مقدمة المترجم
تأتي ترجمة هذا المقال لعالِم الإسلاميات الألماني توماس باور بغرض تسليط الضوء على مفهوم أساسي ومركزي وجَّه فكر الرجل وشغَل باله على مدار أزيد من عقدين، الأمر يتعلق هنا بمفهوم “الالتباس”. فبدراسة هذا المفهوم وربطِه بالثقافة ضمن السياق الإسلامي استطاع باور الوصول إلى نموذج تفسيري جديد وفعّال مكّنه من مناقشة وتحليل الأبنية الفكرية والثقافية للحضارة الإسلامية من جهة وأبنية الحداثة الغربية من جهة أخرى، وهو ما برز جليا في عدد من كتبه وأبحاثه ودراساته، لعل أبرزها في هذا المجال، كتاب :”ثقافة الالتباس: تاريخ آخر للإسلام”.
والالتباس Ambiguität في هذا السياق وخلافا للاستعمال السلبي الشائع، هو قيمة إيجابية تكمن في وجود معان متعددة وحقائق متباينة وهي في الآن نفسه متجاورة ومتعايشة، فالتسامح مع الالتباس يعني ببساطة التسامح مع تعدد القراءات والقبول باختلاف وتمايز المواقف إزاء ظاهرة أو مفهوم مِن طبيعته حمْلُ معان متناقضة أو متنافسة.
ويرى توماس باور أن التسامح مع الالتباس أحد أهم السمات التي ميزت الحضارة الإسلامية في عصرها الكلاسيكي قبل مرحلة الاستعمار الغربي، فالعالم الإسلامي شهد تقبلا واسعا للتنوع والتعدد على مختلف المستويات (المذاهب العقدية، المذاهب الفقهية، القراءات القرآنية، التفاسير، الأدب…). إلا أن هذا التسامح مع الالتباس شهد تراجعا كبيرا بفعل احتكاك المسلمين بالغرب علميا وثقافيا وسياسيا، وتأثرهم برياح الحداثة الغربية -بسبب نزعتها العقلانية- المناهضة للتعدد والالتباس، والواحدية تماما رغم ادعائها عكس ذلك.
وقد تُرجمت كلمة Ambiguität دلاليا بــ “تعدد القراءات”[1]، إلا أننا نفضل ترجمتها ترجمةً مباشرة للأسباب التالية:
أولا: لأن لفظ “التباس” ليس له دلالة واحدة في جميع حقول المعرفة داخل المجال التداولي العربي، ففي بعض الفنون يتطابق مع المعنى الذي نقصد، إذ في علوم اللغة، الالتباس الدلالي هو “احتمال الكلام لأكثر من معنى، وقد يكون ذلك نتيجة للتعقيد المعنوي”، أما في الصرف والنحو فالالتباس النحوي هو: “عبارة تتحمّل أكثر من معنى بسبب تركيبها النحوي”[2]. وليس هناك من موجب يُلزمنا باستبعاد لفظ “الالتباس” لمجرد دلالته السلبية في الاصطلاح الفقهي، وإلا سقطنا بدورنا في معاداة الالتباس!
ثانيا: لأن في ذلك مدعاة إلى تمحيص الفكر وتدقيق النظر في هذه الظاهرة المتفردة، فدراستها انطلقت في منتصف القرن الماضي ضمن مواضيع علم النفس قبل الانتقال إلى مجالات أخرى، ولم تكن حاضرة بقدرتها التفسيرية والتحليلية من قبل، رغم ما زخر به التراث الإنساني من حديث عن الاختلاف والتنوع وتعدد القراءات والقبول بالآخر..
ثالثا: لأن تعدد القراءات قد يكون ناتجا عن طبيعة النص أو الظاهرة أو مفارقا لها، بينما الالتباس لا يمكن أن يكون إلا مرتبطا بطبيعة النص أو الظاهرة نفسها.
والمقال بين أيدينا يحمل عنوان “الالتباس: يحيا عدم اليقين” وقد نُشر سنة 2019 في جريدة (الوقت Die Zeit) الألمانية، يتناول فيه توماس باور نظرته بخصوص ثقافة التسامح مع الالتباس مقارنا بين ما يسميه الإسلام الكلاسيكي والإسلام المعاصر، مبرزا في الآن نفسه دور الحداثة الغربية وتجلياتها في تشكيل صورة مغايرة تماما عن الإسلام في المخيال الأوروبي من جهة، وإحداث تغيير في الإسلام المعيش نفسه تمثل في ظهور كل من التيار الأصولي والتغريبي من جهة ثانية.
نص المقال
نحتفل بمرور سبعين عاما على القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وسبعين عاما على السكك الحديدية الفيدرالية، وسبعين عاما من قيام جمهورية الصين الشعبية، وسبعين عاما من نقانق الكاري وأشياء أخرى.. لكن من المؤكد وجود ذكرى تاريخية سينساها الجميع، الأمر يتعلق هنا بمفهوم “التسامح مع الالتباس” الذي مر على ظهوره أيضا سبعون عاما.
في عام 1949 نشرت عالمة النفس إلز فرنكل برونسفيك Else Frenkel-Brunswik مقالا يحمل عنوانا عريضا هو: “عدم التسامح مع الالتباس كمتغير عاطفي وإدراكي”[3]، وبذلك أدخلت مفهوم التسامح مع الالتباس إلى المجال التداولي العلمي. فالتسامح مع الالتباس سمة شخصية تتمثل في النظر إلى هذا الالتباس والغموض وتعدد المعنى على أنه إثراء، فالشخصية المتسامحة مع التعدد تتحمل التناقضات وتطيق أوجه عدم اليقين وتقبل وجهات النظر الأخرى.
ولقد أُدرجت هذه الاستنتاجات سنة 1950 ضمن الدراسة التي نشرتها كل من فرينكل وأدورنو وآخرين حول “الشخصية الاستبدادية”[4]، ثم تبعتها دراسات أخرى سنّت مفهوم “عدم التسامح مع الالتباس”، لكنها بقيت نوعا ما مهمشةً في علم النفس. والحقيقة أن التسامح مع الالتباس ليس مجرد طابع نفسي متعلق بالفرد فحسب، بل هو أيضا سمةٌ من سمات المجتمعات التي تتصف بقدر أكبر أو أقل من التعايش مع التعدد.
إن الإسلام في تجربته التاريخية وتصوراته كان وثيق الصلة بالتعايش مع التعدد. لكن فعلا في السنوات العشرين بين بداية دراستي سنة 1980 وعملي كأستاذ في مونستر، لم يتغير “الإسلام” جوهرياً فحسب، بل تغيرت أيضا الصورة التي يحملها عنه الجمهور في أوروبا. ففي عام 1980 كانت هذه الصورة مركبةً نوعا ما، لقد كانت مزيجا من حكايات ألف ليلة وليلة، وروايات كارل ماي، والديوان الغربي والشرقي لغوته… لكن بعد مرور 20 عاما على ذلك، أصبحت الصورة بسيطة* ولم تعد مركبة، بل أصبحت في كثير من الأحيان واحدية تماما (ومعادية علنا في الغالب). غير أن المجتمعات الإسلامية تغيرت بدورها أيضا -بطبيعة الحال مقارنة بالإسلام الكلاسيكي- فهي لا تزال قويةً إلى حد كبير مقارنة بظروف عام 1980، لا سيما بعد صعود التيارات الأصولية، وبالتالي أصبح كلٌّ من الإسلام والصورةِ الغربية عنه أكثرَ واحدية.
لكن كيف تم فرض الدلالة الواحدة** على الإسلام؟ لقد اتسمت المجتمعات الإسلامية على مدى قرون عديدة بـ “ثقافة الالتباس”، وهي ثقافة تتميز بقدر كبير ومذهل من التسامح مع تعدد القراءات، إذ استطاع رجال الدين أن يحظوا بسمعة طيبة رغم كتابتهم لقصائد عن محاسن النبيذ وشعر الغزل المثلي. لقد كان الشعر دنيويا إلى حد كبير، وعلاوة على ذلك يشهد سعادة غير محدودة بمختلف أنواع تعدد المعنى. وكان علماء الدين سعداء بتعدد تفسيرات القرآن، ولم يحاولوا قط أن يجعلوا أحد التفسيرات المحتملة هو التفسير الوحيد الصحيح. إذ في نهاية المطاف عظمة الله تتجلى في القدرة على إيراد المعاني الكثيرة من خلال الآية الواحدة.
نهاية هذه القصة آلت إلى ضياع التنوع وتراجعٍ شديد في التسامح الديني والتعددية التي لطالما ميزت الشرق، ولا يمكن بحال العثور عليها في أي من “العصور الوسطى” أو القرون الممتدة من التدهور.
لقد كانت نقطة التحول الحاسمة خلال القرن التاسع عشر، وخاصة في النصف الثاني منه، وبشكل أكبر في القرن العشرين، حيث لعبت الإمبريالية والاستعمار الأوروبي دورا مهما في هذا المسار. لكن الأهم من ذلك كان تبادل النخب في المجتمعات الإسلامية. فقد قام الضباط والفنيون الذين تلقوا تكوينهم في الغرب بإزاحة العلماء والمثقفين المتمسكين بالتقليد القديم، فكانت ردة فعل هذه النخب الدينية الثبات على مواقفها السابقة وتوضيحها (بمعنى: تحييد الالتباس).
أما على مستوى الأدب فقد حصلت قطيعة تامة أيضا، إذ غالبا ما يتم رفض الأدب الكلاسيكي بسبب موضوعاته الماجنة و”غير الإسلامية”.
لا وجود لدين بدون تعدد للمعنى
من البيّن أن المضي بعيدا عن الالتباس ونحو مزيد من الوضوح في المجتمعات الإسلامية له صلة أكيدة بأوروبا. لكن كيف حدث هذا في أوروبا نفسها؟
لا يمكن إلقاء اللوم بأي حال من الأحوال على ما يسمى بــ “العصور الوسطى”. يكشف السرد القصصي الهيغيلي عن مدى ظلامية “العصور الوسطى”، والتي –بالمناسبة- هي الفترة الزمنية الوحيدة التي تلعب فيها الحضارة الإسلامية دورا هاما، كما أنها قبل كل شيء توفر الخلفية المظلمة لقصة التقدم الذي يبدأ بالإصلاح ويمر من خلال التنوير وصولا إلى الحداثة الغربية.
لم يكن الإصلاح خطوة نحو مزيد من التسامح مع الالتباس، فمبدأ “هنا أقف ولا أستطيع غير ذلك”[5] على سبيل المثال، لا يعبر إلا عن رفض تعدد القراءات. وكذلك مبادئ (sola)[6] لـمارثن لوثر، فمن أجل التمسك بمبدأ “sola scriptura” على سبيل المثال، يتوجب تقليص التفسيرات السابقة ونزع الشرعية عنها.
ومثل هذه الذهنية المناهضة للالتباس توفر ظروفا سيئة للدين. في القرن العشرين تولت الرأسمالية السيادة وحلّت محل الدين تدريجيا في كل مناحي الحياة، وكما كان الدين من قبل في كل النظم الفرعية للمجتمع تقريبا، فإن الرأسمالية أصبحت في جميعها اليوم. كما لم يعد الاقتصاد مجرد نظام فرعي اجتماعي، بل أصبح النظامَ الشاملَ الذي كان ذات يومٍ دينًا.
ولكي يحدث هذا، فقد تطلب الأمر أكثر من مجرد أخلاقيات كالڤينية، بل تطلب الأمر ذهنيةً مناهضة للتعدد (كي يقبل العلماء والباحثون دون تعقيب أن الجامعة لم تعد لتحصيل العلم والمعرفة بل لتحصيل النقاط!).
فمن ناحية تتمتع الرأسمالية بالقدرة السحرية على تحويل كل شيء تقريبا إلى أرقام لا لبس فيها، بما في ذلك ما هو غير مادي مثل الفن (فالعمل الفني يستحق بقدر ما يجلبه في المزاد !) ومن ناحية أخرى، تجعل الرأسمالية نفسها المرجعية النهائية (فمن جانب المنتِج: النجاح هو الأساس، وكل الآخرين منافسون، ومن جانب المستهلك: الاحتياجات هي الأساس)..
هذه الأخيرة هي مرحلة ضمور جوهر البروتستانتية –إن جاز التعبير- وبوابة نموذج الأصالة الذي هو قوي جدا اليوم، وهذا يفترض وجود ذات “حقيقة” غير مخدوعة بالثقافة والتعليم، يجب أن نكون متطابقين معها لنكون نحن “أنفسنا”.
ماذا يعني هذا بالنسبة للدين؟ لا يوجد دين بدون تعدد المعاني، فهذا ينطبق على المذاهب في مفارقاتها، وينطبق على النصوص المصدرية والتي مثلها مثل جميع النصوص المركبة، مليئة بالغموض وتتطلب تفسيرًا لا يمكن أن يكون قاطعا ونهائيًا.
بين واحدية المعنى وغياب المعنى
ينطبق أيضا على الطقوس التي تعارض باستمرار نزعة اليوم في الرغبة في فهم كل شيء وإبداء الرأي في كل شيء، ولكن الآن وكما يقول فيلسوف الدين رومانو جوارديني فإن الدين يحتاج إلى الثقافة: “إن الثقافة لا تستطيع أن تخلق ديناً، ولكنها توفر له الوسائل اللازمة لتطوير تأثيره المفيد بشكل كامل”، إن هذه الثقافة -نفضل الآن أن نسميها “مجتمع”- معاديةٌ للتعدد، بينما الدين لا يمكن أن يكون شيئا آخرا غير الارتباط بالتعدد.
النتيجة الحتمية هي فقدان المركز، هذا التعدد الذي يقبل الشكوك الدينية والصراع الاجتماعي الذي لا يعارض التدين، من الواضح أنه صار أضعف وأضعف، وهذا ليس بأي حال من الأحوال في البلدان المسيحية فقط (بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ، والتي غالبًا ما يتم الاستشهاد بها كمثال مضاد). إن النظرة التي غالبا ما يرى من خلالها المرء الدينَ الإسلامي تتجاهل حقيقة مفادها أنه في كل البلدان الإسلامية ربما لا يحدث شيء آخر غير انحدار الدين المعيش الكلاسيكي وتنامي طرق التعامل مع الدين على النحو الذي يتجنب تعدده.
لكن كيف يتجنب المرء التعدد؟ هناك طريقتان أساسيتان: إما الواحدية في المعنى أو غياب المعنى. فمن ناحية يوجد هناك معنى واحد بالضبط، ومن ناحية أخرى يوجد ما يمكن أن نطلق عليه “غياب المعنى”، والواقع أن هذين القطبين: أي “واحدية المعنى” و”غياب المعنى” يحددان عالم الالتباس، فأولئك الذين لا يريدون التباسا في مسألة الدين سوف يستقرون في أحد هذين القطبين.
“غياب المعنى” في حالة الدين هو ببساطة: اللامبالاة، فمن لا يبالي بالدين ولا يعني له شيئا على الإطلاق، لا يتعين عليه أيضا التعامل مع تعدد المعنى الكامن فيه. أنا متأكد من أن تراجع التسامح مع الالتباس هو الذي يؤدي قبل كل شيء إلى تقهقر الدين الذي يعيشه ويؤمن به الناس، وليست أية عقائد غريبة أو انتهاكات في الكنائس أو برامج ساخرة مسؤولة عن ذلك. ويمكن ملاحظة هذه العملية في جميع أنحاء العالم اليوم – أيضا في المناطق الإسلامية – ومن المؤكد أنها الاستراتيجية الأكثر شيوعاً في تجنب الالتباس في حالة الدين، فالدين يتراجع إذا لم يجلب معه “قيمة مضافة” غير دينية، والتي عادة ما تكون سياسية أو منشئة لهوية.
أما القطب الآخر، وهو “التفسير الواحدي”، فهو أكثر صعوبة في الفهم، ومن الممكن أن يتحقق بطريقتين: إما التسلط أو “التمحور حول الذات”. فأما الطريقة التسلطية – والتي هي الأصولية في نهاية المطاف- فتتمثل في تخيل دين خال من الالتباس، وللقيام بذلك تحتاج بالفعل إلى شخصية ذات سلطة، أي قائد يمكن اتباعه دون قيد أو شرط. أما الطريقة “التي تتمحور حول الذات” على غرار الباطنية، فتتمثل في جعل المرء نفسه شخصيةَ القائد من خلال الاستماع بإصرار إلى نفسه الحقيقية بهدف العثور على الحقيقة هناك، والتي يمكن للمرء من خلالها أن يصبح واحدًا دون أي التباس.
وعلى تنوعها تشترك هذه المسارات في شيء واحد، وهو أنها –لا تختلف كذلك عن الرأسمالية المطلقة- غير اجتماعية بالمعنى الحرفي للكلمة.
هل من الممكن أن يوجد ترياق؟ عند النظر إلى الأزمنة والثقافات التي تميزت بقدر أكبر من التعايش مع التعدد، يكتشف المرء بسرعة شيئًا مثل التدريب المستمر على الالتباس، والذي يمكن أن يكون كتابة أدب غني بالغموض على سبيل المثال. فمن أجل زيادة “لياقة الالتباس”، من المهم بصفة خاصة تقوية تلك المجالات التي تتجاوز العقلانية المعادية للالتباس. ولذلك فمن المهم تعزيز العناصر المرحة للثقافة.
العالم الرقمي غير متسامح مع الالتباس
الفن والموسيقى والأدب والمسرح.. هي بلا شك مجالات نفذَت إليها الرأسمالية منذ وقت طويل. والتواصل الفني يختلف عن التواصل اليومي -على وجه التحديد- في أن العمل الفني يوفر تصورات وردود أفعال مختلفة بين المشاهدين و المستمعين، فهو لا يريد أن يُفهَم بشكل واضح مثل إشارة مرور، ولكنه يفتح مجالات (مساحات) للتفسير والارتباط، بعبارة أخرى: الفن لا يمكن أن يكون فنًّا إلا إذا كان متعددَ المعاني. وإذا كان الالتباس من جوهر الفن كما هو الحال بالنسبة للدين، فإنه يخضع بنفس القدر لخطر “رفض الالتباس” -ويبدو أن هذا هو الحاصل بالفعل، وعليه فإن النموذج المعروض أعلاه للدين يمكن أن ينتقل إلى الفن دون مشاكل.
مرة أخرى لدينا قطبان لتجنب الالتباس، واحدية المعنى من ناحية، وغياب المعنى من ناحية أخرى. فالأخيرة يمكن ملاحظتها في العديد من الأعمال “الفنية” الفاشلة، التي تتألف من قضبان لا معنى لها أو ما شابه ذلك..
أما القطب الأصولي المتمثل في “التفسير الواحدي” فله مجددا طريقتان، إحداهما تتعلق بالخارج والأخرى تتعلق بالذات. يتم استخدام الأولى، على سبيل المثال عندما يستمد “العمل” (كما يقول المرء عادة اليوم لتجنب مصطلح “عمل فني”) معناه كليًا أو في المقام الأول من رسالته الأيديولوجية. وهذا يشمل الكثير من مجال فن العمل السياسي، حيث كما في حالة الأعمال المدهشة لـ “مركز الجمال السياسي”[7]، تُنقل الرسالة الأيديولوجية بدون التباس، لكن الطابع الفني يختفي وراء الغرض.
أما الطريقة الثانية والتي تتمحور حول الذات، فيستخدم الفنان نفسه باعتباره السلطة الوحيدة. هنا يدور الأمر حول “الأصالة” وحول “تحقيق الذات” وهو مصطلح مخادع: فالفنان يحقق ذاته وليس عملاً لأجل المشاهد. لكن لماذا يجب أن يكون مهماً للعالم ما اكتشفه الفنان أثناء تأملاته؟ وهنا تصبح المشكلة واضحة للعيان: فبينما العمل السياسي يكون ذا أهمية كبيرة في المجتمع (أو على الأقل يمكن أن يكون كذلك)، لكن العمل الفني يضيع من خلاله، فالعمل الناشئ عن مجرد “الأصالة” والرؤية الداخلية يظل في الغالب غير مهم للعالَم.
عندما تتم مناقشة الذكاء الاصطناعي اليوم، يتم الموازنة في معظم الأحيان فقط بين الجدوى والأخلاق. العالم الثنائي الرقمي – بسبب طبيعته الثنائية – غير متسامح مع الالتباس. لهذا السبب يجب أيضًا مناقشة الذهنية، بمعنى آخر كيف ستؤثر التطورات في المستقبل على تفكير الناس وإدراكهم وشعورهم. ربما ستنتج الآلات غير المتسامحة مع الالتباس أيضًا أشخاصًا غير متسامحين معه بشكل متزايد.
لذلك، في المناقشات حول مدارسنا، لا ينبغي أن يتم الحديث عن الرقمنة فحسب، بل ينبغي أيضا الحديث عن كيفية تشجيع الإبداع الموسيقي والفني، وهي المجالات التي لا تتمتع بالمكانة التي يجب أن تحظى بها، لأن كل ما هو غامض اليوم أقل أهمية مما لا لبس فيه.
الهوامش
[1] : كما في عرض للكتاب قدمه الدكتور عدنان عباس علي، في موقع الحوار المتمدن، عدد 4496
[2] : معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، الطبعة: الأولى، 1429 هـ – 2008 م، ج3، ص1990
[3] : Frenkel Brunswik. (1948), Tolerance of Ambiguity as a Personality Variable, ,,American Psychologist’’, 3, 268
[4] : Theodor W. Adorno, Else Frenkel-Brunswik, Daniel J. Levinson, R. Nevitt Sanford: The Authoritarian Personality. New Harper und Brothers, New York 1950
* : استعملنا كلمة بسيط في مقابل ما سيأتي بعدها وهو لفظ مركب، رغم أن الكاتب استعمل الفعل دون الصفة “sich verhärten” التي تعني تصلّب أي صار عنصرا صلبا واحدا غير مركب ولا متعدد. فالأمران سيان من الوجه المقصود.
** : اخترنا عبارة “فرض الدلالة الواحدة” في ترجمة كلمة Vereindeutigung، والجملة كاملة في النص الألماني: Wie aber ist es denn zur Vereindeutigung des Islam gekommen?
[5] : تنسب هذه القولة الشهيرة إلى مارتن لوتر بعد أن رفض سحب نصوصه والتراجع عن قضاياه ومطالبه بالإصلاح الكنسي، والعبارة بالألمانية : “Hier stehe ich, ich kann nicht anders”
[6] : كلمة لاتينية تعني (وحده) وقد استعملت من طرف لوثر في الدفاع عن مرجعية الكتاب المقدس، وأن كل الأمور تقاس وترد إليه وحده، فــ (sola scriptura) تعني«بالكتاب المقدَّس وحده»
[7] : مركز الجمال السياسي Zentrum für politische schönheit: جمعية تضم أزيد من 70 فنانا تحت إشراف الفيلسوف والفنان فيليب روش، تسعى من خلال المعارض والأعمال الفنية لفت الانتباه إلى القضايا الإنسانية، مثل الإبادات الجماعية والحروب المدمرة ومشاكل الهجرة ومعاناة اللاجئين..