نورا الشقاف
“أولئك الذين يقولون لك: لا تقحم السياسة في عملك الفني، لا يتمتعون بالنزاهة. فإذا أمعنت النظر فستجد أنهم هم بالذات من يستفيد من وضع السياسة القائم، فما يقصدونه فعلا هو لا تزعج النظام” تصف هذه العبارة للروائي والأكاديمي النيجيري تشينوا أتشيبي حجم القوة السياسية التي يتمتع بها الفن.
فلطالما كان الفن انعكاسا لسيرورة الشعوب وتطورها، بحيث تعبر الفنون سواء السمعية أو البصرية منها، عن الوعي الجمعي لشعب ما أو أمة من الأمم. ومن المؤكد أن الفن التشكيلي يأتي على رأس هذه الفنون بصفته مرآة للعلاقة بين الإنسان والمحيط وما يتخللها من صراعات ونزاعات وآمال وطموحات. ومع حركية التاريخ فقد تعاقبت الاتجاهات الفنية والمدارس التشكيلية معبرة بهذا التطور عن الانعطافات التي مر –ويمر- بها الفكر الإنساني مخلدة بذلك أشهر الأحداث التاريخية العالمية.
نتطرف في هذه المقالة عن إحدى أهم الحركات الفنية التي ظهرت مطلع القرن العشرين، والتي برزت بوصفها احتجاجا ثقافيا على الإرهاب السياسي الذي ولّده الحدث الأبرز في الفترة ذاتها متمثلا في الحرب العالمية الأولى التي كانت تعرف بالحرب العظمى قبل أن تعقبها الحرب العالمية الثانية.
ولادة الدادائية
كانت نتائج الحرب العالمية الأولى التي قامت في يوليو/تموز 1914 بين الدول الأوروبية (قوى الحلفاء ضد المركز) كارثية على جميع المستويات، خاصة على المستوى الإنساني الذي عرف نزيفا أهدرت فيه أعداد هائلة من الطاقات البشرية[1]، في حين ظل الحث على التجنيد، من الأطراف المتنازعة، متزايدا. فانطلاقا من هذا المعطى برزت حركة “دادا” التي اعتبرت المصالح الكولنيالية والبرجوازية القومية السبب الرئيسي لاندلاع الحرب العالمية الأولى.
بسويسرا سنة 1916 في زيوريخCabaret Voltaire كانت انطلاقة هذه الحركة من ملهى فولتير، حيث كانت تجتمع نخبة من الفنانين والشعراء الطلائعيين[2] اللاجئين فرنسيين وألمان وجنسيات أخرى، في سويسرا البلد المحايد آنذاك، منهم هيوغو بال وتريستان تزارا وإيمي هينينغز ومارسيل يانكو. وقد تم إطلاق اسم فولتير على الملهى تيمنا بالروائي الفرنسي فولتير صاحب رواية “كانديد” التي يتهكم من خلالها على ما اعتبره “سخافات” كان تسود المجتمع الفرنسي، فيقول هيوغو بال بهذا الصدد : حركتنا هذه هي “كانديد” عصرنا.
وقد انبنت أفكار الحركة على نبذ العقلانية والجمالية والمنطق بصفتها مفاهيم ذات مقاربة براغماتية يتستر خلفها المجتمع الرأسمالي الحديث، وعمدت إلى تبني اللاعقلانية والعبثية والعشوائية في إبداعاتها. مثل ما أشار الأمريكي جورج غروز[3] إلى أن أعماله ذات الطابع الدادائي هي عبارة عن احتجاج ضد “هذا العالم الذي يسعىى لتدمير نفسه”.
يأتي لفظ “دادا” مجردا في ذاته، غير تابع لأي خلفية أيديولوجية ولا حاملا لأي تصور انتقائي معين. وتتضارب الروايات في سبب التسمية به، إذ تقول إحداها أن الشاعر الالماني ريتشارد هيولسنبك قام بتصفح المعجم اللغوي الفرنسي اعتباطا وألقى بسكين على صفحاته فوقع على كلمة دادا التي تعني لعبة الحصان (لعبة قديمة عبارة عن رأس حصان موصول بعمود طويل يركب عليه الأطفال) في حين تقول أخرى أن سبب تسميتها آت من لفظة “دا” التي تعني بالألمانية “ذاك”. بينما هناك رواية أخرى تدور حول أن لفظ “دادا” هو أول ما ينطق به الأطفال أيا كانت جنسيتهم، لذلك فهذا الاسم يلائم هذه الحركة التي تجمع الفنانين من شتى الجنسيات تحت توجه عفوي مناوئ للنظام العالمي.
صدر إعلان دادا كحركة فنية يوم 14 يوليو/تموز 1916 حين قرأ الشاعر هيوغو بال المانيفستو الدادائي معلنا بذلك قيام حركة فكرية ثورية مناهضة للقيم السائدة. فحسب هانز ريشتر[4] “دادا” لم تكن “فنًّا”، بل كانت “فنا مضادا”[5]، فقد أقامت الدادائية عداءً تجاه كل القيم التي يمثلها الفن الأصيل، فإذا كان الهدف من الفن هو إرضاء الحواس فغاية دادا كانت استفزازها. وقد وصفها مؤرخو الفن بكونها في مجملها، عبارة عن انعكاس لما اعتبرهُ روادها عرضا عالميا جنونيا في فنون الإبادة.
افتتاح أول معرض دادا في برلين 5 يونيو/حزيران 1920
حيث يبدو تمثال لجندي ألماني برأس خنزير متدليا من السقف
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بهدنة في نوفمبر/تشرين الثاني 1918 غادر معظم مؤسسي الحركة مدينة زيوريخ صوب بلدانهم حيث قاموا بنشر أفكار الدادائية على نطاق أوسع.
وفي نيويورك، التي كانت ملجأ للفنانين الأوروبيين كما الحال مع زيوريخ، وجدت الدادائية موطنا آخر حين التقى الفرنسيان القادمان حديثا من أوروبا، مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا بالأمريكي مان راي فكوّن الفنانون الثلاثة فريقا لأنشطة “الفن المضاد” الأكثر تطرفا في الولايات المتحدة.
فرانسيس بيكابيا، العهر العالمي (1916) البشر كما ينظر إليهم في عصر الآلة
تعتبر “النافورة” لمارسيل دوشامب من أشهر أعمال الحركة الدادائية على الإطلاق، وهي في الأصل عبارة عن مبولة من السيراميك موقعة بالأحرف “ٍر. مات”، شارك بها في معرض لجمعية الفنانين المستقلين، لكن لجنة العروض بالجمعية قررت رفض عرض القطعة، مما جعل دوشامب يستقيل من عضويتها احتجاجا على هذا الموقف.
قدمت الكثير من التفاسير ل”نافورة” مارسيل دوشامب، وتبلورت بعضها انطلاقا من التناقض الذي جعل من الحرب أداة للدفاع عن شرف الوطن، فكما أن الحرب هي وسيلة مشرفة فلا ضير من أن تحمل المبولة اسم نافورة. كما طرح أستاذ الفلسفة بجامعة هوكفورد بكندا ستيفن هيكز نظرية تشير إلى أن مارسيل دوشامب وبكونه نتاج لتاريخ الفن الأوروبي، فقد “كان يهدف إلى إيصال رسالة واضحة من خلال نافورته، فالفنان لم يقم بصنع شيء خارق – دوشامب أخذ المبولة من متجر السباكة- والقطعة الفنية لم تكن عملا استثنائيا، فالمصانع تنتج أعدادا هائلة منها، (…) ومع ذلك فدوشامب لم يقم باختيار قطعة اعتباطية، فباختياره للمبولة كانت رسالته واضحة : الفن هو شيء تبول عليه”[6]
مارسيل دوشامب، المبولة، 1917 – بعدسة ألفريد ستيجليتز
وقد اعتمدت حركة الدادا على مبدأي التحدي والاستفزاز في صدامها ضد المؤسسات الرسمية، وهاجمت القيم الفنية التقليدية بسلوكات لاعقلانية، كما جعلت هدفها استثارة النظام الحياتي المحافظ عبر إصدار بيانات والقيام بأنشطة صادمة وعنيفة، بحيث حثت على طرح تساؤلات حول ماهية المجتمع ودور الفنان بالإضافة إلى الغاية من الفن. كما قامت بإطلاق أحكام تدين الفن السائد بصفته ذراعا من أذرع الأنظمة المستبدة، فاعتُبر الفن في النظرية الدادائية عاملا مذنبا وبالتالي يجب إسقاطه.
ويجدر التأكيد على أن الدادائيين كانوا غير معنيين إلى حد كبير بإنتاج أغراض فنية قابلة للبيع على نحو تقليدي، بينما تخصص الفنانو السرياليون[7] أمثال سالفادور دالي ورينيه ماجريت في أساليب أكثر تقليدية وقابلية للبيع، خاصة تقنية الرسم بالزيت.
الشعر والموسيقى في ظل دادا
لم تكن الحركة الدادائية مقتصرة على الرسم والفنون البصرية، فقد تأثر الشعر والموسيقى بهذا التيار، فظهرت إنتاجات من الشعر الصوتي مثل قصيدة “غادجي بيري بيمبا” غير المفهومة لهيوغو بال التي ألقاها في ملهى فولتير على أسماع النخبة المثقفة والسياسيين ليطلعهم على سمات الحركة الجديدة، ويقول في مطلعها :
gadji beri bimba
glandridi laula lonni cadori
gadjama gramma berida bimbala
glandri galassassa laulitalomini
مشيرا بذلك إلى أن الشعر والأدب المتداول، رغم جماليتهم إلا أنه يظل مجرد أصوات مفرغة من المعنى طالما لا يلمسون لها أثرا على الحياة المعاشة التي يغلب عليها الطابع الحربي الدموي، وتأكيدا لهذا الرأي يقول زكي نجيب محمود: الجملة الأخلاقية والجمالية ليست بذات معنى، لأنها لا تشير إلى عمل يمكن أداؤه للتحقق من صدق معناها المزعوم، ولا تكون الجملة بذات معنى إلا إذا أمكن تحويلها إلى عمل. فكل جملة لا تدلك بذاتها على ما يمكن عمله، بحيث يكون هذا العمل هو معناها الذي لا معنى لها سواه تكون صوتا فارغا، مهما قالت لنا القواميس عن معانيها. فالفكرة الواضحة هي ما يمكن ترجمتها إلى سلوك، وما لا يمكن ترجمته على هذا النحو لا يمكن أن نقول عنه إنه فكرة غامضة، بل ليس هو بالفكرة على الإطلاق[8]
ما بعد الدادائية
ويصف مارك لاونذال حركة “دادا” بهذا الخصوص في مقدمة ترجمته لمؤلَّف فرانسيس بيكابيا “أنا وحش جميل : شعر ونثر و استفزاز” قائلا : “دادا هي الأرضية التي ينطلق منها الفن التجريدي والشعر الصوتي، هي أولى مراحل الفن الأدائي، وحركة افتتاحية لما بعد الحداثة، وذات تأثير عظيم على البوب آرت، وهي في الأساس احتفاء بالفن المضاد وقد تم استغلالها في الاستخدامات السياسية اللاسلطوية خلال ستينيات القرن العشرين، لتصير فيما بعد أساسا تنبثق منه الحركة السريالية/الفوق-واقعية”[9] [10]
فرغم انتشارها واتساع رقعة تأثيرها ظلت حركة دادا طافية في البيئة الفنية بشكل متذبذب لا تعرف الاستقرار، يعزي ذلك البعض إلى أن الدادائية هي في الأصل تمهيد لتيارات ما بعد الحداثة، وأنها انعطاف في تاريخ الفن أفضى إلى اتجاهات جديدة. ففي باريس انطلاقا من سنة 1924 بدأت الحركة بالتحول إلى حركة سيريالية، وحتى لو اعتبرنا أنهما مختلفتان بشكل متمايز بحيث يمكن وضع الواحدة منهما في مواجهة الأخرى، على سبيل المثال : عادة ما استمتعت الدادائية بفوضى الحياة العصرية وتشظيها، بينما أخذت السريالية على عاتقها مهمة أكثر إصلاحا[11]. فقد كانت السريالية شأنها شأن الدادائية مكرسة لمحو الفروق بين مزاعم “الفن” ومزاعم “الحياة”.وبهذا الخصوص يصف ماكس غبلر[12] موقف الفنان من الحياة في كلمة واحدة قائلا: إنه “تحاضن” بينه وبينها[13]. وهذا الوصف ينفذ إلى عمق معنى التوجه الذي ابتكره رواد الدادائية الممثل في “الفن المضاد” إذ أنه يخاصم ويناصب العداء للحياة بصفتها قيمة جمالية.
وقد بدأ انشغال السرياليين –بدورهم- بالسياسة عام 1925، حين عارضوا الحرب الفرنسية الاستعمارية في المغرب. وبحلول عام 1927 أفضت معارضتهم الشديدة ليس لحكومة اليمين الفرنسية فحسب بل وللرأسمالية عموما، إلى انضمامهم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكن ثبت لهم من البداية أنه من الصعب التوفيق بين ميولهم السياسية وغاياتهم الفنية[14].
فيما يتعلق بالحركة الفنية، يمكن القول أن الدادا كان لها الأثر الأوسع بعد الحرب، وهي الحقيقة التي تنطوي على مفارقة بالنظر إلى ميول الدادائية المناوئة للفن. كانت الدادا صرخة ثقافية مدوية قلبت موازين الجمال وقواعد الفن.
قد يقف المشاهد أمام العمل الدادائي متحيرا بين الإعجاب والنبذ، بين ضرورة إسقاط الخاصيات والقواعد الأكاديمية الفنية عليه أو استخلاص قواعد جديدة تختص بها هذه الحركة عن سابقاتها. إذ أن من أهم قواعد العمل التشكيلي أن تبرز مكوناته ككتلة واحدة متماسكة لا تنفصل إحداها عن الأخرى، بينما تميزت الأعمال الإبداعية الدادائية بالتفرد والانعزال سواء ككتلة منفصلة عن الواقع أو كمكونات غير مترابطة (كإبداعات الكولاج على سبيل المثال) لكنها بين هذا وذاك تظل حركة ونقلة فرضت وجودها في خضم الإضطرابات التي كان يموج فيها الوسط السياسي والمجتمعي الغربي. وقد أدت بدورها لاتجاهات غيرت معالم التاريخ المعاصر.
عمدت الدادائية بأسلوبها العنيف إلى إسقاط ما رأته عبارة عن “زيف” يطغى على الحياة العامة، وحاول روادها تكسير النمطية التي أسبغت على الفن، فكما يوضح بيجوفيتش ‘إن الفن ليس إبداعا للجميل[15]، خصوصا إذا اعتبرنا أن نقيض الجمال ليس هو القبح وإنما الزيف. إننا لا يمكن أن نصف بالجمال الأقنعة “الأزتية” أو أقنعة ساحل العاج ولا التماثيل الصغيرة التي نحتها “جياكومتي[16]“، فهذه كلها تعبير عن البحث الأصيل عن الحقيقة، لأنها تمثل شعورا، إحساسا جوانيا، اتحادا بحدث كوني يتعلق بمصير الإنسان،إنها ببساطة شعور بالتسامي[17].
[1] يقدر عدد الجنود الضحايا بحوالي 4.25 مليون جندي تقريبا (انظر حاشية كتاب الحرب العالمية الاولى ل نيل م.هايمان ترجمة حسن عويضة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة الطبعة الأولى 2012 )ص. 374
[2]الطليعية أو الطلائعية : مصطلح يشير إلى الأشخاص والأعمال المجددة في حقول الفن والثقافة والسياسة والفلسفة والأدب تطورت في القرن العشرين.
[3] رسام كاريكاتوري ألماني من رواد الدادا في برلين
[4] رسام ألماني من التيار الطلائعي ورائد من رواد الدادائية
[5]. انظر في هذا السياق:
Hans Richter(1997), Dada: Art and Anti-Art (World of Art), Thames & Hudson; Reprint Edition.
[6] انظر:
Stephen Hicks (2004) : Explaining Postmodernism : Skepticism and Socialism from Rousseau to Foucault. Scholargy Publishing.
[7] السريالية : مذهب فني تلى الدادائية أراد أن يتحلل من واقع الحياة الواعية.
[8] رمضان الصباغ، فلسفة الفن عند زكي نجيب محمود: دراسة نقدية، ب.ط:(الإسكندرية: دار الوفاء لدينا الطباعة والنشر، 2004)، ص. 9
[9] انظر:
Marc Lowenthal : translator’s introduction to Francis Picabia’s I Am a Beautiful Monster ; Poetry, Prose, and Provocation
[10] انظر:
Boyd White(2009) : Aesthetics Primer, Peter Lang Pubblishing, Inc., p. 37.
[11] ديفيد هوبكينز: الدادائية والسريالية- مقدمة قصيرة جدا ترجمة أحمد محمد الروبي (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة الطبعة الاولى 2016)
[12] رسام تعبيري سويسري (1898–1973)
[13] ألكسندر إليوت: آفاق الفن. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا الطبعة الأولى(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982)، ص7.
[14] ديفيد هوبكينز، مرجع سابق.
[15] علي عزت بيجوفيتش: الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، الطبعة السادسة (القاهرة: دار الشروق، 2015)، ص 154.
[16] Alberto Giacometti رسام ونحات سويسري حصل على الجائزة الكبرى للنحت في البندقية سنة 1962، وقد تم عرض أعماله في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر سنة 2016
[17] بيجوفيتش، مرجع سابق، ص154.