إن الأشكال المتنوعة من التفاعل والتقارب بين الإسلاميين والقوى اليسارية، داخل العالم الإسلامي أو خارجه، والتي جُرّمت من قِبل المعتقد الإسلاموفوبي، هي في الواقع العلاجات الأنسب لدوامة الصعود نحو أشكال التطرّف.
لماذا تشغل الدراسات المنعوتة بـ”النزعة العنصرانية”[1] – المستثمِرة في حقل أشكال التمييز التي عانت منها الشعوب المستعمَرة، والذي لا يزال أحفادهم يعانون منه- حيّزا أكبر مقارنة بالماضي؟ وما الذي تُخفيه التسمية “يسارية إسلامية” الساعية لتشويه سمعتها؟
يتبيّن ببساطة بأنّ أحفاد المستعمَرين قد انتهوا إلى الوصول إلى المصادر الفكريّة، الاجتماعية والسياسية، متمكّنين بذلك من القيام بما حُرم منه آباؤهم طويلا: المشاركة في كتابة تاريخهم، والمطالبة بحقوقهم التي جُرّدوا منها لفترة طويلة.
إنّ ردة الفعل هاته مع السيرورة التي تتولد عنها طبيعيّة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا مفيدا: إذا أراد المجتمع الفرنسي أن ينجح في طيّ صفحة الاستعمار، فعليه في واقع الأمر أن يقبل بادئا بكتابته.
ليس هناك من جديد إذن في استعمال هذا المصطلح، والذي نجد من الأهمية أن نذكّر بالمعنى الذي منحه إياه مؤسِّسه، عالم الاجتماع المناصر لإسرائيل بيير آندري تاغيف. فقد كانت غايته من استعمال هذا المصطلح سنة 2002 هو النيل من الدعم الذي يقدمه اليسار الفرنسي للمقاومة المتجسدة في “حماس” الفلسطينيّة. ومن ثمّ، بات استخدام “الإسلامية-اليسراوية” مع هذه الطريقة المؤسّسة، يهدف إلى الطعن في مصداقية مقاومة جزء من معسكر أولئك المسيطَر عليهم.
“إسلاميّة” أم/و “عنصرانية”؟
يتّضح بعد ذلك بأن هذه المطالب، لا سيما عندما تصدُر من الشعوب ذات الثقافة الإسلامية، يُعبّر عنها من جانب بمعجم هذه الثقافة نفسها المهمّشة من طرف الثقافة الغربية المهيمِنة. كما يعبّر عنها عن طريق معجم غير ديني، في حال صدورها هذه المرة عن الشعوب غير المسلمة لجنوب الساحل (غير المعنيّة الوحيدة بذلك).
لكنّه في الحالتين معا، وأمام مطالب توصف إمّا بكونها “إسلامية” وإما “عنصرانية”، تظلّ ردة الفعل المهيمنة للضفة الغربية من العالم هي نفسها: هي تلك المنكِرة، والحاطّة من المصداقية، والمحتقِرة، بل والمجرِّمة أيضا. لا يحق في نظرهم للمعجم “الإسلامي” أن يحمل مطالب غير طائفية.
وبهذه الكيفية، يمكن لـ”مارين لوبين”[2] (شأنها شأن كل قرنائها في اليسار كما في اليمين)، أن تتّهِم بدون رادع أولئك الذين تُدينهم كـ”عنصريّين”، بالرغبة في “بناء حواجز عنصرانية داخل المجتمع”، في الوقت الذي يمتلك فيه هؤلاء الذين تستهجنهم، منهجا مناقضا تماما مع هذا المنزلق.
يتبيّن أخيرا بأنّ هذه المطالب والتساؤلات مدعومة في المركز الوطني للبحث العلمي [الفرنسي] (CNRS)، مثلما هو الأمر تماما داخل الجامعات، أو على الأقل مقدّرة، من طرف أغلبيّة عريضة من العلماء.
هذا هو السّياق الذي باشرت فيه شريحة من الجامعيّين، وهي أقلية جدا، لكنها تتوفر على دعم قوي من الطبقة السياسية وإعلام اليمين المتطرف، مطالبتها بتدخل السلطات العمومية. وبهذه الوسيلة، لم تتردد في النأي بنفسها عن الإجراءات التقليديّة للنقاش الأكاديمي، التي تميل –سواء داخليّة أو مشتركة- إلى حماية الحقل العلمي من كافة تدخلات الهيئات الحكوميّة، التي يُحتمل أن تكون سياسوية.
لكنّ هناك واقعا تاريخيّا آخر لهذا “الإسلامية-اليسراوية”.
“الإسلامية–اليسراوية” موجودة، لقد التقيتُها!
بعيدا عن التباسات وزيرة التعليم العالي الفرنسي فريديريك فيدال (Frédérique Vidal)، التي تخلط في وصفتها عن الإسلامية-اليسراوية بين مهاجمي مقر الكونغريس الأمريكي والحركات الاجتماعية للمثليين (LGBT)، ودراسات الجندر، فإن تاريخُ العلاقة بين المثقفين أو القوى السياسية لليسار المتطرف ثمّ لليسار، خارج العالم الإسلامي أو داخله، مع الناشطين السياسيين الإسلاميّين، يحتوي من ناحية أخرى على بعض أوجه تقارب ” إسلامية-يسراوية ” تعطي أساسا آخر وقائعيا وتاريخيا، أي أساسا بنّاء أكثر لهذا المفهوم.
ضمن هذه التشكيلة التحليلية، تفيد “اليسراوية” (gauchisme) “يسارَ اليسار” (مستثنين بذلك الاشتراكيين والشيوعيين)، بينما “الإسلامُ” هو المرجعَ لمختلف التيارات الشرعية للإسلام السياسي –المنفصلة تماما عن التضخم الجهادي- والتي أبانت عن قاعدة شعبية جلية بشكل واضح مع فجر الربيع العربي.
وعليه، يمكننا فعليّا وسم باسم “الإسلامية-اليسراوية” ذلك التفاعل وأحيانا ذلك التقارب الفكري والسياسي المتشكّل في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بين نضالات بعض مكوّنات اليسار المتطرف، خاصة الفرنسية، وبين تلك المرتبطة على الأقل بناشطي جزء من الطيف العريض للإسلام السياسي.
وفي الحقل الفكري، يمكن اعتبار الفيلسوف ميشال فوكو، بملاحظته المستفزّة؛ “الشرط الأول لمعالجة مسألة الإسلام في السياسة، هو ألّا نبدأ بزرع الكراهية في هذه المعالجة”، أول من تجرّأ على الإعلان عن إمكانية اعترافٍ بالناشطين المعتمِدين للمعجم الإسلامي.
ولأن ولادته كانت مع فجر الثورة الإيرانية، فلم يتم زعزعة هذا التقارب بعد ذلك أبدا داخل المعارضات التي تواجه الأنظمة الاستبدادية المتشابهة، لا في العالم العربي السني، ولا في جيوبه الشيعيّة أيضا.
كما أن انطلاقه ضمن ميدان توافُقيّ جدا لمقاومة التدخلات الأجنبية، جعل تطوره يتجه نحو التركيز على قضايا المطالبة بالديموقراطية وبدولة القانون.
سانت إيجيديو واختراق “الإسلامية-اليسراوية” للمجتمع المدني الجزائري
إحدى تعبيرات هذه الإرادة للتقارب تجلّت مع رواد “الحوار القومي الديني”، المنظّم من طرف رجل السياسة والدين السوداني حسن الترابي مع بداية تسعينيات القرن العشرين بالخرطوم.
وقد عرفت هذه الدينامية بعد ذلك ترجمات متعددة على مستوى الممارسة العملية في نطاقات متعددة من المغرب الكبير والشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين. ومن ثم، وبشكل غير متوقع ، نجحت اتفاقية سانت إيجيديو في سنة 1995 في توحيد أطراف المعارضة الجزائرية، ابتداء من التروتسكيّة لويزة حنون، إلى ممثل جبهة الإنقاذ الإسلامية (FIS) أنور هدّام.
جاءت بعد ذلك توافقات مستمرة بدرجات متفاوتة، بين اليساريين، “العلمانيين” أو المسيحيين، والإسلاميين، تأكيدا لهذا التطور السعيد. ففي لبنان، وعلى مستوى السّجل الطائفي، فتحت الشراكات بين المسيحيين العونيّين وحزب الله الشيعي، لأول مرة في فبراير 2005، ثغرة في الجدار الذي يعزل الإسلاميين، سواء من أجل الأفضل أو الأسوء.
وفي تونس، وحتى قبل الحكومة اليسارية الإسلامية للترويكا (المؤتمر من أجل الجمهورية، التّكتُّل، والنهضة) لنونبر 2011، فقد أبان اتّفاق 18 أكتوبر 2005، بين أطياف المعارضة اليسارية والإسلاميّين، عن نفس المسار، متبوعا عام 2006 بالموقِّعين على اللقاء المشترك باليمن، أو في عراق 2018 بالتحالف الانتخابي لمقتدى الصدر مع الحزب الشيوعي.
هناك ميدان أخير جاء لتوسيع حقل التقاربات، وهو ذاك الذي يخص النضالات النسوية؛ حيث هنا أيضا تم إطلاق جسور حيويّة بين الناشطات الإسلاميات ونظيراتهن العلمانيات أو غير المسلمات، أساسها الرفض الشغوف القادم من “العلمانويّات” الفرنسيات.
عرفت أشكال التآزر هذه التي لم يكن من الممكن تخيلها لزمن، كجُزر للواقعية، ترجمات متعددة خارج العالم الإسلامي، وتجلى مثال ذلك في إطار الملتقى الاجتماعي العالمي لتونس في 2013.
ويبدو إذن بأن اعترافا هامشيا جدا بالإسلامييّن وبشرعية ممكنة لمطالبهم الاجتماعية أو السياسية، والتي لا تعدو كونها دنيوية وكونية، قد حصل فقط انطلاقا من اليسار المتطرف الأوروبي.
استمرارُ الرّفض الغربي
ومع ذلك وضمن أغلبيتها الساحقة، لطالما رفضت النّخبة الفرنسية المثقفة الاعتراف عناداً بشرعية لمطالبهم الاجتماعية أو السياسية، ابتداء من “إيريك زمور”[3] المثير للجدل، مروراً بالسياسي “جون بيير شوفينمون[4]” وغيره كثر، -للأسف- وصولاً إلى القمم الأكثر شهرة إعلاميّة في الجهاز الأكاديمي، بل ورفض الاعتراف حتى بوجود تطابق ما.
بينما حبس اليسار الاشتراكي والشيوعي نفسه (خاصة طوال “العقد الأسود” الجزائري [1992-2002]) في موقف من الإقصاء العاطفي تقريبًا للفاعلين الإسلاميين، حدث بالمقابل اعتراف خجول، سرعان ما أصبح متبادلاً، لا سيما بين الرابطة التروتسكية والتيارات الإسلامية مثل النهضة في المغرب العربي، أو حماس في فلسطين.
هذا التقارب الذي نرى له راهنيّة أكثر من أيّ وقت مضى، لم يعد من الممكن إنكاره، ولا التهكم منه ولا تجريمه، كما يحدث بالرغم من ذلك وبولع في هذه الفرنسا التي أصبحت مجالا لـ “عنصرانية الأجواء”، ومُعسكرا لازدراء ” الإسلامية-اليسراوية”.
صحيح بأن أن مثل هذه الحملة تشن اليوم بشكل خاص من قبل جبهة عريضة: هذه الجبهة التي تجمع الغربيين بمخاوفهم الوجودية من الجيل الجديد للناشطين لــ”معاداة الإمبريالية” القديمة.
لكنّ هؤلاء استفادوا من تفشيّ قدرة إسرائيل الطاغية على التواصل، من أجل نزع الشرعية “على الطريقة الإيديولوجية” من قلب المقاومة الفلسطينية المتمثل حاليا في حماس.
وفي الآونة الأخيرة، أصبحت الأسطوانة الضاغطة التي تهدّدُ الرافضين لتجريم الجيل الإسلامي كاملا، تتغذى على موارد هائلة لرابطة “ديكتاتوريون بدون حدود” للثورة العربية المضادة بقيادة الإمارات العربية المتحدة و”بطلها” الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
الخروج من الأنموذج التّاريخي الفرنسي
يعبّر المسار الثوري “على الطريقة الفرنسية” بالفعل، عن عدم إمكانية تجاوز الخصومة بين المعجم الديني والتحديث السياسي. وبالتالي ينبغي على المناصرين لتصور أكثر عقلانيّة لتيارات الإسلام السياسي، إثباتُ القدرة على أخذ مسافة مع النسخة الفرنسية الضيقة للأنموذج الثوري. وبالتالي الظهور على أنهم قادرون -على عكس الهيئات المهيمِنة المروَّج لها تحت غطاء “الدفاع عن العلمانيّة”- على التفكير في الموجة الإسلامية في بُعدها “الهويّاتي” أكثر منه في بعدها الديني.
إنّ قبول الاعتراف بشرعيّة البعد الهويّاتي لنهج الناشطين في الإسلام السياسي أو بالدراسات المنعوتة ب”العنصرانية” المشارِكة في التعبير عن نفس الديناميكية ما بعد-الاستعمارية، يؤدي بعد ذلك، لا شك، إلى عدم الاستسلام للتبسيطية -التي سقطت فيها وزيرة التعليم العالي- المتمثّلة في المساواة بين نوعين من الفاعلين وشكلين من الاحتجاجات مختلفين بقوّة: مناضلي حركة “حياة السود مهمّة”، والمجانين الذين اقتحموا مقر الكونغريس الأمريكي، يعني بين أحفاد مناضلي الجنوب المستعمَر الحاملين لـ”إثبات ذات مضادّ” كردة فعل، وبين المزايدة المتعصّبة والمتعالية المتفاقمة لناشطي الشمال المستعمِر الذين يعيشون نوعا من الإحساس بالانهيار.
إنّها خطة شاملة إلى يومنا هذا حيث لا تشذ عنها إلا أقلية صغيرة من الملاحِظين والمثقّفين أو الناشطين السياسيّين –أولئك المشار إليهم، لتشويه سمعتهم، على أنهم “إسلاميون-يسراويون”- التي تقبل بالاعتراف بشرعيّة البعد الهويّاتي باعتباره ليس فقط ممكنا وإنما باعتباره هدفا مأمولا، بل ولازما للعيش سويّا وطنيا أو دوليا.
وفي الواقع، فإن جرعةٌ إضافيّة من “الإسلامية-اليسراوية” لن تُلحق سوءاً بالكوكب من دون شك. وعند الفحص الدقيق، فإن العلاج الذي يجب أن يتلقاه هؤلاء الإسلاميون-اليسراويون لن يكون ذلك الذي دعت إليه الوزيرة ومرشدوها من اليمين المتطرّف الحكومي. فهو، مع الأسف، العلاج اللازم للدوامة المتصاعدة لأشكال التطرّف التي تغذيها حاليا وبشكل خاص في فرنسا، عملية مطاردة “الإسلامية-اليسراوية “.
الهوامش
نشر هذا المقال ضمن موقع “ميدل إيست آي” بتاريخ 17 مارس 2021، أنظر:
https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/france-islamogauchisme-gauche-islam-politique-postcolonialisme-convergences
[1] العنصرنية “racialiste”: يشير هذا المصطلح إلى عقيدة تؤكد وجود أجناس بشرية متمايزة، وليس هناك نوعًا بشريًا واحدًا.
[2] مارين لوبين “Marine Le Pen” زعيمة الحزب اليميني المتطرف “التجمع الوطني”.
[3] إريك زمور “Éric Zemmour”(1958-): صحفي وكاتب فرنسي محسوب على اليمين المتطرف. وقد أكسبته العديد من تصريحاته العلنية إدانة من قبل المحاكم الفرنسية: لإثارة التمييز العنصري في عام 2011، والتحريض على الكراهية تجاه المسلمين في 2018 و2020.
[4] جون بيير شوفينمون “Jean-Pierre Chevènement” (1939-): سياسي فرنسي تولى عدة مناصب في حكومات اليسار كما تولى رئاسة مؤسسة إسلام فرنسا. وهو معروف بنزعته القومية وبمواقفة العلمانية الصارمة خصوصا تجاه المسلمين.