ليست قضية الهيمنة الأجنبية والاستعمار الثقافي اللغوي قضيةً لغويةً أو ثقافيةً أو أخلاقيةً أو اقتصاديةً أو سياسيةً فحسب، بل هي قضية ترتبط بمصير الإنسان ومستقبل الأوطان ونهضة الأمم؛ فإذا كان كسب معركة التحرير اللغوي والتحرر الثقافي مرتبطا بالإصلاح اللغوي النسقي الجذري والشامل لتأهيل اللغة الوطنية لتكون قادرة على إنتاج العلوم والمعارف الحديثة، فإن بناء الهوية لا ينجح بدون وعي مسألة التحرير الثقافي المتفاعل مع التحرير اللغوي والإصلاح الثقافي اللغوي.
فلا استقلالَ ولا نهضةَ ولا ديمقراطيةَ بدون استقلالٍ ثقافيٍّ يرتكز على استقلالٍ لغويٍّ. ومن ثم فإصلاح أوضاع اللغة الوطنية تأهيلاً وتطويراً والرهان عليها في النهضة الحضارية والإبداع العلمي والتطور التعليمي، جزءٌ جوهريٌّ في مشروع التجديد والإصلاح والدمقرطة واستئناف المبادرة الحضارية؛ بهذا المعنى يُفهم إلحاحنا على ضرورة الوعي الحارق للصراع الحاد حول القيم والهوية والتنمية في علاقتها باللغة بوصفه صراعا غير محايد، فالحديث عن استعمال لغة بدلا عن أخرى لغة للتدريس والبحث لا يكون محكوماً بالإطار اللساني أو الاقتصادي أو العملي أو البيداغوجي، بل يتأطر بالخلفيات السياسية والمقاصد الحضارية الكبرى والاستراتيجيات الدولية المهيمنة، ويمتد ليعبر عن جوهر الصراع والتوتر الحضاري الراهن واستمرار حراسة حالة التخلف وتأبيد نمط التبعية.
في شرط الإقلاع الحضاري والنهوض اللغوي
لا يمكن لأي بلد أن يشق طريقه نحو النهضة والإبداع والابتكار من غير الرهان على لغته، وهذا ما أثبتته الدراسات والأبحاث العلمية الرصينة في جل الحقول المعرفية المهتمة بعلاقة اللغة بالفكر وارتباط اللغة بالتنمية فضلا عن التجارب النهضوية، أثبتت أن اللغة الوطنية القومية هي التي تسهم في إنجاز النقلة النهضوية الهائلة، وأنها أحد الأوجه الرئيسة لتدارك الفجوة المعرفية والتنموية ومواكبة التطور العلمي والتكنولوجي. وتعد قضية الترجمة من المظاهر البارزة لجدلية اللغة والنهضة، فالأمم التي اختارت الترجمة طريقا وحيدا للانفتاح الحضاري، نجحت في الوصول إلى مبتغاها من النهضة ومواكبة العصر والابتكار والريادة مع صيانة الهوية. والأمم التي توهمت أن الانفتاح اللغوي والتبني المطلق للغة الأجنبي هو السبيل إلى النهضة والتقدم -وفي الغالب ما يتم ذلك بقهر الاستعمار الجديد وورثته من النخب- انتهت إلى مجرد استلاب لغوي وتغريب ثقافي وتبعية مذلة وفشل تعليمي، دون أن يتحقق شيء من شعارات التقدم والحداثة والكونية، إلا ما كان من خدمة لغة المستعمر، والتمكين لاقتصاده وثقافته وقيمه والمزيد من تهميش اللغة الوطنية وإطباق الحصار عليها، بل وصل الأمر إلى تبرير النخب السياسية والثقافية للانبطاح باسم الانفتاح، وتمرير سياسات الهزيمة والتبعية، واستجداء المعونات الهزيلة والقروض الثقيلة باسم التعايش والتقدم.
لو اختارت النهضة الأوروبية الاختيار الذي نصر على تبنيه في النظام التعليمي والبحثي والمهني في المجتمعات العربية والمغاربية، وهو التدريس باللغة الأجنبية، لما كان لأوروبا وجود فاعل اليوم وما كان كل هذا الثقل التاريخي والتفوق الحضاري، وما كانت قادرة على إنتاج نهضة ونموذج متفرد في إنتاج المعرفة الحديثة؛ لأن العلاقة بين اللغة والفكر، واللغة والإبداع، واللغة والتنمية، هي علاقات حميمة تنشأ من الطبيعة الذاتية للمكونات المذكورة. وتعد التجربة اليابانية خير دليل لدعاة السياسات الفرنكفونية أو الأنكلوفونية الساعين إلى التشكيك في نمط “النهضة الحضارية المركبة المستقلة والذاتية” وتحويله إلى نموذج تنموي تابع ثقافيا ولغويا لمعسكرات الاستعمار الجديد؛ فقد اختارت اليابان الترجمة وسيلةً مهمة في استيعاب العلوم والثقافات الأجنبية، لكنها فطنت إلى أن إبداع أي أمة لا يمكن أن يكون إلا بلغتها القومية الوطنية، فاستطاعت بناء تعليم حديث داخل حيز اللغة اليابانية ونطاق الهوية القومية يبني الشخصية اليابانية الوطنية المبدعة ويعي بدقة علاقة اللغة بالهوية وعلاقتها بالفكر ومدى الارتباط المصيري بين السياسة اللغوية الوطنية والتنمية والابتكار.
منذ القرن السابع عشر، شكلت اللغة اليابانية مرتكز النهضة الأولى لليابان في مرحلة توكوغاوا[1] الإقطاعية وزمن الإمبراطور ميجي[2] الإصلاحي التنويري، بوصفها لغة العلم والهوية والترجمة والفن والتواصل مع التراث الإنساني والثقافة الغربية، كما أنها أسهمت في حماية الخصوصية اليابانية. لذلك تنبهت اليابان إلى أن خطورة تهميش اللغة الأم أو السماح بهيمنة لغة أجنبية على فضاءات التعليم والمعرفة والتواصل، يؤدي إلى تبعية وتغريب ينسف التراث الياباني والذات الثقافية المميزة، وبذلك فرقت بين التحديث والتغريب.
لقد شهدت مرحلة العزلة الطوعية التي مرت منها اليابان الكثير من الإيجابيات التي ترسخت تباعا طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر[3]، حتى تبلورت بشكلها النهائي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي الفترة نفسها قررت اليابان تشجيع العلماء والخبراء على الاهتمام باللغة اليابانية وإيلائها الأولوية اللازمة، وتم وضع سياسات لإصلاح اللغة اليابانية الكلاسيكية وتنقيتها وتطويرها، فرغم أن اليابان استعارت طريقة الكتابة من اللغة الصينية خلال القرنين الخامس والسادس الميلادي، إلا أنها قامت بتطوير رموز الكانجي الصيني[4] وإضافة نوعين من الحروف الهجائية سميت بالكاتاكانا والهيراغانا. كما تطور الاهتمام بالدراسات إلى كلاسيكيات الأدب الياباني منذ القرن الثامن الميلادي، وذهب الأمر إلى حد صياغة الأدبيات اليابانية الخالصة، بوصفها أيديولوجيا قومية، أذكت في الشعب الياباني تلك النزعة القومية، التي تأسست على مفاهيم ومعتقدات ذات مرجعية أسطورية[5].
النهضة العلمية وخيار الترجمة
كانت خطوة مأسسة مشروع الترجمة سنة 1811م من خلال إنشاء هيئة علمية مكلفة بترجمة الكتب الأجنبية والهولندية خصوصا، من أهم المشاريع التي أقدمت عليها سلطات اليابان “توكوغاوا” بهدف التعرف على ثقافة الغرب قبل موجة إصلاحات الامبراطور الميجي، إذ تمكن اليابانيون من التعرف على نظرية كوبرنيك والعديد من الاكتشافات العلمية الحديثة التي أسهمت في زعزعة الثقة بعلم الفلك الصيني المعتمد عندهم، فضلا عن ترجمة مؤلفات كل من جان جاك روسو وهيوم ودستوفسكي وتولستوي، وغيرهم من كبار المفكرين العالميين في ذلك الوقت، وقد ساعدت أفكارهم في زيادة وعي اليابانيين بأحوال العالم المحيط بهم[6].
تجلى النهم العلمي وحب المعرفة وانتشارها المجتمعي، في تواصل أعداد مهمة من العلماء والباحثين اليابانيين مع الألمان في إطار جلسات علمية قرب مركز وجودهم الدائم في ناكازاكي، حيث تعلموا منهم اللغة الألمانية وترجموا إلى اللغة اليابانية عددا من مستجدات البحوث العلمية خصوصا في مجالات صناعة الأسلحة النارية والطب والجغرافيا وعلم الفلك، الأمر الذي سمح بتطور بارز في العديد من التخصصات العلمية والانفتاح على حقول معرفية وتقنية متنوعة، فقد كان”اليابانيون يمتلكون جهازا معرفيا لرصد العلوم والتقنية الغربية الحديثة منذ مطلع القرن الثامن عشر، وقد ساعد هذا الجهاز في التطوير الذاتي للثقافة والإنتاج في اليابان مع الاستفادة من علوم الغرب”[7]، وهكذا واكبت اليابان في مجالات الطب والعلوم والجغرافيا والفلك والعلوم العسكرية وتقنيات الملاحة المستوى العلمي القائم آنذاك.
وكأي تجربة بشرية نسبية، فقد ترجمت اليابان في مرحلة أولى كل المعارف الغربية دون تمييز في نهاية القرن التاسع عشر، فترجمت الكتب المدرسية الغربية واستخدمتها في مناهج التعليم المدرسي، وهو الأمر الذي تمت مراجعته بعد ملاحظة تأثير المضمون القيمي والثقافي الغربي على شخصية التلاميذ وهويتهم القومية. كما جلبت أعدادًا كبيرة من المدرسين والمستشارين الأجانب، حيث كانت لغة تدريس الكثير من المواد الجامعية بلغات أجنبية. غير أنه حدث تراجع في ثمانينيات القرن التاسع عشر عن هذا الاختيار، فوفر اليابانيون كتبا مدرسية جديدة، وحل المدرسون اليابانيون محل الأجانب، وأصبحت اليابانية لغة التدريس[8]، وبذلت جهود كبيرة لجعل تدريس كافة المواد الدراسية في مراحل التعليم الإلزامية باللغة اليابانية.
لقد شهدت اليابان في عصر الميجي حالة ثورية هادرة في الإقبال على المعرفة والتشجيع على التعليم العصري، كما عرفت هذه المرحلة التاريخية الفارقة وتيرة سريعة ومتصاعدة في حركة الترجمة شملت مختلف الحقول المعرفية، بهدف تثقيف الأمة اليابانية بالعلوم الحديثة والتقنيات المتطورة في الغرب، حيث أسهمت الإصلاحات في إنجاز تحولات ثقافية وتربوية ومعرفية على نطاق واسع لدى مختلف فئات الشعب الياباني، غير أن اللافت للنظر أن توجهات السياسة التعليمية كانت تشدد على نشر الروح الوطنية وحب اليابان وتمجيد الإمبراطور والحفاظ على الهوية وترسيخ التقاليد النافعة. كما دعا رواد الإصلاح إلى العمل الجاد حتى لا يبقى أمي أو جاهل في أي قرية يابانية مهما كانت نائية، فرفع شعار:”لن يكون هناك طفل جاهل، أو أسرة جاهلة أو قرية جاهلة في جميع أرجاء اليابان”، كما رفع شعار:”العلوم غربية لكن الروح يابانية”[9].
كما أقرت إلزامية التعليم في المرحلة الابتدائية من 6-13 سنة للذكور والإناث على السواء، وتم تأسيس جامعة طوكيو[10] سنة 1877، تجمعت فيها العديد من المعاهد والكليات العليا فيما سمي بجامعة “طوكيو الإمبراطورية” التي ضمت كليات الآداب والعلوم والحقوق والطب والهندسة، ثم افتتحت سنة 1897 جامعة”كيوتو”، وفي عام 1900م تأسست أول كلية لتعليم اللغة الإنجليزية للبنات، وفي السنة نفسها أدارت الدكتورة “يوشيو كايابوي” -وهي أول طبيبة يابانية-أول كلية طب للنساء[11].
لقد أصرَّ اليابانيون على ضرورة التدريس باللغة اليابانية في ظل انفتاح مدروس على اللغات الأجنبية ووفق رؤية منضبطة لخيارات الذات، فاختاروا ترجمة العلوم والمعارف الأجنبية وتفريغ عدد محدود من النخب العلمية والبعثات الدراسية لإتقان اللغات الأوروبية، فما إن حلَّ عام 1907م حتى كان 97% من الشعب الياباني متعلماً، وكانت نسبة الحاصلين على الشهادة الابتدائية عام 1910م مائة بالمائة[12].
العدالة اللغوية وسؤال السيادة الوطنية
عُدَّ حق العلم مقدسا لجميع اليابانيين على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وتركزت القيم العليا في المجتمع الياباني في العمل والإنتاج، وحلت الكفاءة الشخصية وحدها بديلا للموروث الاجتماعي في التوظيف والترقي الإداري، بالإضافة إلى ذم كل أشكال الدعوة إلى الطائفية أو التجزئة أو التناحر داخل المجتمع. وقد لعبت المقولات الإصلاحية، خصوصا مقولة المساواة، دورا أساسيا في غرس قيم الاجتهاد والجدية وتكافؤ الفرص ونشر روح التفاؤل بين الأجيال المتعاقبة من اليابانيين، مما جعل جهود الفرد الياباني تلقى الدعم والتشجيع الكافي من الدولة والشركات الخاصة، كما صار الترقي الاجتماعي مفتوحا أمام جميع الفئات والشرائح على قاعدة الكفاءة الشخصية والإتقان والتفاني. وبالفعل تمكن عدد كبير من أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة من بلوغ أعلى المراكز الإدارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية[13].
كما نستحضر في السياق المعاصر وضع اليابان حين استسلمت في الحرب العالمية الثانية تحت وطأة القنابل الأمريكية، ففرض الأمريكيون شروطهم المجحفة عليها، مثل تغيير الدستور وحل الجيش ونزع السلاح وغيرها، وقد قبلت اليابان جميع تلك الشروط باستثناء شرط واحد هو التخلي عن لغتها القومية أو تغيير النظام التعليمي إلى النمط الغربي، وتذكر العديد من الدراسات والوثائق التاريخية المقاومة الشرسة التي أبداها اليابانيون تجاه محاولات إقحام تعديلات جذرية على بنية اللغة أو استبدال الحرف اللاتيني بالحرف الياباني، كما امتنعت نقابات التعليم عن التعاون مع اللجان الأميركية المكلفة بالتعديلات، وقبلت بعض التعديلات التي رأتها مفيدة لتطوير نظام التعليم الياباني[14]، لتظل اللغة اليابانية منطلق استئناف نهضتها الثانية العلمية والصناعية الجديدة[15].
إن اختيار اللغة الوطنية للتعليم والبحث لا يظل “وسيلة لبلوغ المعرفة واكتسابها، بل تصبح وسيلة لتشقيق المجتمع، وقطع الصلة بين فئاته وطبقاته، وخلق الامتياز الاجتماعي والاقتصادي، على حساب التماسك والتواصل والحوار وتكافؤ الفرص”[16]. وفي هذا السياق يرى جيمس طوليفصون أن السوق يحدد لغة مكان العمل، فالاستعمال الإيديولوجي للغة في العمل يعد قاعدة مهمة للتحكم في الوصول إلى العمل، ومن ثمة في الثروات الاقتصادية والسلطة السياسية[17]؛ كما يعتبر جيمس اللغة أحد المعايير التي يتقرر بها من سينهي مختلف مراحل التعليم. وعلى هذا النحو فاللغة وسيلة لتقنين النفاذ إلى العمل ذي الأجر العالي، وحيثما وجب على الناس تعلم لغة ثانية للوصول إلى التعليم أو قصد فهم التكوين المقدم في المدرسة، كانت اللغة عاملا من عوامل خلق الفوارق الاجتماعية والاقتصادية وترسيخها. فالسياسة اللغوية آلية في يد الدولة تستخدمها للحفاظ على سلطتها وسلطة المجموعات المتحكمة في سياسة الدولة. وهكذا فأهمية السياسة اللغوية متجذرة بالأساس في ظهور الدولة الحديثة[18].
هكذا استمد النظام التعليمي الياباني مقوماته من طبيعة مجتمعه وروح أمته وحاجياته وطنه، ولم يأت استنساخا آليا لنماذج تربوية أجنبية متغربة، إلا في التقنيات والوسائل العملية المشتركة بين جميع الأمم، حيث تم استيراد هذه الوسائل بعد تجريدها من تحيزاتها القيمية والحضارية وخلفياتها الإيديولوجية، فالتعليم الياباني انطلق من جذوره وتقاليده المتأصلة والمتراكمة قبل الميجي محاولا استيعابها ونقدها وتطويرها ليشكل عامل توحيد لعقل الأمة وتماسك لهويتها، وهذا ما يمكن ملاحظته في الإصرار على استعمال اللغة الوطنية في التعليم بدل اللغة الأجنبية، واعتماد الترجمة مدخلا للانفتاح على العلوم والمعارف الحديثة، وفي هذا الصدد يقول المفكر والمؤرخ الياباني كاتو:”حتى العام العشرين من عصر ميجي، تمت ترجمة الأدبيات الغربية تحت إشراف الحكومة بطريقة منظمة تنظيما دقيقا(…)حوالي 90% من المفردات نحتت في عصر ميجي. كان المترجمون يقومون بعملهم في استماتة شديدة إلى حد الجنون(…)هناك العديد من الدروس الهامة في عصر ميجي، واحد منها هو تطبيق التعليم باللغة اليابانية(…)إن أحد مزايا الأخذ بمبدأ الترجمة هو تقليل الفجوة بين الطبقات الثقافية”[19].
لقد أسهم التمسك باللغة اليابانية القومية في ضخ المعلومات والبيانات والمنشورات في شرايين المؤسسات التعليمية والعلمية، بل في مراكز التدريب المهني كذلك، فاللغة القومية اليابانية اكتسبت أهميتها داخل مؤسسة العلم، ومؤسسة العلم انتظمت وتوسعت في ظل إقبال المجتمع عليها والتوحد معها، وهو ما جعل اللغة اليابانية لا تقلّ أهمية عن اللغة الإنكليزية بوصفها لغة البحث العلمي المتطوّر، مما جعل اللغة اليابانية أداة إنتاج للعالم المتطوّر تكنولوجيا[20]، وجسرا بين الترجمة والإفادة من تجارب الآخرين، فكان لها أهمية قصوى ومركزية في مسيرة النهوض والتقدم العلمي والتكنولوجي في اليابان[21].
ويترتب على هذا الجوهر التكويني المركزي للخصوصية اليابانية أن كل ما هو آت من الآخر يعد مجالا يستخدم لإعادة التدوير والتكوين خدمة لاستمرارية الخصوصية اليابانية القومية، لذا ينظر إلى الوافد من حيث فائدته ومنفعته لاستمرارية هذا التفرد الجغرافي التاريخي الحضاري وليس العكس، وهذا هو الفيصل بين التنمية المعتمدة على الذات والهوية الثقافية والقومية، والتنمية المرتكزة على التغريب والاستلاب[22].
اللغة والفكر والتنمية:
لقد انطلقت التجربة اليابانية من محاور استراتيجية يحددها عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة في تفعيل القيم اليابانية ومحو الأمية والمعرفة، والنهوض باللغة اليابانية ودعم البحث العلمي، إذ لا يمكن لأمة أن تنهض إذا لم تدافع عن قيمها وتتمسك بها وتسعى لحماية الذاكرة والهوية من مخاطر الاستلاب والانقراض والتغريب. ومن ثم لعب المتغير القيمي الثقافي واللغوي الحضاري دورا تكوينيا مركزيا في بناء النهضة، تفاعلت فيه أنساق اللغة والقيم والهوية والثقافة مع الإرادة السياسية والبوصلة الاستراتيجية الواضحة والشغف بالمعرفة والانفتاح الواعي على مستجدات العصر وتجارب الأمم.
وفي السياق نفسه نجد النموذج الكوري الذي سار على درب فلسفة اليابان إبداعا لا تقليدا خصوصا أنها كانت دولة محتلة له، حيث تم إقرار اللغة الكورية لغة للتعليم والبحث العلمي في جميع المراحل والمستويات والتخصصات مختلفة، رغم أن اللغة الكورية كانت ممنوعة في المدارس الكورية وحلّت محلها اللغة اليابانية أثناء الاحتلال الياباني لكوريا الذي انتهى في الحرب العالمية الثانية. كما أن جميع المحطات الإذاعية تستخدم الكورية الفصيحة لا اللهجات الكورية، من أجل تعزيز تعلم اللغة الكورية لدى التلاميذ وغيرهم من المتعلمين[23]؛ وهكذا اعتمدت اللغة الكورية أساسا للتنمية البشرية والنهضة العلمية.
أما في المجتمعات الغربية المتقدمة فإن لغة التدريس الأساسية في جامعاتها الوطنية هي لغاتها القومية مثلما هي إنكلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وكذا الدول غير الناطقة بالإنكليزية مثل فيتنام وكوريا الجنوبية وأوكرانيا وإندونيسيا وأرمينيا التي لا يتجاوز عدد سكانها 3 ملايين نسمة. وقد أشارت إحصاءات الأمم المتحدة إلى وجود 19 دولة في الصدارة التقنية للعالم، لغة التدريس والبحث العلمي في جامعاتها الوطنية كلها ومراكز بحوثها هي اللغات الوطنية الرسمية، في حين لا توجد دولة عربية بين هذه الدول[24].
وقد أبرز “رونيمال” الذي كان من مديري منظمة اليونسكو سابقا، جدلية العلاقة بين التنمية وثقافة العلم، مؤكدا أن شرط التحقيق الفعلي للتنمية في بعدها الشامل هو تحول العلم إلى ثقافة تسند وتؤسس لكل المشاريع والاختيارات؛ يقول في هذا الصدد:”التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة”؛[25] وتمثل اللغة وعاء الثقافة والمعرفة وجزءًا أصيلا منها، فهي تشكل صورة المجتمع عن نفسه، وتعكس أولوياته وطرق تعبيره عن ذاته وطرائق فهمه لعلاقته بأفراده وبالآخرين وبالعالم. كما تتصل أيضا بالتطور الثقافي الاجتماعي ووعي هذا المجتمع بذاته ومهماته وأولوياته وتوقه إلى الاتصال بالحضارات الإنسانية الأخرى والتفاعل معها دون التخلي عن الخصوصيات الثقافية لأبنائه[26].
إن هذه النماذج النهضوية تقدم الدليل الملموس لا على عدم تعارض اللغة القومية الوطنية الرسمية مع التطور التحديث فحسب، بل على أنها شرط لعملية النهوض والتقدم. فاللغة ليست أداة محايدة لتوصيل المعاني كما يعتقد البعض، ولا هي فقط مرآة عاكسة للفكر، بل هي “وجهة نظر” تمثل “رؤية للعالم” بتعبير لوسيان كولدمان. كما أن النهضة الحضارية ليست أمرًا محايدًا، بل هي رؤية متحيزة للعالم والدولة والمجتمع وثرواته وتصور متحيز لدور الإنسان والثقافة والقيم في بناء العمران.
ولذا لا تعد اللغة مجرد وسيلة للتعبير أو أداة للاتصال والتواصل بل تعد وعاء للتفكير والمعرفة، وإرث حضاري وثقافي ومخزون تراثي، وظاهرة اجتماعية وتاريخية تتطور وتنمو بتعدد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية وتنوعها. وكلما اتسعت قاعدة استعمال لغة ما، وتداولتها أمة ما كانت أقدر على الفهم والإفهام، وأكثر وعيا بالأشياء والأفكار، وأسرع إلى الاختراع والابتكار. ويتأكد هذا بتجربة اليابان وبعض الأمم الحاضرة التي سلكت هذا السبيل في النهوض؛ ولذا يظهر أن بين اللغة والمجتمع رحما موصولا وتعاضدا لا غنى لأي منهما عن الآخر[27].
إن التجربة اليابانية مؤشر دال على الوعي المبكر والاستراتيجي بأهمية تدريس العلوم والمعارف باللغة القومية، واختيار الترجمة وسيلة للانفتاح على العالم الحديث والمعاصر وفق رؤية استيعابية تتكيف مع المحيط والتحولات لمواكبة حركة النهوض مع الحفاظ على الهوية اللغوية والثقافية، ودور هذه الأسس في صناعة النهضة الحضارية من خلال بناء نموذج فريد ومبدع وفق الشروط الثقافية والحضارية الخاصة، حيث يثبت هذا النموذج أن الحل يكمن في اللغة الوطنية والثقافة الحاضنة للبحث العلمي المرتبط بالإنتاج والعطاء الخلاق.
—————————————————————————-
[1] -منذ نهاية ق12م ضعف البلاط الإمبراطوري ضعفا شديدا، انتقلت السلطة إلى “يورتيمو” زعيم عشيرة “ميناموتو” القوية الذي نصب له لأول مرة شوغونا؛ أي حاكما عسكريا لليابان يمارس الحكم معتمدا على ولاء عدد من الفرسان أمراء المناطق والأقاليم، باسم الإمبراطور وبالنيابة عنه. وإلى غاية منتصف ق19، ظلت الحياة اليابانية موزعة بين مؤسسة الإمبراطور التي تعد في نظر الياباني مصدرا لشرعية السلطة دون أن تتمكن من ممارستها فعليا وتحتكرها باسم الإمبراطور وبين مؤسسة الشوغون التي تمارس الحكم فعليا. ويعد شوغون الذي عاش منتصف ق19 سليل أسرة توكوغاوا التي استطاعت أن تبسط سلطتها المباشرة منذ بداية ق17 على ربع البلاد، وأن تسيطر على حوالي 265 دايميو، منذ ذلك الزمن بنى توكوغاوا نظاما اجتماعيا وسياسيا إقطاعيا ظل في صورته العامة ثابتا مستقرا إلى أن ظهر الجنرال بيري الأمريكي في خليج طوكيو. انظر: عبد السلام الحيمر، النخبة المغربية وإشكالية التحديث، ط1(الدارالبيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2001)، ص42.
[2] -الإمبراطور ميجي أو باليابانية 明治天皇 من مواليد عام 1852م وهو الإمبراطور الياباني الـ 122 وحكم اليابان من عام 1867 إلى عام 1912، وسمي بالإمبراطور ميجي بسبب الفترة التي حكمها حيث كانت تسمى فترة ميجي التي تعني فترة “الحكومة المستنيرة” وهي الفترة الأولى من تاريخ اليابان المعاصر.
[3] – كانت هذه المرحلة ضرورية لليابانيين حتى يكتشفوا ذاتهم ويعرفوا أماكن ضعفهم فيقوموها، ويصقلوا ما لديهم من خصوصية ثقافية. وقد ساعد ذلك ما يعرف في تاريخ الفكر الياباني بـ”حركة الدراسات القومية”، تلك الحركة التي بدأت في النصف الأول من القرن السادس عشر.
[4] -تشير مسيرة عفيفي إلى أن رموز الكانجي في اللغة الصينية يصل إلى عشرات الآلاف، بل ويصل بها البعض إلى مئات الآلاف. ولذلك اضطرت اليابان إلى إصدار قانون يحد من الرموز الصينية التي تستخدم في وسائل الإعلام من صحافة ومجلات وفي مجال التعليم الإجباري، ويتغير عدد تلك الرموز كل فترة بالحذف والزيادة، والقانون الآن ينص على 1945 رمز (ألف وتسعمائة وخمسة وأربعين رمزًا). ولهذا أثناء الاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وبحجة الصعوبة وانعدام العملية حاول الأمريكيون إلغاء استخدام الكانجي واستبداله بالحروف اللاتينية كما فعل المستعمرون وعملاؤهم في عدة دول. لكن اليابانيين وقفوا بحزم ضد ذلك لاقتناعهم أن العكس هو الصحيح، وأن تغيير طريقة الكتابة ليس عملياً على الإطلاق. ولإعطاء مثال على ذلك هناك كلمة تنطق هكذا كوشو، هذه الكلمة لها 22 طريقة كتابة بالكانجي ويختلف المعنى باختلاف الكتابة، على سبيل المثال تعني مفاوضات وتعني وزير الصحة وتعني التبليغ الشفهي وتعني القائد المنهزم…، ولكن النطق سيصبح بالحروف اللاتينية واحد هو”KOUSHOU»(انظر ميسرة عفيفي، اليابان والحداثة، الموقع الالكتروني الشهاب للإعلام 2007).
[5] -انظر: مشروع الميجي وهيئة الإذاعة والتفلزيون اليابانية، ميجي قوى بشرية قادت التغيير، ترجمة: عصام رياض حمزة، ط1(القاهرة: دار الشروق، 2008)، ص15-16. مثل مقولة “الشعب الياباني سليل للآلهة التي خلقت الكون”، و”البيت الإمبراطوري من سلالة إلهة الشمس”، و”اليابان كلها بلد مقدس”. وأيضا:
Jacques Leclerc, La politique linguistique japonaise, Université Laval Québec, voir:
http://www.axl.cefan.ulaval.ca/index.html.
[6] – راجع محمد أعفيف: أصول التحديث في اليابان 1568-1868، ط1(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010). ويمكن الرجوع أيضا إلى:
Ronald Philip Dore, Education in Tokugawa Japan, University of California Press, 1965.
[7] – انظر: مسعود ضاهر، النهضة العربية والنهضة اليابانية: تشابه المقدمات واختلاف النتائج، سلسلة عالم المعرفة، العدد 252، ط1 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون 1999)، ص141-142.
[8]-انظر: شارل عيساوي، تأملات في التاريخ العربي، ط1(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)، ص190.
[9]– انظر في هذا الصدد: مسعود ضاهر، النهضة اليابانية المعاصرة، مرجع سابق. وأيضا:
Donald Kene, Emperor of Japan: Meiji and his World 1852- 1912. Columbia University Press, New York 2002, p210 – 221.
[10] – من أصل 1150 رئيس شركة يابانية عام 1967 تم التأكد من أن نسبة تزيد على 25% منهم كانوا من خريجي جامعة طوكيو، يليهم خريجو جامعة كيئو(Keio) في المرتبة الثانية بنسبة 8%”انظر: مسعود ضاهر، النهضة اليابانية المعاصرة الدروس المستفادة عربيا، ط2(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004)، ص259.
[11]– رأفت غنيمي الشيخ، محمد رفعت عبد العزيز، ناجي هدهود، تاريخ آسيا الحديث والمعاصر، ط1 (عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 2006) ص40 -41.
[12]– فرانك جبني، الميجي: ثورة ثقافية، في: الثورة الإصلاحية في اليابان “ميجي إيشن”. إعداد: ناجاي ميتشيو، ميجو أورشيا. ترجمة: عادل عوض، ط1 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1992)، ص176.
[13] – راجع في هذا السياق، مسعود ضاهر: النهضة اليابانية المعاصرة الدروس المستفادة عربيا، ط2(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004). وانظر أيضا:
Mark E. Linciome, Principle, Praxis and the Politics of Educational Reform in Meiji Japan, University of Hawai’i press, 1995.
[14] -راجع مسعود ضاهر: فكرة الهوية والانتماء عند الآسيويين (اليابان)، مجلة التسامح عدد29، 2010. على الرابط: http://tasamoh.om/index.php/nums/view/33/732
[15] – يمكن الرجوع إلى العمل المهم الذي يحاول التأريخ لمسار تشكل اليابان الحديث على مستوى المنظومة الاقتصادية والنسق الثقافي والنظام السياسي، ورصد أبرز التطورات التي عرفتها التجربة اليابانية منذ مرحلة توكوغاوا إلى حدود سنة 2000 وهو:
Andrew Gordon, A Modern History of Japan: From Tokugawa Times to the Present, Oxford University Press, 2003
[16]– انظر: الفاسي الفهري، اللغة والبيئة، العدد 38، ط1 (الرباط: منشورات الزمن، 2003)، ص62.
[17]-انظر: جيمس و.طوليفصون، السياسة اللغوية خلفياتها ومقاصدها، ترجمة محمد خطابي، ط1 (الرباط: مؤسسة الغني، 2007)؛ وهي الترجمة العربية لكتاب Planning Language planning inequality لصاحبه جيمس و. طوليفصون James w.Tollefson.
[18]-نفسه، ص17-19، بتصرف.
[19] – انظر: مشروع ميجي، ص77.
[20] – ناصر يوسف: دينامية التجربة اليابانية في التنمية المركبة؛ دراسة مقارنة بالجزائر وماليزيا، سلسلة أطروحات الدكتوراه، ط1(بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص191.
[21] – نفسه، ص191.
[22]– أنور عبد الملك: الإبداع والمشروع الحضاري، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة2012)، ص60.
[23]-علي القاسمي: لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي، ط1(بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2009)، ص132.
[24] – انظر: أحمد حسين حسنين، لغة التعليم وتأثيرها في الهوية العربية-دراسة ميدانية على عينة من الطلاب المصريين في ظل أنظمة تعليمية متباينة، في: اللغة والهوية في الوطن العربي: إشكاليات التعليم والترجمة والمصطلح(مجموعة مؤلفين)، ط1(بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص363 و366.
[25] – انظر في هذا الصدد: محمد بريش، تأزيم المستقبل: الثقافة والمستقبل التنموي المفقود، على الرابط:
http://www.alukah.net/Web/brich/0/18699/#ixzz2q7rdQWYu
[26]– نادر سراج: تجاذبات اللغة والثقافة والانتماء، مجلة التسامح، العدد5، (2004)، ص68.
[27]– يحيى بن البراء، اللغة والهوية وآفاق التنمية: نظرة في جوانب من هموم النهضة والتحديث في البلدان العربية، مجلة التسامح، العدد 5، (2004). ص13.