تعددت المواقف من التطبيع الإسرائيلي الإماراتي الأخير دوليا وعربيا، انطلاقا من زوايا النظر التي تتحكم في تحديدها معطيات أساسية في السياسة الداخلية والخارجية لكثير من الدول، وسأحاول في هذا المقال تناول موضوع التطبيع من خلال بعض نظريات العلاقات الدولية؛ للإجابة عن الأسئلة الآتية: كيف يمكن فهم التطبيع وتفسير أسبابه في ظل السياق الدولي الحالي؟ ما تداعيات التطبيع الإماراتي على المنطقة إقليميا ودوليا؟ وما مستقبل القضية الفلسطينية بعد هذه التطورات؟
يقصد بالتطبيع مع إسرائيل باختصار، إقامة اتصالات مخططة، تهدف إلى جعل العلاقات معها علاقات طبيعية، عوض المقاطعة، ويحمل التطبيع دلالة القبول بوجود إسرائيل بنظامها، وصيغتها الحالية الاستيطانية العرقية، وبدورها في المنطقة، وإيديولوجيتها، ومشروعها الاستيطاني، وكذلك القبول بواقع الفلسطينيين تحت الاحتلال.[1]
أسباب التطبيع من منظور النظرية الواقعية:
إن التطبيع سرا وجهرا أمر واقع في العلاقات العربية الإسرائيلية، منذ زمن بعيد، غير أن الجديد منذ الربيع العربي الذي اختلست إسرائيل ثوراته إلى جانب شركائها، هو انتقالها إلى “الواقعية الهجومية”، بعد أن كانت تعتمد واقعية دفاعية، منذ اتفاقية السلام مع مصر، حيث غيرت موقفها من الدفاع، وانتظار أن تقوم الدول العربية بمد يد التطبيع، لتنتقل إلى ممارسة مزيد من الضغط على أنظمتها، وفرض الأمر الواقع عليها، والخروج بواقع التطبيع إلى العلن، تمهيدا للتطبيع الشعبي.
لذا ترى أن التطبيع الرسمي من قبل الحكام العرب لا يكفي كضمانة لاستمرار إسرائيل؛ بسبب عدم استقرار الحكم في الوطن العربي، وعدم قدرة الحكام على الاستمرار في الحكم، دون قوة المخابرات، والبنادق والسجون، والدعم الخارجي.
وعموما يمكن تلخيص أهم أسباب التطبيع فيما يلي:
- فساد كثير من الأنظمة العربية، واستبدادها، جعلها تابعة لأمريكا وإسرائيل، ذلك أن استمرارها في الحكم رهين بمدى خدمتها لأجندات السياسة الخارجية لهما في المنطقة؛ بتوفير الطاقة وضمان أمن إسرائيل، وبعبارة مختصرة: الاستمرار في الحكم، مقابل المال، وضمان أمن إسرائيل؛ لذلك وعت الأنظمة العربية هذه المعادلة جيدا، فأحسنت تطبيقها، فأي محاولة للخروج عن هذه المعادلة، يفرض بالضرورة تدخلا غربيا آنيا للتصحيح، وأفضل مثال على ذلك، إجهاض ثورات الربيع العربي الذي جاء بأنظمة حكم شعبية، كان من الممكن أن تضمن استقلاليتها نسبيا؛ في كل من تونس ومصر وليبيا، بتدخل أنظمة عربية، كانت ترى فيها خطرا حقيقيا عليها.
- اقتناع كثير من الأنظمة العربية أن الصراع مع إسرائيل، ومقاطعتها أسلوب غير مجد، وثبت خطؤه، بعد الهزائم المتتالية التي منيت بها في صراعها معها، وقد رسخت إسرائيل هذه القناعة من خلال خطابات قاداتها السياسيين، وحروبها العدوانية على لبنان وغزة.
ففي كتابه الخطير “مكان تحت الشمس”[2] يشرح رئيس الوزراء الإسرائيلي تصوره النظري لقضية الصراع الفلسطيني العربي الإسرائيلي منذ 1993، هذا التصور الذي ترجمه عمليا بعد توليه السلطة، أكد على أنه لا يمكن تحقيق الأمن لإسرائيل إلا عبر “قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم“، فلا بديل لإسرائيل عن سلام مسلح، يوفر لها القوة الكافية، لردع العرب، مؤكدا أن الذي أجبر الدول العربية التي وقعت اتفاقيات مع إسرائيل هو القوة، وليس الرغبة في السلام[3].
وعليه؛ فلا غرابة أن تطبع أنظمة عربية كثيرة علاقاتها مع إسرائيل، فهي في الواقع خاضعة للهيمنة الغربية والإسرائيلية، فالواقعية تقتضي أن يبقى حكامها في مناصبهم، مقابل ضمان أمن إسرائيل، وتوفير المال لأمريكا، فهي واقعية المصالح المتبادلة.
فبعض الأنظمة العربية التي تبحث عن تثبيت عروشها من خلال الدعم الصّهيوني، والقوة الأميركية، ترى أن القضية الفلسطينية تشكل عائقا رئيسيا أمام تعزيز علاقتها مع “إسرائيل”، لذا يجب إنهاؤها بأي حال من الأحوال[4].
فالعرب في نظر نتنياهو، أمة لا نفع فيها، ولا يمكن أن تستقيم في نهج الحضارة إلا من خلال سياسات القوة، ولا يمكن الوثوق بهم، متلونون، يبدلون آراءهم ومواقفهم بسرعة عجيبة، وقادتهم السياسيون يتخذون من القضية الفلسطينية فزاعة لتحقيق أهدافهم الشخصية[5].
وهو ما يفسر سعي بعض الدول العربية للتطبيع مع إسرائيل، وتحديدا الدول النفطية، التي وصف نتنياهو حكامها بعد زيارته ومسؤولين إسرائيليين لعدد من عواصمها، بـ“الحلفاء”.
مما سبق يتبين أن السياسة الإسرائيلية تجاه الأنظمة العربية تقوم على” الواقعية الهجومية “، التي تسعى من خلالها إلى تعظيم معالم قوتها، وسيطرتها، من خلال مبدأين أساسيين: توازن القوى، وإلقاء التبعات على الآخرين.[6]
تداعيات التطبيع الإماراتي على المنطقة إقليميا ودوليا:
يمكن تناول هذه التداعيات على المستويات الآتية:
تطبيع الأنظمة العربية: ونظرية الدومينو:
أيام عصيبة تنتظر الأنظمة العربية، فالواقعية الإسرائيلية الهجومية ستضغط عليها سياسيا، لكشف التطبيع، وإخراجه من الدوائر المظلمة إلى دائرة الأضواء المكشوفة، وسيكون للإمارات دور خطير في مسار عملية التطبيع؛ فلن يقتصر دورها على التطبيع المباشر مع إسرائيل؛ بل ستعمل عرابة له للضغط على باقي الدول الأخرى؛ لتطبيع علاقاتها طوعا أو كرها، لما لها من نفوذ مالي وإعلامي كبير في المنطقة العربية وتحديدا الخليجية.
فسقوط مصر والأردن من قبل، والإمارات حاليا، بشكل مفضوح، سيتلوه تطبيع دول أخرى تباعا، فسقوط أول قطعة من الدومينو كفيل بإسقاط الباقي في شَرَك التطبيع، بشكل سري أو علني.
كما أن التطبيع سيعزز من شرخ الانقسام العربي، وستنقسم دوله إلى مطبعة من الدرجة الأولى، والثانية، وأخرى ممانعة تحت الضغط، ما سيدق آخر مسمار في نعش الجامعة العربية التي جبنت لحد الساعة عن إصدار بيان في الموضوع.
فلسطينيا: تنتظر الفلسطينيين أيام عصيبة جدا، فمن المؤكد أن إسرائيل ستكثف ضغطها على الفلسطينيين اقتصاديا وسياسيا، وعسكريا بتصعيد قادم على قطاع غزة، ومزيد من ابتلاع الأراضي في الضفة الغربية، وذلك بمباركة الدول المطبعة، ومشاركتها، لإرغامهم على القبول بالواقع المر في ظل الخيانة العربية لقضيتهم.
فلا تزال كثير من الأنظمة العربية تظن أن عملية السلام في الشرق الأوسط تعني تحقيق السلام بتنفيذ إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة والتزامها بها، وانسحابها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنها تعني عند أصحاب المواءمة السياسية تعطيل أمريكا كل سبل السلام ودعم إسرائيل سياسيا واقتصاديا وعسكريا[7]، فإسرائيل تؤكد أن مبدأ “السلام مقابل الأرض” التي كانت تتفاوض الدول العربية وفلسطين معها على أساسه، قد ولى زمنه، وأن المبدأ الواقعي الآن هو “السلام مقابل السلام”.
التطبيع العربي: والنظرية المثالية:
تنطلق المواقف الرسمية والشعبية لبعض دول العالم الإسلامي، الرافضة للتطبيع من منطلق أن التطبيع جريمة وخيانة، لذا جاءت مواقفها في أساليب التنديد واللوم، والاستهجان، والمطالبة بالتراجع عن خطوة التطبيع، ما يجعل منها فيضا من العواطف والمشاعر؛ يدخلها في إطار النظرية المثالية التي تنادي بضرورة تخليق العلاقات الدولية، وجعل تفاعلاتها منضبطة بالقيم والأخلاق، لكن ستكون لها أهمية كبيرة في إنشاء ميزان قوة لها؛ حين تترجم إلى مخطط عملي؛ لمناهضة التطبيع ومحاربته.
فالعلاقات الدولية في موضوع الشرق الأوسط تتعامل معه القوى الغربية وإسرائيل بمنطق الواقعية” وما هو كائن”، وليس بمنطق المثالية و”ما ينبغي أن يكون”، كما هو حال دول العالم العربي.
مستقبل القضية الفلسطينية بعد هذه التطورات:
من المؤكد أن القضية الفلسطينية دخلت منعطفا تاريخيا خطيرا، يروم الإجهاز على ما تبقى من أراضي فلسطين، وإجبار الفلسطينيين على الإقرار بالأمر الوقع، بمباركة أنظمة عربية وتعاونها، وهو ما سيؤدي إلى تصعيد جديد في المنطقة، بشن إسرائيل لعدوان متكرر على غزة، أو من خلال توترات عسكرية محدودة، قد تنفجر بين إيران وإسرائيل، أو إيران والإمارات، كما أنه من المتوقع حدوث انتفاضات جديدة ستكون أكثر حدة من سابقاتها، وإجراء مزيد من المفاوضات العبثية، بشروط إسرائيل.
ختاما، إن حل القضية الفلسطينية، وتحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي، لا بد أن يسبقه تحريرها من أهلها المتاجرين بها أولا، وتحرير الشعوب العربية والإسلامية تحريرا كليا، وهذه المسألة قضية عقدية وسنة تاريخية لا تتبدل، غير أنها تتعلق بأجل مسمى، علمه عند ربي في كتاب.
[1] التطبيع بتعريفاته المتعدّدة، أحمد سعيد قاضي، https://rommanmag.com/view/posts/postDetails?id=4603
[2] من كتبه المهمة التي شرح فيها كذلك وجهة نظره للعلاقات العربية الإسرائيلية، و”الإرهاب العربي الذي يستشري في العالم”، حسب قوله، كتاب: ” استئصال الإرهاب:كيف تستطيع الدول الديمقراطية إلحاق الهزيمة بالإرهاب المحلي والعالمي (Fighting terrorism How Democracies Can Defeat Domestic and International Terrorists)، ترجمة محمد عبد السلام، دار الندى، بيروت.
[3] مكان تحت الشمس، ترجمة محمد عودة الدويري، دار الجليل للنشر و الدراسات و الأبحاث الفلسطينية “، عمان 2014، طبعة مزيدة ومنقحة، ص: 289
[4] التطبيع في العقل الإسرائيلي.. هكذا نُخضع العرب، حسن لافي، مقال منشور على الرابط التالي: https://www.almayadeen.net/articles/article/1398584
[5] قراءة في كتاب “مكان تحت الشمس” لـ بنيامين نتنياهو، نبال خماش، مقال منشور على الرابط التالي: https://www.alfalq.com/?p=11516
[6] صدر الكتاب بلغته الأم، العبرية، عام 1993، وبعد ثلاثة أعوام من صدوره، ترجمته إلى العربية “دار الجليل للنشر و الدراسات و الأبحاث الفلسطينية ” الأردنية.
[7] ماذا يريد العام سام، نعوم تشومسكي، ترجمة عادل المعلم، ط1، دار الشروق، 1998القاهرة، ص:56