من الذي يستحق النصر والتمكين؟
بداية ً الصلاح شرط لميراث الأرض، قال تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء 105]. وقال رسول الله r :«إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا»([1])، فذلك وراثتها، وهم عباده الصالحون، أخبر أنها خير الأمم، واللَّه أعلم.([2])
ويقول تعالى: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج 39-41] وبالتالي نستنتج قاعدةً عامة تقضي بحاجة العقيدة إلى الدفع عنها. فلا يكفي الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه، بل لا بد من قوَّة تحميه وتدفع عنه. وهي قاعدة كليَّة لا تتبدَّل ما دام الإنسان هو الإنسان!
وقد ضمن للمؤمنين أنه هو تعالى يدافع عنهم. ففيم إذن يأذن لهم بالقتال. ويكتب عليهم الجهاد؟ لعلَّ الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من الكسالى، يتنزَّل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء، كلما مسَّهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء! فهذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها؛ إنما هي الزاَّد الذي يتزودونه للمعركة، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله.
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة. فالذين إن مكنَّاهم في الأرض حقَّقنا لهم النصر، وثبَّتنا لهم الأمر. أقاموا الصلاة فعبدوا الله، وآتوا الزكاة فأدُّوا حقَّ المال وأمروا بالمعروف، فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس ونهوا عن المنكر فقاوموا الشرَّ والفساد، وحقَّقوا بهذا وذاك صفة الأمَّة المسلمة. هؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين، النصر القائم على أسبابه ومقتضياته، المشروط بتكاليفه وأعبائه، والأمر بعد ذلك لله، يصرفه كيف يشاء، فيبدِّل الهزيمة نصراً، والنصر هزيمةً، عندما تختل القوائم، أو تهمل التكاليف. ولله عاقبة الأمور، فكل نصر له سببه وثمنه وتكاليفه وشروطه؛ فلا يُعطى لأحد جزافاً أو محاباةً ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه.([3])
وقد كرَّر الله ذكر (سنَّة التدافع) وبيَّن تعالى حكمة الإذن بالقتال الذي قررته الآيات فقال بموضعٍ آخر: { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة 251] فالله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض، وقد سمى هذا دفعاً على قراءة الجمهور باعتبار أنه منه سبحانه، إذ كان سنة من سننه في الاجتماع البشري، وسماه دفاعاً في قراءة نافع باعتبار أن كلاً من أهل الحق المصلحين وأهل الباطل المفسدين يقاوم الآخر ويقاتله. ([4])
والمؤمنون إِنْ نَصَرُوا رَبَّهُمْ، نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وعَصَمَهُمْ مِنَ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَة، مصداقاً لقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[محمَّد 7].([5])
الهوامش
[1] – صحيح مسلم. كتاب الفتن وأشراط الســـــــــــــــاعة. باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض. رقم: 2889. 4: 2215.
[2] – انظر: الماتريدي، أبو منصور. تأويلات أهل السنة. تح: مجدي باسلوم. بيروت: دار الكتب العلمية. ط1-1426هـ = 2005م. 17: 383.
[3] – انظر: قطب، سيد. في ظلال القرآن. القاهرة: دار اشروق. ط32-1423هـ = 2003م. 3: 2424-2428.
[4] – انظر: رضا، رشيد. تفسير المنار. 2: 389.
[5] – انظر: الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. بيروت: دار الفكر. 1415هـ = 1995م. 7: 251.