-1-
ثـَمَّةَ وِفاقٌ معرفيٌ بين أعلامِ الفِكر والإصلاحِ في العالم العربي والإسلامي -لا سيما لدى جَمْهَرة الـمُشتغلين بالدراسات الحضارية والأدبية العربية الحديثة-، بأن اللغة العربية الفصحى هي مكونٌ رئِيس في هُوية المجتمعات العربية والمسلمة، وأن أيَّ مُزاحمةٍ للعربية هي مزاحَمةٌ لروحِ الثقافةِ في هذه الشعوب. ويرتقي ذلك الوِفاق المعرفي على أهمية اللغة العربية إلى درجةِ الإجماعِ العلمي الـمُعتبر في مناهجِ البحثِ والنظر.
وقد ازداد الوعي بالتهديد للفصحى في تاريخ الفكر العربي والإسلامي الحديث حينما أفاقت هذه الشعوب على ثلاثة أحداثٍ خارجية كبرى، شكلت الدوافع الأولية للوعي بأزمة العربية الفصحى، أولها: الاستعمار الغربي الذي فرضَ لغتهُ الغالبة على دول عربية وإسلامية، والثاني: التشريع القانوني لِلُغَة المستعمِر -لا سيما الإنجليزية والفرنسية- باعتبارهما لغات للعلوم الحديثة، عبر مؤسسات التكوين والتعليم النظامي في العديد من بلدان العالم العربي والإسلامي، والحدث الثالث: الاستشراقالـمُسَيَّس الذي رافق الحملات الاستعمارية، وقام عبر اهتمامه باللهجات المحلية بتصعيدِ صوت العامِيَّة[1]= الأمر الذي أدى إلى مزاحمة للعربية الفصحى.
كانت المجتمعات المسلمة قديمًا بفضل امتداد الحضارة الإسلامية شرقًا وغربًا تمتزج بالشعوب المجاورة، والعديد من القبائل العربية استوطن بلدان أعجمية اللسان، والعكس قد حصل في التاريخ الإسلامي والحديث: حيث إن شعوب ما وراء النهر، وشمال الجزيرة الفراتية، وجنوب الصحراء الكبرى، وبلدان الأرخبيل الآسيوي تتداخل أفواج منها في أرض العرب، وتنصهر في الثقافة العامة التي كان ينطق العقل الثقافي فيها باللغة العربية.
ورغم التواصل المعرفي الكبير الذي حصل إبان العصر العباسي في ترجمة الفلسفة اليونانية والحكمة المشرقية= إلا أن نظام اللغة العربية الفصحى، ومنهج البحث فيها، والتأسيس المعياري لنحْوِها، وصرفِها، وبلاغتِها بقي بمنأى عن التأثير الأجنبي والأرسطي[2].
-2-
كما أن جمهور المفكرين والأدباء في العالم العربي يتفقون على أن لهجات الشعوب العربية ولغاتها العامية على اختلافاتها المحلية، وتنوعاتها المناطقية= تحوي الكثير من العربية الفصحى، وقد جمع كثير من الباحثين أصول الكلمات العامية ذات الجذر الفصيح، مثل موسوعة: ((العاميات الفصاح في لهجاتنا المعاصرة)) لمحمد التركستاني، و((معجم العامي الفصيح من كلام أهل الشام)) لمحمد رضوان الداية، وموسوعة ((الأمثال العامية في نجد)) للرحالة العبودي، وغيرهم كثير.
وفي مطلع التاريخ العربي المعاصر أدلى عددٌ من أدباء العصر في شأن علاقة العامية بالفصحى= ففي منتصف القرن العشرين للميلاد كتب أحمد رضا العاملي (تـ/ 1953م) كتابه الشهير ((رد العامي إلى الفصيح))، وفي ذات الحقبة الزمنية كتب محمد كرد علي (تـ/ 1953م) مقالةً أشار فيها إلى كثرة اهتمام الباحثين في زمنه في شأن علاقة العامية بالفصحى، وقد جعل عُنوان مقالته: (العامية من الفصحى[3]) وهو عُنوانٌ دالٌ على مقصوده= حيث عرض فيه لمنتخباتٍ من اللهجات العامية ذات الأصل العربي الفصيح من كتابٍ اسمه ((القول الـمُقتضب فيما وافق لغة أهل العصر من لغة العرب))، ألفه الشيخ محمد ابن أبي السرور البكري الصديقي(تـ/ 1006هـ=1597م) من أعيان القرن الحادي عشر الهجري.
-3-
لم يكن البحث في جذور اللهجات العامية الفصحى عند أدباء الرعيل العربي ومفكريه، دعوة إلى تطبيع اللهجات المحلية في دوائر العلم والثقافة، وما دار بـخلد أحدٍ من رواد الآداب العربية في التاريخ الحديث أن يجعل اللهجات الشفاهية العامية لغةً للعلم والأدب.
الأمر الذي دفعني لهذا القول هو المسوخ الأدبية التي نراها اليوم= من ظاهرة انتشار الكتب المكتوبة بالعامية، والتي تتنامى تحت ذرائع تجارية، وتُسهم في تلويث الذوق الأدبي العربي= فقد رأيتُ ((رسالة الغفران))، لأبي العلاء المعري مكتوبة بلهجة عامية يَنوءُ عنها كل ذوق أدبي، وقبلها رأيتُ رواية ((الشيخ والبحر))، لـ همنجواي، مكتوبة بلهجة عامية مصرية كذلك.
-4-
لقد شكى أحمد أمين (تـ/1954م) في منتصف القرن العشرين كذلك عبر مقالة دالَّة في مضمونها على عُنوانها= (أدبُنَا لا يُمثِّلُنَا[4]) وهو يقصد به ذلك الأدب ذو اللغة العصيَّة إلا على النخبة العالِمة والمثقفة، وحاول تقديم نظرة إصلاحية للأدب العربي الحديث من داخل الأدب، وليس عبر تحفيز اللهجات العامية لتزاحِم الفصحى في شؤون المعرفة والعلوم، ذلك الأدب الذي يعتبره أمين مظهرًا من مظاهر التخلف والانحطاط، وعائقًا في طريق النهوض الحضاري:
“أما الأدب الحديث العربي فهو لا يكفي لغذاء الجيل الجديد؛ لأنه لم يملأ حياتنا، وإن شئت فاستعرض كل شئون الحياة تجده لم يحقق رسالته؛ فإن أحببت أن تضع في يد أطفالك في سنيهم المختلفة كتبا في القصص، أو في الثقافة العامة لم تجد إلا القليل الذي لا يكفي، على حين تدخل المكتبة الأوربية فيملؤك العجب والإعجاب من وفرة الكتب للأطفال على اختلاف أنواعها، ومما حُلِّيت به من الصور الجذَّابة، والأسلوب المشوق البديع؛ فالأوربي يحار فيما يختار لأطفاله لوفرته، ونحن نحار فيما نعطي لندرته!
وإن توجهت وجهة الأناشيد والأغاني رأيت فقرنا في هذا أبْين من فقرنــِا في سابقه، وهي بين عامية مبتذلة سخيفة لا تمثل حياتنا، ولا تساير نهضتنا، وبين عربية قليلة ضعيفة فاترة؛ وإن التفت إلى الكتب التي تغذي الشعب والجمهور رجعت بالخيبة، وحتى كتب المتعلمين إنما تكثر إذا كانت مقررة في المدارس ليؤدي الطلبة منها امتحاناتهم، أما ما عدا ذلك فقليل ضعيف”.
يا ترى ما الذي سيقولهُ أحمد أمين لو رأى عُيون الأدب العربي والغربي تُكتب بلغةٍ عاميَّةٍ مُبتذلَة وفاتِرة، لا ترقىَ بذوقٍ، ولا تُسْهِمُ في نقلِ معرفةٍ، ولا تُنتِجُ علمًا، ولا تُبدِعُ في خَيال[5].
إن العاميَّة الدارِجَة إذا تسلَّلَتْ إلى لغة التداول المعرفي، ستؤدي بالضرورة إلى تعسر الفهم للوحي القرآني= فاللغة الفصحى هي أداة الفقه والفهم للنص الديني وتفسيره، وهي ناهيكَ على كونها جِذْر الـهُوية الثقافية فإنها أفقٌ للتفكير والتفكير الحضاري.
—————
* الإحالات:
[1] يُنظر: موسى بناي، أسباب انتشار العامية وموقف جماعة من المستشرقين ومناصريهم منها، مجلة: آداب الرافدين، العدد: 8، يناير 1977م، (ص407-442).
[2] السامرائي، إبراهيم، النحو العربي في مواجهة العصر، ط، الأولى، دار الجيل، بيروت- لبنان، 1415هـ=1995م، (ص45) بنحوه.
[3] محمد كرد علي، في الأدب والفن واللغة، ط، الثانية، دار الرافدين، بغداد-العراق، 2022م، (1/193-199).
[4] أحمد أمين، فيض الخاطر، ط، الأولى، دار التقوى، القاهرة-مصر، 1442هـ=2021م، (1/100-103).
[5] يُنظر: سعيد بنكراد، مدارات اللغة بين الفصيح والعامي، ط، الأولى، المركز الثقافي للكتاب، المغرب، 2022م.