تمهيد
يعتبر البحث في حفريات هذا المفهوم وجدوره التاريخية تحريا محفوف بالمحاذير الابستيمولوجية، اذ يعتبر محمد غيلاني بأن تاريخ المجتمع المدني أطول وأقدم التواريخ كلها. ذلك أن تحول المفهوم من لغة الى أخرى، وما واكبه من انتقال لمضامين مجمل السياقات السوسيوسياسية، الحبلى بالتنوع والتعدد حد التناقض والتنافر، عبر تاريخ طويل ومعقد يضعنا بالنظر إلى كل هذه الحيثيات أمام مفهوم تاريخي شديد الحساسية إزاء التعريفات الإجرائية والتي ربما تقلل من أهميته النظرية والمعرفية كما تنضاف لذلك الطبيعة المعقدة والمتداخلة للتحولات والانتقالات المرافقة لجهود وأعمال ترجمة النصوص التأسيسية للفكر الفلسفي السياسي والاجتماعي فهو مفهوم تصعب الإحاطة به نظرا لتداخل بين مقاربات متعددة ومختلفة تهتم به مما يطلب منا ضبطه وتحديده. لكي نتمكن من ملامسة خصائصه العامة المحددة له وأهمية هذا المفهوم العلمية يمكنها أن تدفعنا لتساؤل عن مساراته ودلالاته المعرفية وسيرورته التاريخية التي أحاطت بتكوينه وعلاقته بالمفاهيم الأخرى من قبيل الدولة، الديمقراطية، الحكامة ومن تم تحديد مفهوم المجتمع المدني في السياق المغربي.
فتعدد هذه المقاربات والمباحث المهتمة بالمجتمع المدني راجع لاختلاف المدارس المهتمة بهذا المفهوم، إذ يعتبره فلاسفة عصر الأنوار مرادفا للعقد الاجتماعي متعارض مع حالة الطبيعة والمجتمع الديني. فأفلاطون عبر عن توجه جديد للنظرية السياسية نحو الحياة العامة التي تشمل أي مجتمع أخلاقي، اذ ناقش نقط قوة المجتمع المدني المنظم على أساس مشروع أخلاقي. ومن هنا نستنتج ان مفهوم المجتمع المدني تناوله فلاسفة ومفكرون بدءا من أفلاطون ثم أرسطو الذي يعود له في الأصل كمرادف للمجتمع السياسي. وصولا لفلاسفة عصر الأنوار مع كل من هوبز وجون لوك ومونتيسكيو ورسو وغيرهم، ثم هيجل وماركس وتوكفيل الخ.
مفهوم المجتمع المدني في الفكر الفلسفي والسياسي الغربي
ارتبط مفهوم المجتمع المدني بالفترة التي مر منها المجتمع الغربي خلال القرنين 17م و18م في إطار نظرية العقد الاجتماعي مع كل الفلاسفة المؤسسين لفكرة الانتقال من حالة الطبيعة الى حالة المجتمع المدني او السياسي.
ربط هوبز وجود المجتمع المدني بوجود المجتمع السياسي. وبوجود الدولة وبشرط أولية المصلحة العامة، وبهذا فالمجتمع المدني إنما يتشكل و يصان بفضل سلطة الدولة. أما جون لوك فيفترض المجتمع المدني مستقلا عن أجهزة الدولة إلا أنه لا يلغيه،ا أي ان المجتمع المدني لا يلغي الدولة كإطار تنظيمي، والدولة هي الأخرى لا تلغي المجتمع المدني. في حين نجد أن جان جاك روسو يرى أن الهدف من المجتمع المدني هو حماية حقوق وحرية ومصالح الجميع أفرادا وجماعات إلى حدود تحقيق السلم والأمن الاجتماعيين. ومن هنا نستنتج ان فلاسفة عصر العقد الاجتماعي السابقين لثورة الفرنسية يعتبرون أن المجتمع المدني قائم على فكرة التعاقد بين الفرد والدولة خاصة أن هذه الأخيرة هي الضامنة لاستمرار هذا التعاقد.
إلا أن هذا التوافق سيعرف عدة تغييرات بعد الثورة الفرنسية، حيث سينضاف الاقتصاد كمحدد آخر للمجتمع المدني. وسيتضح أكثر مع أعلام الأطروحات الجدلية في شقيها المثالي والمادي، خاصة مع كل من هيجل وماركس. إن صاحب كتاب فلسفة الحق (هيجل) الذي يمكن اعتباره حسب المفكر المغربي عبد الله العروي نقطة الالتقاء بين القديم والحديث يقوم بتحديد المجتمع المدني بالحيز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين العائلة والدولة، إذ يعني عنده مجموع الروابط القانونية والاقتصادية التي تنظم علاقات الناس فيما بينهم، وتضمن تعاونهم واعتماد بعضهم على البعض الآخر، لا يعني ذلك أنه كيان مستقل تماما عن الدولة. ففي منظور هيجل المجتمع المدني هو مجال للمبادرات الخاصة والمصالح العامة وبهذا يكون المجتمع المدني في منظور هيجل ليس مناقضا للدولة وإنما جزء منها ولا يمكن أن يوجد من دونها.
رغم أنه أخد مفهوم المجتمع المدني من مواطنه الفيلسوف الألماني هيجل إلا ان ماركس يرى هذا الأخير هو الأساس الراقي للدولة التي تستمد وجودها واستمرارها من ظاهرة الانقسام الطبقي، معتبرا أن المجتمع لا يعرف طبقة واحدة بل عدة طبقات وان الدولة هي الأداة الطبقية الموظفة لاستمرارية الطبقة الاقتصادية الأقوى على المجتمع، وبالتالي فهي المعبر عن الصراع الطبقي والممثل لدكتاتورية الطبقة الكبرى، ومن هنا يتبين لنا أنه تقاطع في رؤيته مع “هيجل” في كون أن المجتمع المدني هو سوق اقتصادية للرأسمالية، والمجال الذي تتحقق فيه المواجهات بين المصالح الاقتصادية المختلفة، ويتجسد هذا الصراع بقطبية الطبقتين الأساسيتين: الطبقة العمالية(البروليتارية) والطبقة الرأسمالية البورجوازية.
فالمجتمع المدني عند ماركس هو أوسع واشمل من الدولة، فهو يضم الدولة في مرحلة معينة من الصراع بين الطبقات، وهو أيضا يؤدي الى تلاشيها في نهاية الصراع، عند خلق المجتمع الشيوعي المتجانس، مما يؤدي إلى زوال الحاجة إلى المجتمع المدني مع اندثار الدولة، وبهذا فالمجتمع المدني عند ماركس هو القاعدة التي تحدد طبيعة البنية الفوقية .
على خلاف ماركس وهيجل، يرى غرامتشي أن المجتمع المدني ليس مجالا للمنافسة الاقتصادية، وأنما مجالا للتنافس الأيديولوجي، مما يؤكد معه الوعي بخطورة مؤسسات الدولة الأيديولوجية التي تضيف الى اليات القمع (الجيش، الشرطة، القوانين…) طرق الاقناع والاعلام والتعليم … وبهذا فالمجتمع المدني عند غرامتشي مجال سياسي أيضا وليس مقتصرا على الاقتصاد فقط، فهو المجال الذي تهيكله المؤسسات، وتتكون فيه الأيديولوجيات المختلفة التي تشد الجسد الاجتماعي بعضه إلى بعض مما يجعل علاقات المجتمع المدني بالدولة تأخذ معاني جديدة ومتسعة مع الفكر الماركسي الإيطالي(أنطونيو غرامتشي) .
إن اهتمامنا في هذا الباب بتعريف مفهوم المجتمع المدني يتجاوز التعبيرات التي اصطلح عليها هيغل وغيره من فلاسفة القرن الماضي، على دائرة الحياة الاقتصادية أو دائرة العقود العامة التي تهم الخيرات والمصالح ،متجاوزين ذلك نحو الحديث عن نشأة المجتمع المدني في السياق العربي مع الحديث عن المفهوم في سياقنا المحلي.
المجتمع المدني في الفكر العربي والمغربي
يعتبر كتاب المفكر الفلسطيني عزمي بشارة “المجتمع المدني دراسة نقدية“، عملا غير مسبوق في الكتابات العربية حول مفهوم المجتمع المدني وفكرته، فهذا الكتاب يضم بين دفتيه عملا نقديا يروم من خلاله صاحبه مناقشة المفهوم غربيا بعيد الثورات التي عرفتها أوروبا الشرقية نهاية الثمانينيات، حيث نشأ حيز عام غير متحكم فيه من طرف السلطة قائم على علاقة جدلية ونقدية مع الدولة والسوق، وبمعنى آخر الاشتباك مع العملية السياسية فمفهوم المجتمع المدني ظل غائبا عن الادبيات والنظريات السياسية لفترة طويلة نسبيا, بمعنى أخر كحامل لمطالب جديدة أي أنه وليد لفرز جديد كل مرة أو لتمفصل جديد للوحدة الاجتماعية السياسية السائدة. فمختلف المسارات التاريخية لهذا المفهوم استحوذت على كتاب بشارة عزمي والذي يمكن اعتباره اسهاما مهما في العالم العربي خاصة من حيث التفاعل والاشتباك مع مفهوم المجتمع المدني كما كشف علاقته المركبة مع الدولة والجماعة والأمة القومية اذ يجوز القول إن المجتمع المدني في السياق الغربي يعد بمثابة صيرورة دمقرطة أخدت أشكالا مختلفة وعديدة أما في سياقنا العربي يمكن اعتباره براديغم لإضفاء الديمقراطية عن الأنظمة العربية.
يمكننا الحديث أيضا عن المفكر الجزائري علي الكنز الذي حاول في دراسته “من الاعجاب بالدولة الى اكتشاف الممارسة الاجتماعية” تشخيص مختلف العوامل الاجتماعية والثقافية التي تؤدي الى تراجع النموذج الدولتي في بعض الدول العربية لصالح الحركات الاحتجاجية، وإعادة اكتشاف أهمية الممارسة الاجتماعية، فتزايد اعجاب المثقفين العرب بالمجتمع المدني، برز في سياق تراجع الاعجاب بالدولة القوية، وبحكم طبيعة ممارسات الدولة العربية التعسفية واخفاقاتها وفقدانها الحد الأدنى من مشروعيتها. خاصة أن هذا الوضع المتأزم جعل جزء كبير من حركات المجتمع تفرض نفسها كموضوع مركزي لدرس والتحليل، ومن نتائج ذلك تزايد الاهتمام بموضوع المجتمع المدني، وهذا ما جعل الدولة في سياقنا العربي في مرحلة من المراحل تبدو في حالة من المواجهة مع المجتمع، بحكم منطقها الخاص المبني على السيطرة والاكراه.
فالمجتمع المدني يحيل على مجموعة من الفاعلين، يتمثلون أساسا في (النقابات والجمعيات …) الى ان الجمعيات هي ما يهمنا في المقام الأول، كونها فاعلا أساسيا في التنمية المحلية الى جانب الفاعل الرسمي، خاصة بعد فشل جل المبادرات الفوقية والعمودية من طرف الدولة، التي تصاغ وفق مخططات وبرامج مركزية تطبق على المستوى المحلي دون المراعات للخصوصية المحلية ودون معرفة بالحاجيات والمتطلبات للساكنة المحلية، فأهمية المجتمع المدني في التنمية المحلية تتمثل أيضا في دور المنظمات الدولية التي بدأت تضع الثقة اكثر في الجمعيات لتصريف المساعدات الاجتماعية.
بالإضافة لاحتكاك المجتمع المدني بالواقع والحياة اليومية للساكنة المحلية وهذا ما يؤهلها للقيام بأدوار تنموية تتلاءم وحاجيات الساكنة المحلية فالباحثة مارتين بارتيليمي تعتبر ((الجمعيات قلب المجتمع المدني))، على اعتبار انها باتت تمثل التعبير الفعلي عن المجتمع المدني، عن التغير الاجتماعي او المعارضة. ولعل هذا من الخصوصيات المميزة للجمعيات، قياسا مثلا مع المقاولات، فعلى حد تعبير الباحثين ج.ل.نافيل ور.سونسوليو ((يستطيع العالم الجمعوي، على عكس العوالم الاجتماعية للمقاولة، خلق المجتمع المدني كمبدأ لتحقيق الهدف، بالنظر الى ان كل فرد يجد داخل الجمعية، أسبابا شخصية للتعبير عن ذاته من خلال عمل مشترك).
أما الدراسات التي تناولت في السياق المغربي حول المجتمع المدني فنجد أسماء عدة مفكرين سنقتصر في هذا الباب على ثلاث مفكرين وهم عبد الله حمودي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري.
يحدد الانثربولوجي المغربي عبد الله حمودي المجتمع المدني كونه الفضاء الخاص الذي يقع بين الدولة والأسرة، لكنه منفصل عنهما، وبالتالي فكل الاسقاطات التي قام بها بعض الباحثين الانجلوساكسونيين من أمثال ارنست كيلنر ودافيد هارت في تحليل بنية القبيلة المغربية، هي مجانبة للصواب ولا تراعي الخصوصية المحلية للمجتمع المغربي، وذلك لعدم الاعتناء بخصوصية الدولة المغربية وتركيبتها، وضرورة إعادة تفكيك مفهوم المجتمع المدني في علاقته بالظروف التاريخية، فعوض التمسك بثرات أو ثقافة أحاديين يخفيان ويحجبان أكثر مما يظهران، يستحسن منح وإعطاء الأولوية لما كان موجودا وقائما في مجتمعنا لنفسه واستشرافه لمستقبله.وتتحدد وظيفة المجتمع المدني حسب عبد الله حمودي، في تحقيق مجموعة من الأهداف المحددة، مثل تقليص الهوة بين الفقراء والاغنياء، الدفاع عن مصالح مهنة أو حرفة معينة، هذا هدف محدد تنشأ له مؤسسات خاصة تعمل بأساليب معينة (نوادي، جمعيات،) ،كما يعتبر عبد الله حمودي أن بنيات المجتمع المدني لم تكن وليدة الصدفة، إنما هي امتداد للبنيات الاجتماعية التقليدية كالقبيلة والجماعة، ومختلف الأشكال التضامنية العفوية التي تنتمي إلى الجماعة حسب تصنيف الذي أقامه تونيز (الجماعةوالمجتمع).
في حين أن المفكر المغربي عبد الله العروي الذي يعتبر أحد أهم أعلام الفكر المغربي، من الذين أسهموا بكتاباتهم في إغناء الحياة الفكرية العربية، فقد استطاع أن يصوغ أطروحة متكاملة عن واقع المجتمع المغربي التاريخي وأفاقه المستقبلية، قام فيها بتحليل الواقع العربي و مختلف امتداداته الفكرية والسياسية والثقافية، وضح من خلالها أسباب تأخر الأمة العربية وعوائق تحديثها، مقترحا سبلا للإقلاع ولتجاوز هذا التأخر الذي يطبع الواقع العربي المعاصر، معتمدا في ذلك على أدوات تحليل معرفية نظرية متميزة، ومنهجية نقدية تاريخية مهمة.
تلك هي الموجهات الكبرى في تنظير وتفكير العروي، والتي عبر عنها في الكثير من كتاباته نستحضر منها “العرب والفكر التاريخي“، “الأيديولوجية العربية المعاصرة“، “أزمة المثقفين العرب، تقليدية أم تاريخانية“…وهي من الكتابات التي يدعو فيها المجتمع العربي الى القطيعة المعرفية مع التراث، قصد تبني قيم الحداثة التي احتلت مكانة مهمة في الفكر العربي المعاصر من خلال الرؤى والمفاهيم المتنوعة التي تعالج الإشكالية، قصد وضع أسس لفكر يمكن من الانخراط في التاريخ الكلي او السياق الحضاري العام. فالعروي قام بخلخلة مختلف المفاهيم المستوردة من الغرب، من بينها مفهوم المجتمع المدني، الذي يرى أنه استنبط من التطور الذي وقع في أوروبا، وأنه يدور حول المفاهيم التالية: سلطة الفرد، حريته، حقه، تدبيره لشؤونه، وهيمنته على الطبيعة، أما مكونات هذا المفهوم فتتجلى في: الفردية، العقلانية، الحرية، الديمقراطية،العلمانية.
وللاقتراب أكثر من مفهوم المجتمع المدني في السياق العربي والمغربي، لا يمكننا القفز عما قدمه المفكر المغربي محمد عابد الجابري حول هذا المفهوم، إذ يقيم هذا المفكر تمايزا بين المجتمعين الحضري والمجتمع القروي ويعتبر أن “المجتمع المدني هو أولا وقبل كل شيء، مجتمع المدن، وأن مؤسساته هي تلك التي ينشئها الناس بينهم لتنظيم حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فهي اذن، مؤسسات ارادية أو شبه ارادية، يقيمها الناس وينخرطون فيها أو يحلونها أو ينسحبون منها، وذلك على النقيض تماما من مؤسسات المجتمع القروي والتي تتميز بكونها مؤسسات طبيعية يولد الفرد منتميا اليها مندمجا فيها لا يستطيع الانسحاب منها مثل القبيلة والطائفة“ويعتبر محمد عابد الجابري أن تحقيق جملة المطالب النهضوية ينبغي التحرر من ثلاث محددات كبرى حكمت العقل والعمل السياسي العربي في الماضي ولا تحكم حاضره وهي : القبيلة والغنيمة والعقيدة في هذا السياق يقول محمد عابد الجابري “هذه المحددات ترتبط بعلاقة عضوية تجعلها تنتمي الى كل واحد الى بنية واحدة أي بنية تتداخل فيها العناصر المكونة لها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية تتداخل فيها البنية التحتية والبنية الفوقية في لعب الفكر أحيانا دوره كجزء من بنية تحتية الى جانب القبيلة والغنيمة” فالجابري يقدم لنا لوحة بانورامية حول هذه المحددات الثلاث ويعتبر أن من مهام الفكر العربي اليوم :
- تحويل القبيلة في مجتمعنا، الى تنظيم مدني سياسي حديث (أحزاب، نقابات، جمعيات حرة، مؤسسات دستورية) وبعبارة أخرى، تحويل مجتمع القبيلة إلى مجتمع فيه تمايز واضح بين المجتمع السياسي_الدولة وأجهزتها_والمجتمع المدني (تنظيمات مستقلة عن أجهزة الدولة) وبالتالي انشاء مجال سياسي تتم فيه الحركة السياسية، ويتم فيه صنع القرار، ويقوم فصلا بين سلطة الحاكم وامتثال المحكوم.
- تحويل العقيدة إلى رأي، أي فسح المجال لحرية التفكير، والتحرر من سلطة الجماعة المعلقة، دينية كانت أو أيديولوجية (الحزب الواحد مثلا) ومن سلطة الفكر المذهبي والطائفي المتعصب.
- تحويل الغنيمة الى ضريبة، والاقتصاد الاستهلاكي الى اقتصاد انتاجي، أو تحويل اقتصادنا العربي من اقتصاد يطغى عليه العطاء والريع على الإنتاج (الأجور والمرتبات والأعطيات ودعم المواد) الى اقتصاد تراقب فيه عملية صرف الضرائب والأموال.
ولكي نكون أكثر إجرائية في تحديد مفهوم المجتمع المدني سنحتاج لاستحضار مقاربة الباحث السوسيولوجي حسن قرنفل الذي يشدد على اتفاق جل الباحثين بأن النقابات والجمعيات والأحزاب السياسية تشكل أحد أهم ركائز المجتمع المدني، وإذا كان انتماء النقابات والجمعيات الى المجتمع المدني لا يثير أي نقاش ولا اعتراض، فان اعتبار الأحزاب السياسية أحد مكونات هذا المجتمع المدني على العكس من ذلك يثير الكثير من الأسئلة، ذلك أنه لا يمكن الحديث عن مجتمع مدني داخل مجتمع معين، الا مقابل وجود هيئات وتنظيمات أخرى مختلفة.
من هنا يمكن القول بأن المجتمعات المعاصرة تتكون من ثلاث مستويات، المستوى الأول يضم السلطة السياسية الحاكمة، الممارسة لكل الصلاحيات التنفيذية والتشريعية المخولة لها من طرف الدستور أو القانون، والمستوى الثاني يتكون مما يمكن تسميته بالمجتمع السياسي الذي يضم النخبة السياسية المؤطرة داخل الأحزاب السياسية، والمستوى الثالث هو الذي يضم المجتمع المدني، وكل مستوى من هذه المستويات الثلاث يقيم علاقة تقارب وتنافر مع المستويين الاخرين. ومن ثم يرفض الدكتور حسن قرنفل إدراج الأحزاب السياسية في خانة المجتمع المدني، لأنها في تقديره تنتمي الى المجتمع السياسي، وتمارس جميع الوسائل الشرعية وغير الشرعية للوصول إلى السلطة واحتكارها، وهذا في اعتقاده يتنافى مع مقومات وأهداف المجتمع المدني الذي يعمل على خدمة الصالح العام في جو ديمقراطي شفاف ونزيه، بعيدا عن الانتهازية والوصولية وفي هذا الصدد يقول حسن قرنفل “وهكذا وحسب هذا التصور، فإن الأحزاب السياسية لا تدخل في نطاق المجتمع المدني، بينما تعتبر الجمعيات والنقابات احدى دعائمه، وذلك ببساطة لكون النقابات على سبيل المثال وان مارست السياسة في كثير من الأحيان في التوجهات السياسية العامة للبلاد وبقيامها بإضرابات ذات طابع سياسي فإن الهدف من سلوكها ذلك ليس هو الوصول الى السلطة السياسية ولكن التأثير عليها ومراقبتها” .
على سبيل الختم
ومما لا شك فيه أن المغرب شانه في ذلك شان مختلف البلدان العربية والإسلامية نظرا لكون هذه الشعوب تتقاطع في عدة خصائص تاريخية وسوسيوثقافية إلا أنه هناك مجموعة من التمايزات وسط هذه التقاطعات هناك ميزة أساسية طبعت ميلاد تجربة المجتمع المدني بالمغرب.
فالمغرب عرف اشكال عدة من التنظيمات الاجتماعية التي ساهمت بدور فعال في تأطير المجتمع والقيام ببعض المهام الأساسية في عدة مستويات اذ نجد انه عرف مجموعة من المؤسسات التقليدية الشعبية، وظفها لحماية الفرد من القهر المخزني أو التمرد عليه او القيام بالأعباء الاجتماعية التي توالت عبر العصور، ونجد في هذا الصدد مؤسسة القبيلة او الزاوية والحنطة وكذا المؤسسة التربوية (الكتاب_المدرسة) التي كانت تعلم أصول الدين والشريعة وهذه التنظيمات كانت تنبثق من المجتمع، نظرا لأدوارها المهمة وفي هذا السياق يؤكد محمد عابد الجابري : إن المجتمع المغربي إلى حدود الثلاثينات من القرن الماضي وهو تاريخ الميلاد الرسمي للحركة الوطنية كان مجتمعا تؤطره القبيلة والزاوية. ويتبين من هنا انه كان هناك اطاران اجتماعيان وحيدان متداخلان ينظمان افراد المجتمع المغربي، اما الدولة (دولة المخزن قبل الحماية) فقد كانت جهازا فوقيا يستمد سلطته وفعاليته ووجوده، انطلاقا من العلاقة التي يقيمها مع الاطاران المذكورين وهذه الإطارات كلها كانت مبنية على أشكال التعاون والتضامن، فكل جماعة لها القدرة على التعاون والتضامن من اجل إنجاح عمل او مشروع ما، هي تقليد مترسخ في المجتمع المغربي، خاصة في المناطق او القبائل الفقيرة وفي لحظات الازمات، سواء في المدن أو القرى. وكما سبق وأكدنا أن المجتمع المغربي عرف عبر تاريخه، ممارسات تضامنية شبيهة بما نصطلح عليه اليوم بالعمل الجمعوي.
وفي هذا السياق يؤكد الباحث الاقتصادي محمد صلاح الدين أن التعاون بالمجتمع المغربي قبل الكولونيالي لم يكن له من حيث المبدأ طابع الزامي صريح، لكن كل من تخلف عن تقديم يد المساعدة للأخرين، عليه أن يبرر ذلك أمام الجماعة.
فهذه الممارسات التضامنية الجماعية ليست حكرا على المناطق الفقيرة حيث تكون الشروط الطبيعية قاسية، بل كانت لها تمظهرات في مختلف مناطق وقبائل المغرب.
ففي الجماعات القبلية_القروية، يتم اللجوء كثيرا إلى العمل الجماعي، خاصة بالنسبة للأعمال التي تتجاوز قوى الفلاح، العضو في القرية او في القبيلة، مثل الحرث، الحصاد، الدرس، عصر الزيتون الخ. وهذه الممارسات غير غريبة عن القبائل المغربية حيث عرفت عدة ممارسات من هذا الشأن أبرزها جماعة القبيلة فهذه المؤسسة كما يوضح الباحث المغربي الدكتور عبد الرحمان المالكي، ما تزال حتى يومنا هذا تنظيما اجتماعيا قائم الذات، وذلك بالرغم من تجريد الجماعات من العديد من وظائفها واختصاصاتها وحريتها في الفعل والحركة. فرغم سعي الدولة إلى“مخزنتها” أو تعويضها بالجماعة القروية الرسمية. ومن دلالة استمرارية حضور مؤسسة جماعة القبيلة بمختلف مناطق المغرب يتبين انطلاقا من اضطلاعها بمهامها التقليدية كالبث في حل النزاعات ورعاية وحماية الأملاك الجماعية للقبيلة. ومن هنا يتبين ان المجتمع المدني بمعناه الأصيل لم يكن وليد الصدفة في السياق المغربي بل كان نتيجة استمرارية لبنيات تقليدية متجذرة في تاريخ المجتمع المغربي, وفي هذا الصدد يؤكد الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي، من الصعب الحسم قطعيا في مسالة استمرار أو انفصال التنظيمات المدنية التي عرفها المغرب في السياق الاستعماري، وتلك المميزة للمجتمع المغربي تاريخيا. ويضف قائلا هناك تشكيلات مدنية نابعة من التجربة التاريخية الخاصة لمجتمعنا. لكن بعض تشكيلات المجتمع المدني لم تبرز في الواقع إلا ضمن السياق الاستعماري، أي في الهامش المدمج والمفرق بين التجربتين: المغربية والغربية.
قائمة المراجع
إبراهيم السهول، واقع المجتمع المدني وتنزيل الديمقراطية التشاركية بالمغرب، المركز الديمقراطي العربي برلين_المانيا.
جون اهرنبرغ، المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، المنظمة العربية للترجمة، لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999.
حسن قرنفل، المجتمع المدني والنخبة السياسية: اقصاء ام تكامل؟، افريقيا الشرق الدار البيضاء، سنة 2000.
حسن قرنفل، ديمقراطية على المقاس، سوسيولوجيا انتاج النخبة، دار أبي رقراق، سنة 2005.
رشيد عبد الوهاب حميد، التحول الديمقراطي والمجتمع المدني، سوريا دار المدى للثقافة والنشر، 2003.
زكرياء أٌقنوش، المجتمع المدني في الفكر السياسي، مجلة مسالك العدد 56، 2016.
عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب، ط7 2008.
عبد الله حمودي، مصير المجتمع المدني رؤية أنثربولوجية لقضايا الثقافة والسياسة والدين والعنف، مجلة وجهة نظر، سلسلة دفاتر وجهة نظر العدد 5 السنة 2004.
عزمي بشارة، المجتمع المدني دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة التاسعة، 2017.
غيلاني محمد، محنة المجتمع المدني: مفارقات الوظيفة ورهانات الاستقلالية، دفاتر وجهة نظر، العدد 6 ط1 مطبعة النجاح الجديدة، 2005.
فوزي بوخريص، مدخل الى سوسيولوجيا الجمعيات، افريقيا الشرق 2013.
مايكل ادواردز، المجتمع المدني النظرية والممارسة، ترجمة عبد الرحمان عبد القادر شاهين، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2015.
محمد بنعتو–عبد اللطيف مليح، المجتمع المدني بالمجالات شبه الصحراوية المغربية: الواقع والدينامية والطموح الترابي امام التحديات الجيوسياسية والجيواستراتيجية بوادنون وباني منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر اكادير2019.
محمد بوست، المجتمع المدني: مقاربة نظرية دراسة سوسيولوجية للمجتمع المدني المغربي، مجلة باحثون المجلة المغربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية العدد الثامن 2019.
محمد عابد الجابري، المجتمع المدني، تساؤلات وافاق وعي المجتمع بذاته عن المجتمع المدني في المغرب العربي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1998.
محمد عابد الجابري، المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية الحداثة والتنمية، المركز الثقافي العربي ط1 1998.
نبيل فازيو، عبد الله العروي ومفاهيم الحداثة الغربية، مجلة المستقبل العربي، العدد439 سبتمبر 2015.
Salahdine Mohamed(1986), Maroc tribus, makhzen et colons, éditions le Harmattan, Paris,