أعادت مَعركة طُوفان الأقصى قَضية فلسطين إلى الواجهة من جديد، وبعثت صُوَرُ “الفلسطيني المُقاتل” الأَمَلَ عَربيًّا وَعالميًّا بضرورة كَسرِ أطواقِ العُبوديَّة وهَزيمة الاستعمار، وَرأينا حالةَ تَضامنٍ نَشطة رَفضًا لِحَربِ الإبادة الصُهيونية على قطاع غزة، كما شاهدنا صُورًا من هذا التّضامن في المظاهرات ووسائل التواصل الاجتماعي تَمثَّلت بِرَفعِ الأعلام وارتداء الكوفية أو حمل الرموز ذات الدلالة المُباشرة لقضية فلسطين.
في هذه المَقالة نَسعى لِإعادة مَوضَعَةِ التّراث الشَّعبي وبيان أهمِّ الرّموز الثّقافية والنّضالية التي استخدمت للتّعبير عن التّضامن مع فلسطين، وفي ذلك ردٌّ لدور رموز التراث لسياقها الذي نَشِطَت فيه مُنذ بَدأت القَضية الفلسطينية تتشكل في الربع الأول من القرن الماضي، إذ برزت خلال المئة عام الماضية عناصر من التراث الفلسطيني، وَتَكَثَّفَت رمزيتها لتدلل سياسيًا على الهوية الجمعية والإرث النضالي المتواصل للفلسطينين.
التراث.. ذاكِرَة للحَنين ورمز للمُقاوَمة
أعي، باعتباري مُشتَغلًا بالتّراث الشَّعبي، وحريصًا عليه، أنّ مُهمّة التّراث في حالة فلسطين أن يكون جُزءًا من أدوات الصِّراع رَافضًا للاحتلال، وأنّه ليس مُجرَّد ذاكرةٍ جَميلة وإرثًا شَكَّل ما نحن عليه فَحَسب، ولذا حين نُنادي بالتّراث الشَّعبي وَنحُثُّ على التّمسك به، فإنّما نَفعَلُ ذلك من أجل صِيانَة الحاضر وَصياغَةِ المُستقبل، وَمن هُنا يكون تَقديرنا وثناؤنا على تناول طَبقِ المقلوبة في ساحات المسجد الأقصى أبعد من كَونِه مُجرَّدَ طبقٍ شَعبيٍ تقليدي علينا أن لا نَسمَحَ بِسَرِقَته، بلْ نهتم به لكونه فِعلٌ سياسي مُتّصل بِمُراغَمَةِ العَدو وَتحدّيه.
ومما لا شكَّ فيه بأن تُراثنا الشَّعبي على غِناه وتنوّعه قَد مَرَّ بعمليات غَربلة وانتقاء ونفي طوال الوقت، فَبرَزَت منه عناصر دون أُخرى، ورُمز لأَدوات وَمُقتنيات وعادات دون سِواها، وغاب حضور بعضها وأقصي من الدور الرمزي المباشر، وكان من وجهة نظري أحد أسباب هذا الحضور والغياب هو ارتباط هذه الرموز والأدوات بالبُعد المُقاوم والاشتباك مع الاحتلال، وذلك مُنذُ الثّورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939م)، ثُمّ لمّا وقعت النّكبة عام 1948م واقتُلعنا من أرضنا وَهُجرنا خَارِجَ بلادنا، كُنّا بحاجة لِنَتَمَسّك بالجِذور المُرتبطة بالبلاد والوطن المَسلوب، فَتشبثنا برمزياتٍ من التّراث ترتبط بالأرض تحديدًا وتعبر عن فلاحتها. ذلك أنّه لا بُد للمجتمع الفلسطيني وهو يناضل لأجل قضيته العادلة أن يكون له رموزٌ سياسية تعبّرُ عن ثقافته وهويته الوطنية، رموزٌ قد تَتنوع في دلالتها وطبيعتها وتاريخ تَشكُّلِها إلا أنها مجبولة من طينة البلاد وتربتها.
ولعل من أهم الصور التراثية التي دَلَّت سياسيًا على قضية فلسطين: العَلم الفلسطيني، خارطة فلسطين “من البحر للنهر”، الزيتون والزعتر، برتقال يافا، الأرض وترابها، شقائق النعمان، المنجل والفأس، سنابل القمح، مفتاح العودة، الثوب المُطرز، الكوفية، قبة الصخرة الصفراء، شعار حنظلة، وكذلك الحال مع الدّبكة والغناء المَملوء بالروح الوطنية. كما استُدعِيَت رُموزٌ ثقافية عَميقَةُ الجُذورِ كالسّيف والرمح والبندقية. وبرزت أطباق شَعبية وتكثف فيها معنى المطبخ الشعبي مثل المقلوبة والمُسخن وخبز الطابون. واسقطت مئات الأدوات التّراثية والعادات والممارسات الشّعبية التي كانت جزءًا من الحياة اليومية، ليس لأنها غير مُهمة، بل لأنه لَم يَكُن بالإمكان تَرميزها سياسيًا وربطها دَلاليًا بالجَنّة المَسلوبة التي لا نُريد نسيانُها أو التّفريط بها.
وصار يُمكن إدخال أدوات وأشكال تُراثية أو فنّية إلى عالم الرّمز وإخراج أخرى بناءً على قُدرتها على ربطنا بالوطن وصياغَةِ الحَنين له، وكذلك قدرتها على التدليل على الاشتباك والمُواجهة الدائمة، ومن ذلك لوحة جَبل المحامل التي أصبحت أيقونة دالة على فلسطين، ومثلها كوفية أبو عبيدة الناطق باسم المقاومة في غزة،والمثلث الأحمر الذي برز في معركة طوفان الأقصى..الخ. فقد عكست هذه الرموز السياسية الجديدة الأبعاد الاجتماعيّة والثقافيّة والنّضالية للمجتمع الفلسطيني.
والرّموز لا تتوقف عن التّواليد، حتى أننا نلاحظ بأن بعض الفنانين والمبدعين والفاعلين لا ينفكون على استدعاء صور وأشكال من التراث والحياة وتكثيف الفعل حولها لتقوم مقام الرموز السياسية التي يمكنها أن تُعبر عن النضال الفلسطيني وحالة الاشتباك التي تستند إلى صلابة ذاكرة الأرض وأهلها.
الأغنية… تراثنا الحيّ
لقد صَعدت عناصرٌ كثيرة من التّراث الشّعبي الفلسطيني وأصبحت رموزًا ذات دلالة سياسية وثقافية، وصار التّراث الشّعبي محل التقدير والاهتمام هو ما يُعبّر عن تطلعات الشّعب الثائر وآماله بالحرية، وكان على الفلسطينيين، في سبيل صناعة هذه الرّموز وتكثيف معناها، خوض اشتباكات ومواجهة دائمة مع العدو، وفي مراتٍ كثَيرةٍ رُويت نِضالاتُهم وَتضحيَاتُهم لأجلها بالدم، فَرَفع العَلم الفلسطيني كان طوال الوقت حالة مواجهة وتحدي مع جيش الاحتلال.
وقد يكون من أوضح صور التراث الشّعبي الذي تحول جوهر وظيفته ليكون تراث المقاومة: الغِناء الشَّعبي، ذلك أنه من أَهمِّ عناصر التّراثِ تَمثيلًا للفَن المُقاوم، الأمر الذي دفع الاحتلال لملاحقة واعتقال بعض المُغنين والزجالين الشعبيين الذين يحييون سهرات الأعراس وأمسيات القرى بأزجال العتابا والدلعونا، بل ومنع الاحتلال كثيرًا من الفعاليات والمهرجانات الثقافية التي ينشط بها هؤلاء الفنانين المنتمين لقضيتهم. ففي الوقت الذي منعت التجمعات السياسية والوطنية صار بمقدور الرجال والنساء الحديث عن همومهم الوطنية في الأفراح والمناسبات العائلية التي لن يكون بمقدور الاحتلال منعها.
كانت مضامين الأغنية الشعبية الفلسطينية الرجالية والنسائية على تنوعها حافلة بكلمات الحب والتعبير عن الرغبة بالارتباط بالمحبوب، لكنها تحولت للتعبير عن الأرض والوطن والكفاح لاستعادة الجنّة المسلوبة، ومن ذلك مثلًا أغاني جفرا وأشعارها، فقد غابت لَوعَةُ العاشِق لحبيبته وتحولت إلى لوعة العاشقين لوطنهم المسلوب، فحافظت جفرا على القالب الغنائي وتبدلت كلماتها.
جَفْرا وْيا هَالرَّبِعْ .. بِدّي أَرْضِ بْلادي
وِالْقَعْدِة تِحْلا وَالله .. بينَ أَهْلي وِصْحابي
كِرْمالِ عْيونِ الْوَطَنْ .. تِحْلا لي الشَّهادِة
كِرْمالِ كْرومِ الزَّيتون .. الرّوحِ مَفْدِيَّة
وفي واحدة من أشهر أغاني فرقة العاشقين التي قدمت على لسان الشاعر الشهيد نوح إبراهيم، يظهر بوضوح معنى التحول في الوظائف الاجتماعية للغناء الشعبي بصفته التراث الجامع للفرح، تقول الأغنية:
كُنا نغني بالأعراس: جفرا عتابا و دحية
واليوم نغني برصاص عالجهادية الجهادية
لقد عكس التحول في مضامين الغناء الشّعبي روح فلسطين وقضيتها وَجَسّد معنى النّضال لأجلها، وصارت المضامين الوطنية والفخر بالتضحيات والأبطال والشهداء أهم العناوين التي ترتبط بها، ولذا نجحت الأغنية الشّعبية بأن تكون أبرز الرّموز السياسية في التعبير عن فلسطين والتضامن معها.
الرموز .. التراث .. الفن
من المهم بالنّسبة لنا ونحن نتحدث عن الرّموز الثّقافية ذات الدلالة على قضية فلسطين أن نفرق بين هذه الرموز وبين كونها تُراثًا شَعبيًّا وبين تَحوّلها لاحقًا لأعمال فنية إبداعية، وإن كان في الأمر تَداخُلٌ وَتشابكٌ يَصعُب أحيانا التّفريق بينه وبيان حدود الاختلاف والاتفاق. وأوضح مثالٍ على ذلك الدّبكة الشّعبية، فهي مُمارسة تُراثية مُتصلةٌ بالفرح والحياة، فالدّبكة هي الدبكة بحركاتها وطبيعتها غير أنّها ارتبطت بالمواجهة والمقاومة التي تُظهِرُ من عُنفوانَ المؤدي/ة لها، ولذا صارت من رموز الحياة الفلسطينية الصَّلبة، فحين تقرع أقدام المؤدين الأرض كأنها تقول: لا للاحتلال، وهو ما جعلها رمزًا تراثيًا ذا دلالة سياسية.
الدّبكة اليوم هي فن، ونتفق على ذلك، وجذرها تراث شعبي لا ريب، لكنها فقدت عند كثير من المؤدين معناها لمّا قُدمت باعتبارها فنًا بعيدًا عن سياقها الثائر الذي جعلها من الرموز السياسية التي يُعبر بها عن فلسطين وأهلها وثقافتهم الشعبية، ولذا يُميز الجمهور بين أداء فرقة شعبية وأخرى، وَينحازون للفرق التي لا تزال تمثل معنى الاشتباك بالفن، ويحرصون وهم يُقدموه كباعتباره فنًا معاصرًا على أن يبقى في سياق المواجهة والتحدي مهما ابتدع فيه وأضيف له، لأن جوهر فعلهم هو الحفاظ على رمزية التّحدي والحياة في الدبكة والتي تصنعها الأقدام حين تقرع الأرض بقوة، ولا يكون اهتمامهم به كونه فن ثقافي تراثي فحسب.
والحال ينطبق على الكوفية المُخططة التي صارت رمزًا لهوية الفلسطيني وشخصيته، وليس أي كوفية أخرى مما شاع لبسه في الآونة الأخيرة من ألون: (سمراء، بيضاء، صفراء وخضراء) مع أنّ بعضها كان شائعًا ومعروفًا في فلسطين وله جذر تراثي؛ فالتّمسك والتّرك هنا مُرتَبِطٌ بالرموز التي تنتمي للقضايا التي نحملها ونقاتل لأجلها، ولذا كانت كوفية الفدائي الملثم هي أبلغ رمز سياسي معبر عن فلسطين.
وإذا كانت هذه الرموز تُعبر عن الأشياء التي علينا تذكرها والنّضال لأجلها، فساعة إذ لا يشترط بها أن تكون من جذر تراثي شَعبي، فالمهم في هذه الرموز هو قدرتها على حمل قضيتنا والتعبير عن نضالنا. ولذا من المهم أن لا نَعْلَقَ بالتّراث ونحن نبحث عن الرّموز، بل علينا أن نصنع هذا التراث وَنُشكله اليوم بدلالته المُشتبكة لنِتَرُكَه إرثًا لأجيالنا التالية.
وقد رأينا كثيرًا من الأعمال الفنية والمُغناة والمكتوبة والمرسومة والمصورة التي نجحت في حمل روح فلسطين والإشارة لعدالة قضيتها رغم كونها ابداعات متأخرة ورمزيات لا جذر تراثي لها، ولنا أن ننظر الى البطيخ مثلًا الذي أَسرع بالدخول لهذه الرّموز ذات الدلالة العالية، وكيف أُبدِعَ عالميًا ومحليًا في توظيفه لِيُعبّرَ عن التّضامن مع فلسطين. وعلى النقيض منه “عصفور الشمس الفلسطيني” الذي صَنعت منه بعض المؤسسات الرسمية والشعبية رمزًا سياسيًا، إلا أنه فشل في أن يتحول لرمز شعبي محلي أو عالمي، لأنه لم يتربط في سياق المواجهة المباشرة مع الاحتلال كما فعلت البطيخة باعتبارها بديلًا عن العلم الفلسطيني، وإلى أن يدخل إلى رمزية المواجهة سيبقى مجرد طائر فلسطيني جميل الألوان.
رموز أفقدت المَعنى
قد يكون مِن أشدِّ ما ابتلي به حقل التّراث الشَّعبي بدلالتة الرمزية بعد توقيع اتفاق أوسلو والتورط بمسار التّسوية هو تحويل الرّموز التّراثية من كونها أدوات نضالية تعبر عن حالة المُقاومة والاشتباك إلى ديكور سياسي ثقافي، فَأُفقرت الرّموز من جوهر مَعناها، وَنُزِعَت الصِّفة الأساسية التي تكونت في سياقها وارتبطت بها طوال مراحل النّضال الفلسطيني، ففقدت الكوفية دلالتها النضالية، باعتبارها رمز الفلسطيني الثائر الذي يخفي وجهة لتظهر قضيته، وأصبحت مجرد ديكور سَطحي الحضور، لأنها ارتبطت بعد مشروع التّسوية برموز السَّلطة وتنظيمها الأساسي. وغاب رمز الكف الذي يرفع البندقية وروجنا بديلًا عنه حمامة تحمل غُصن زيتون في إشارة لتَبّدل الوظائف والأدوار بعد تعديل الميثاق الوطني. وكان طبييعًا بالنّسبة لمن بدّل مشروعه أن يُبدل هويته الثقافية الغنائية مثلًا، فغابت أغنية “طل سلاحي من جراحي” وعلا صوت: “ازرع زيتون ازرع ليمون ازرع تفاح”، وتبدل شعار: “الكفاح المسلح” وصار يُردد على مسامعنا: “المقاومة السَّلمية”.
وعليه فإن الرموز السياسية والثقافية ليست تراثًا وتعبيرًا عن قضية فلسطين فحسب، إنّما هي مَجسٌ من خلاله نُدرك مُستوى حضور قضيتنا وغيابها عربيًا وعاليمًا، ولعل هذا مما يُحسب لمعركة طوفان الأقصى التي نجحت بصورة غير مسبوقة بإعادة مَوضَعَةِ الرّموز السياسية بموقع مُتقدم عالميًا وصار حُضورها تعبيرٌ جَلي عن رفض الاستعمار والمناداة بالحرية. ففي ذروة الانحدار الفلسطيني على كل الأصعدة جاء طوفان الأقصى ليجدد معنى الاشتباك، فتستعيد الرموز السياسية التراثية المعنى الذي تَشَكَّلت لأجله، فرأينا صورًا من هذا التضامن الحيّ عربيًا وعالميًا في مواجهة التوحش الاستعماري.