قد شرعنا بحول الله وقوَّته، في سلسلة ضمن عنوان عام: (وسائل القوة السياسية بمنظور مقاصد الشريعة الإسلاميَّة) ولا زلنا في المقدمات والتمهيدات. حيث تم تعريف “وسائل القوة السياسية” في جزئين. وسيتم استعراض عناوين جزئية. ضمن عنوان خاص: (التمكين مقصد رباني يُتوسل إليه بالأسباب).
بدايةً: إن من أقسام المقاصد ما يرجع أمره إلى الأمة جمعاء، أو ما يقوم عليه نظامها. ومنها: ما يرجع إلى طبيعة الحكم الإسلامي، أو إلى صفة من الصفات والمعاني تكون أساساً للتشريع الإسلامي وقاعدة للتصرّف بين أفراد الملة كلها. ويمكن أن نردَّ المقاصد جميعها إلى جملة أقسام بياناً لصورها وتفصيلاً لأغراضها:
فمنها ما يتصل بنظام العالم والمجتمعات وما تتطلبه من مصالح. وله أمثلة كثيرة من المقاصد نذكر منها: حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. وصلاح العالم المقصود للشارع. وهو منة كبرى يمنُّ الله بها على عباده الصالحين جزاء لهم. والمقصد الأعظم للشريعة يتجلّى في جلب الصلاح ودرء الفساد. ومنه حياطة الشريعة المصالح المألوفة المطردة بسياج الحفظ الدائم. وهذا كمصلحة نظام العالم باحترام بقاء النفوس في كل حال، مع الأمر بالصبر على ما يلوح من شدّة الأضرار الراجعة لحياة بعض الأحياء. ومن أهم مقاصد الشريعة في انتظام أمر الأمة صلاح أحوال المجموع وانتظام أمر الجامعة فهذا أسمى وأعظم من صلاح حال الأفراد وانتظام أمورهم. وإقرار الشريعة الحرية وكذا المساواة بين الناس مع تقييد لها في مختلف تصرفات الناس بما نبَّه عليه الشارع.
ومنها ما هو راجع إلى دور الحكومة في الإسلام وتطبيق أحكامه. ومن صوره إقامة الإمام، ومَن يكون المجتمع أو الأمة في حاجة إليه من وزراء وأهل الشورى في الإفتاء والشرطة والحِسبة ونوابِهم ومساعديهم ليتم تنفيذ الأحكام المتعلقة بالحقوق العامة للأمة، والأحكام المتعلقة بالحقوق الخاصة بين أفراد الأمة. وحراسة ولاة الأمور للوازع الديني من الإهمال حتى يكون الامتثال من الناس اختيارياً، وإلا لجأوا إلى استخدام الوازع السلطاني الذي به يكون تنفيذ الوازعين الديني والجِبِلّي.([1])
فمقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال. فلم يبق للشك مجال يخالج به نفسَ الناظر في أن أهم مقصد للشريعة من التشريع انتظامُ أمر الأمة، وجلبُ الصالح إليها، ودفعُ الضر والفساد عنها. وقد استشعر الفقهاء في الدين كلُّهم هذا المعنى في خصوص صلاح الأفراد. ولم يتطرّقوا إلى بيانه وإثباته في صلاح المجموع العام. ولكنهم لا ينكر أحد منهم أنه إذا كان صلاحُ حال الأفراد، وانتظامُ أمورهم مقصد الشريعة، فإن صلاح أحوال المجموع وانتظامُ أمر الجامعة أسمى وأعظم. وهل يُقصد إصلاحُ البعض إلَّا لأجل إصلاح الكل؟ بل وهل يتركَّب من الأجزاء الصالحة إلا مركَّب صالح؟! وبذلك فلو فرض أن الصلاح الفردي قد يحصل منه عند الاجتماع فساد، فإنّ ذلك الصلاح يذهب أدراجاً، ويكون كما لو هبت الرياح فأطفأت سراجاً. وقد امتنّ الله على المسلمين وغيرهم من الأمم الصالحة بما مكَّنَ لهم في الأرض وما أصلح من أحوالهم.([2])
تعريف التمكين:
التمكين مقصد ربانيَّ ومنحة يؤتيها الله من يشاء وينزعها ممن يشاء بقدرته، ووفق نواميس الكون التي سنَّها بحكمته، وقدَّرها وتعبَّد النَّاس بالسعي له باتخاذ الأسباب والوسائل الموصلة إليه.
والتَّمكين: لغةً: القدرة([3]) ويُقَالُ: إنَّ فُلَانًا لَذُو مَكِنةٍ من السُّلْطان. َعْنِي الْمَنْزِلَةَ. ([4])
وقد وردت مكَّن بصيغة الماضي بمعنى الإسكان والتمليك ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} [الأنعام 6] {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص 57].
وبمعنى التثبيت والتوطيد: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [يوسف 21].
وبمعنى التحصُّن والتثبيت: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ}[المؤمون 13].
وأتت بمعنى عظيم القدر خاص المنزلة وعلوها: {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف 54].([5])
والتمكين السلطان والملك، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف 84] أي علماً وفهماً، يُتوصَّل به إلى معرفة الأشياء، والسبب ما يُتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك. ([6])
والتمكين اصطلاحاً: هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام، فالدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها، والحركة وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال، والتنظيم وما يستهدفه في الدعوة والحركة، والتربية بكل أبعادها وأنواعها وأهدافها ووسائلها بحيث لا يختلف على ذلك الهدف الأكبر أحد من العالمين من أجل الإسلام، شرط أن تكون خططهم نابعة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، فلا يستطيعون أن يختلفوا في أن التمكين لدين الله في الأرض هو الهدف الأكبر في كل عملٍ إسلامي؛([7]) حتى يكون سلطان الدين الإسلامي على كل دين ونظام، والحكم بهذا الدين على البشريَّة كلها، وهذا التمكين يسبقه الاستخلاف والملك والسلطان، ويعقبه أمن بعد خوف.([8]) كذا تمَّ تعريفها أيضاً ببلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأييد الجماهير والأتباع، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض وعلوِّ الشأن.([9])
ومن الآيات التي تشير إلى أن التمكين مقصد رباني ووعد ومنَّة:
يقول تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5- 6[ وَالْمَنُّ: الْإِنْعَامُ.. وَالتَّمْكِينُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ تَثْبِيتُ سُلْطَانِهِمْ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْهَا. ([10])
وفي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور 55[ وقَوْلِهِ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم 47[ وَقَوْلِهِ: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء 141[ وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون 8[ وقوله: { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران 139[ وعود من الله تعالى بالتمكين والنصر والعزة والعلوٌّ أَثَرًا لِلِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ.([11])
ومنها قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [ص 171-173[ وقوله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر 51[ بإظهار حججهم، أو بالانتقام لهم فما قتل قومٌ نبياً أو قوماً من دعاة الحق إلا بُعث من ينتقم لهم فصاروا منصورين في الدنيا ويوم القيامة بإعلاء كلمتهم وإجزال ثوابهم، أو بالانتقام من أعدائهم (الأَشْهَادُ) شهدوا على الأنبياء بالإبلاغ وعلى أممهم بالتكذيب.([12])
الهوامش
[1] – نظر: ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. 2: 480- 482.
[2] – انظر: ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية. 3: 392.
-[3] الجوهري. الصحاح. 6: 2205.
-[4] ابن منظور. لسان العرب. 13: 413.
[5]– انظر: أحمد مختار. المعجم الموسوعي لألفاظ القرآن الكريم. ص 425.
-[6] انظر: ابن جزي. التسهيل لعلوم التنزيل. 1: 473.
-[7] انظر: محمود، علي عبد الحليم. فقه المسؤولية. ص358.
-[8] انظر: محمود، علي عبد الحليم. فقه الدعوة إلى الله. 2: 713
-[9] انظر: يكن، فتحي. مجلَّة المجتمع. العدد 1249، 6 محرَّم 1418 هـ = 13 أيار 1997م.
[10] – انظر: ابن عاشور. التحرير والتنوير. 20: 70-73.
[11] – انظر: رضا، رشيد. تفسير المنار.. 1: 6.
[12] – انظر: ابن عبد السلام، عز الدين. تفسير القرآن (وهو اختصار لتفسير الماوردي). تح: عبد الله الوهبي. بيروت: دار ابن حزم. ط1-1416هـ= 1996م. 3: 119.