض المعدية (L’écologie des maladies infectieuses) هو تيار ظهر في سبعينيات القرن العشرين، مع اسمين كبيرين في علم الأحياء: “ماكفرلين بورني” و”روني ديبو”[2]، اللذان كانا من أوائل من لاحظ ظهور فيروسات جديدة نتيجة للتغيرات البيئية. وقد نبها إلى ذلك معهد روكفلر ومنظمة الصحة العالمية في الوقت الذي أعلنت فيه هذه الأخيرة عن نهاية الأمراض المعدية لكون الجدري تم القضاء عليه نهائيا. فقد قال هاذين العالمين: تعتقد أنك ربحت المعركة ضد الطبيعة ولكن الطبيعة “ستنتقم”. وقد تحققت هذه النبوءة مع الإيبولا عام 1976 (الناتجة عن الخفافيش في وسط أفريقيا)، والإيدز عام 1981 (القادم من القرود)، وجنون البقر عام 1996 (الماشية)، وإنفلونزا الطيور عام 1997 (الدجاج والطيور المهاجرة)، و”سراس” عام 2003 (الخفافيش، قط الزباد [civettes]) وكورونا متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (Mers-CoV) في المملكة العربية السعودية عام 2012 (القادمة من الإبل) … ناهيك عما ينتظرنا مع الحشرات: حمى الضنك (dengue) المتنقل عن طريق البعوض، الذي هو على أبواب أوروبا. وفي غضون خمس سنوات، فإننا قد نضطر لإعادة الحجر الصحي ضد هذا المرض! وكل أربع أو خمس سنوات، سيظهر مرض جديد قادم من الحيوانات وليس لدينا مناعة أو لقاح ضده. هذه هي الأخبار السيئة القادمة إلينا من سبعينيات القرن الماضي.
كيف تفسر فلسفيا فكرة انتقام الطبيعة؟
أجد فكرة “جاريد دايموند” (Jared Diamond) [عالم الجغرافيا الأمريكي المولود عام 1937 والمنظر لـ “الانهيار”]، التي يتحدث فيها عن أمراض المجتمع المحلي، محفزة. لقد تمثلت “ثورة العصر الحجري الحديث” في تدجين الحيوانات. حَرْفيا، دخلوا دار الإنسان. قدم لهم البشر الخدمات -الرعاية الصحية والغذاء والعلاج، وفي المقابل، أعطوه اللحم والحليب والبيض والجلد وحتى وسائل النقل. لكنهم أعطوه أيضًا بموازاة ذلك آفات وأمراضا جديدة. على سبيل المثال، فإن طاعون الماشية، الذي خرجت منه الحصبة، والتي أهلكت المزارع في القرنين السابع عشر والثامن عشر، هو مرض مرتبط بالتدجين. يرى “دايموند” أن سبعينيات القرن العشرين تشكل ثورة عميقة مثل ثورة العصر الحجري الحديث حينما تحولت تربية الماشية إلى صناعة وما صاحبها من عولمة للتجارة. فقد انقلبت تمامًا العلاقات بين البشر والحيوانات خلال الأربعين عامًا الماضية. ومن هنا نتجت هذه الأمراض.
“لدينا صعوبات في مواجهة خوفنا من الحيوانات الناقلة للأمراض، لأننا تشكلنا بفعل قطيعة الطبيعة/الثقافة” |
ولكن الخفاش، والبنجولين حيوانات برية…
على وجه التحديد، هذا هو التغيير الإضافي الذي نمر به. لم تعد الأمراض مرتبطة فقط بمساحات التعايش بين البشر والحيوانات، كما هو الحال أثناء التدجين البدائي، ولكن بتحركات لا يمكن التنبؤ بها مرتبطة بالزراعة الصناعية وكذلك بالقضاء على الغابات، وفقدان التنوع البيولوجي أو تغير المناخ. تم طرد غير المدجن (sauvage)، وهو مضطر للعثور على منافذ أخرى، بما في ذلك المناطق الحضرية. لقد كنا رعاة صالحين، فقد سمح لنا هذا الرعي بمواجهة أمراض العصر الحجري الحديث. ويجب أن نصبح الآن صيادين-جامعي ثمار مرة أخرى.
كيف سيكون العالم بعد كورونا؟
ونحن في قلب الأزمة، لا يمكننا التنبؤ بما سيكون عليه العالم -طبيا وصحيا وسياسيا واقتصاديا …- ولا يزال من الصعب جدًا قول أي شيء. الشيء الوحيد الذي أنا متأكد منه في هذه المرحلة، هو أن الصين تتقدم علينا بمسافة. هذا هو الواقع. إن الأمر لا يتعلق بالاعتماد على دكتاتورية قادرة على الحجر بشكل سلطوي ودون مقاومة من سكانها، بل هي ببساطة مسألة الاعتراف بالتجربة الصينية، والآسيوية بشكل عام، في مواجهة الكارثة الصحية. حجتي أنثروبولوجية. لدينا صعوبات في مواجهة خوفنا من الحيوانات الناقلة للأمراض، لأننا تشكلنا بفعل القطيعة الطبيعانية (coupure naturaliste) الطبيعة/الثقافة، أنا هنا أستعيد أطروحة “فيليب ديكولا” (Philippe Descola)[3]. ولكن من الممكن أن تضطر ليبراليتنا الطبيعانية (libéralisme naturaliste)، التي ألحقت الكثير من الضرر بالكوكب، إلى التواضع قليلاً.
فريديريك كيك: مؤرخ فلسفة وأنتروبولوجي، وهو مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا “CNRS” (مختبر الأنثروبولوجيا الاجتماعية). واستناداً إلى المسوحات الإثنوغرافية، يقوم بدراسة الأزمات الصحية المرتبطة بأمراض الحيوان ويطور تفكيرا لمعايير “الأمن الحيوي”. وقد نشر كتاب “عالم مزكوم (Un monde grippé, Flammarion, 2010). كما يلقي كتابه المنتظر صدوره في مايو المقبل، الذي هو ثمرة العمل الميداني في هونغ كونغ وتايوان وسنغافورة في خضم موجة إنفلونزا الطيور، الضوء على أزمة كورونا الحالية: “حراس الأوبئة. الباحثون عن الفيروسات ومراقبو الطيور على حدود الصين” (Les Sentinelles des pandémies. Chasseurs de virus et observateurs d’oiseaux aux frontières de la Chine).
[1] جان جوريس (Jean Jaurès): زعيم اشتراكي فرنسي ولد سنة 1859 واغتيل سنة 1914 لمعارضته دخول الحرب ومواقفه السلمية. وقد كان خطيبا مفوها. وقد اشتهر بدوره في الضغط على الحكومة للتدخل لإرجاع نقابي من عمال المناجم إلى عمله بعد طرده من طرف أرباب العمل. وكذلك بدعمه للضابط الفرنسي من أصل يهودي دريفوس.
[2] ماكفرلين بورني(Macfarlane Burnet)، أسترالي من أصل بريطاني يشتغل على الأنفلونزا، بينما يشتغل روني ديبو (René Dubos)،الذي هو أمريكي من أصل فرنسي على البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.
[3] “فيليب ديكولا” (1949-): أنتروبولوجي فرنسي عرف بنقده ثنائية الطبيعة/الثقافة.