ما قبل الحكي:
مدخل الرواية رائق جدا يؤثث لاستقبال السرد المشوق.. يدخلك السارد من خلاله إلى التعرف على شخصيات أو شخوص روايته وهي تطل منذ الوهلة الأولى على النسيج السردي لــ (حومة باب الخوخة).. واصفا إياها بأنها (شخصيات ذات عقول مبهرة، ذات خبرات استثنائية…) (1) تموقعَ السارد بين هذه الشخصيات (سيرة ذاتية) يقول حكاية عن نفسه: “كنت مثل صبي زج به في عالم عجائبي.. تسلّلتُ إلى أعماقهم بعناية.. سحبتهم برفق إلى النشأة الأولى…” لإعادة الماضي النوستالجي.. اعتماد بوصلة النوستالجيا / عن طريق الفلاش باك…
الاستدعاء:
اتكأ السارد في مدخل سرديته الروائية على عنصر الاستدعاء.. باستدعائه مجموعة من الشخصيات، ذاكرا أسماءها دون تفاصيلها كمرجعية لتحوير الحوار الذي كان دائرا بين الشخصيات الحاضرة..
استدعاء تمّ فيه توظيف المرجعية النوستالجية الماضوية لاستحضار الماضي الجميل، والتصالح مع الذات من خلال بؤرتيْ (الحضور والغياب).. موازنة تقوم على النفسي والاجتماعي، والثقافي والفكري الذي تقهقر وتراجع إلى الوراء بدلا من معانقته، والبقاء على الجميل فيه والإخلاص له من خلال تطويره وتجويده.
السرد:
يمسك السارد بإحكام خيوط السرد، فيطوّع جمله وتعابيره الحكائية ليصوغ بلغة جميلة مشاهد وصور “حومة باب الخوخة” يجمع فيها أحيانا بين السرد القصصي والسرد التعبيري، فتجده يحكي ويطرب مسامع المتلقي بعبارات رائقة كأنها الشعر وماهي بشعر. فتأمل قول السارد: “سريعا كالبرق، لذيذا كرذاذ الفجر، تبرعم الطفل القابع في دواخلهم، والناعس في أعماق أعماقهم ليعيش من جديد مراتع الصبا ويحكي عنها بشغف”(2)
باب الخوخة ذلك المكان للمتخيل السردي الذي لم يكن للسارد به صلة ولا رباط، غير أنه تخيّل كل شيء له علاقة بهذا الفضاء التاريخي الجميل، وهذا الاستحضار الذهني التخييلي هو ما منح السارد قدرة بديعة على الكتابة من خلال قدرته على التخييل وهو من أهم عناصر السرد الروائي الناجح.
التخييل الذي بث جذوته في روح السارد، وأيقظ شعلته في نفسيته وغذّى شريان الحكي عنده وضخ نبضات خيوط المشاهد السردية، هو الحفل المهيب الذي حضره السارد، مع شخصيات في الفكر والثقافة والسياسة. فجعل فكره يتغذى من حواراتهم، ويرتوي من أفكارهم… ليتفتق عنه ببهاء وجمال هذا المولود السردي الرفيع الذي يضعه السارد بين يدي المتلقين من عشاق الرواية. يقول: “قررت أن أشارككم تفاصيل حفل سكنت أحداثه أعماقي…” (3)
فاتحة الحكي:
ما إن يفتح السارد بوابة الحكي حتى يضع قارئه أو بالأحرى المتلقي في بؤرة الفضاء العام الذي ستسرد فيه الأحداث؛ وتتمظهر فيه الشخصيات بكثافة.. (إنها فاس.. المدينة المسوّرة..) (المقيدة بمسبحات الشيخين التيجاني والدرقاوي الأسيرة بأوراد الكتاني والناصري.. الشغوفة بغنج الآلة والطرب الأندلسي..).. وكلها إحالات على ثقافة أصيلة، ومتجذرة في التاريخ شاهدة على المدينة، منبعها الأصيل مرتبط بتلك الشخصيات الفكرية والدينية البارزة التي لا تنمحي أسماؤها وإن انمحت بعض معالم المدينة الفاسية.
“باب الخوخة” علامة لغوية وسيميولوجية على حومة جمعت تفاصيل التاريخ ولملمت عبق الزمن المغربي الجميل الفائض بالعطاء الإبداعي لأهل فاس، الممتلئ بالمواقف الوطنية الخالصة.
يخوض السارد مولاي أحمد صبير الإدريسي ممتطيا جواد مخياله الجموح أرض فاس؛ حيث (حومة باب الخوخة) يجوب الفضاء بجهاته الأربع بل في كل اتجاه ووجهة.. يجمع وينقح وينسج رداء سرديا متماسكا مرصوص البناء زاخرا بالمعارف مفعما بالأحداث.. مترعا بالمعالم والمآثر، في أسلوب يدهش القارئ ويغويه لتتبع مسارب الحكاية، بل الحكايات (حكايات صغرى داخل الحكاية الكبرى/ الرواية)، فقد استخدم الروائي (مولاي أحمد صبير الإدريسي) تداخل المشاهد وتلاحم الصور، مما أسدى على روايته: (حومة باب الخوخة) نعمة العافية وجمالية السرد.
======
هوامش:
- رواية حومة باب الخوخة ص/ 6
- رواية حومة باب الخوخة ص/ 8
- رواية حومة باب الخوخة ص/ 9