يتخذ سؤال التَّنمية مركزا محوريا في العالم العربي حاليا، فقد اعتبر العَديد من الباحثين والمحللين أن ثورات الربيع العربي في لحظتها خلقت المساحة اللازمة التي قد تسمح لأحزاب مختلفة بالمناورة السياسية داخل الدولة، نجاح المُناورة تلك وتأسيس تجربة سياسية جديدة يعوّل عليه من أجل تنمية البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. هذا التَّصور ما لبث أن أفل بعد نجاح الدولة العميقة في معظم البلاد التي قامت فيها الثَّورة في إقصاء وتهميش المجموعات والأحزاب الغريبة عنها وشل حركتها. إذا، سؤَال التنمية في العالم العَربي فقد إطاره الثوري الذي كان قد وضع فيه في السنوات الأخيرة وبات سؤالا سَائلا لا أفق واضح له. وفي حقيقة الأمر، حتى عندما كان إطار ثورات الربيع ممسكا ومحيطا بسؤال التنمية، لم يكن ثمة مقاربات منهجية تعطي الإطار ذاك وزنا حقيقيا ومضمونا قويا. لذلك، يهدف هذا المقال الى لفت النظر الى المقاربة التاريخية في التنمية علها تساهم في تطوير منهجية جديدة للإجابة عن سؤال التنمية في العالم العربي.
التَّاريخ والأدَاء الاقتصَادي
أكدت العديد من الدرَاسات الاقتصادية الإحصائية وجود علاقة ايجابية بين التاريخ الاقتصادي لإقليم معين وانتاجيته الاقتصادية الحالية. فعلى سبيل المثال وجد أسيموجلو، روبنسون، وجونسون أن ثمة علاقة بين التَّجربة الاستعمارية من جهة وما بين الأداء الاقتصادي الحالي للبلد المُستعمر سابقا من جهة أخرى. فالبلاد المُستعمرة ذات البيئة المناخية المناسبة ومعدلات وفيات المستوطنين المنخفضة حفزت المستعمر آنذاك على الاستقرار فيها وبالتالي انشاء مؤسسات اقتصادية وسياسية فاعلة وقوية. تلك المؤسسات القوية لا زالت بدورها تؤثر إيجابيا على الأداء الاقتصادي للبلاد المُستعمرة بعد عشرات السنين من التحرر. والعكس صحيح، ففي البلاد المُستعمرة ذات معدلات الوفيات العالية جراء انتشار الأمراض والأوبئة أنشأ المستعمر مؤسسات سياسية واقتصادية ضعيفة وغير منتجة لأنه دخل البلاد بنية استغلال ونهب الثروات من دون الاستقرار فيها. تلك المؤسسات الضعيفة لا تزال تؤثر سلبيا على الأداء الاقتصادي لتلك البلاد.
من خلال عدة إحصائيات تظهر العلاقة السببية بين معدلات الوفيات للمستوطنين خلال حقبة الاستعمار والناتج المحلي للفرد الواحد خلال عام 1995 في جميع بلاد العالم.[1] نستنتج منها أنه كلما زادت معدلات وفاة المستوطن خلال فترة الاستعمار ينخفض الناتج المحلي للفرد الواحد في عام 1995. هذا بدوره يؤكد على أطروحة كتّاب المقال التي تربط بين معدلات الوفيات وجودة المؤسسات التي يبنيها المستعمر من جهة وبين تلك المؤسسات والأداء الاقتصادي المستقبلي من جهة أخرى.
دراسات أخرى عديدة تؤكد أن للتاريخ الاقتصادي والسياسي وطأة وتأثيرا كبيرا على الأداء الاقتصادي المستقبلي للدول. فعلى سبيل المثال يشير العديد من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع السياسي أن الحروب الداخلية التي عاشتها أوروبا الغربية في القرنين الخامس والسادس عشر كان لها تأثير حاسم في بناء دول قوية في القرون التالية[2]. فكلما ازدادت وطأة الحروب زاد إنفاق الجيوش على العتاد العسكري. تمويل هذا الانفاق المتزايد يستلزم زيادة الضرائب على السكان إلا أن فرض زيادات ضريبية يحتاج أجهزة مؤسساتية قوية قادرة على إجبار الشعب على دفعها. الجيوش التي ربحت الحروب وسيطرت على الأراضي هي الجيوش التي تمكنت من بناء المؤسسات الأكثر فعالية في استخلاص الضرائب. هذه البنى المؤسسية الضريبية هي التي تم على أنقاضها بناء الدول الحديثة في أوروبا الغربية والتي ساهمت في تمكين تلك الدول من الصعود الى أعلى سلالم القوة الدولية.
هكذا نُلاحظ إذا من خلال هذين المِثالين أن للتَّاريخ أثرا كبيرًا على الأداء الاقتصَادي للدول.
معجزات تنموية؟ تركيا واليابان
هذا السياق التاريخي للتجارب التنموية الذي أكدت الدراسات التجريبية والاحصائية تأثيره على الأداء الاقتصادي المستقبلي، يتم تجاوزه في كثير من الدوائر العربية الثقافية. فنرى كثيرا من المفكرين ينظرون الى التجارب الناجحة على أنها معجزات خارقة، فيذاع بين الناس أوصاف للتجارب التنموية تعكس هذه الرؤية من قِبل المعجزة اليابانية ومعجزة النمور الآسيوية والمعجزة البرازيلية والمعجزة التركية الخ. إضفاء صفة الاعجاز على ظواهر تنموية كتلك المذكورة آنفا سببه عدم إدراك الأسباب التاريخية والموضوعية لنجاح تلك التجارب وتجلي آثارها الاقتصادية. فلو نظرنا الى الأسباب الموضوعية التي أدت الى نجاح تلك التجارب لوجدنا أن لها جذورا تاريخية قد تعود لمئات السنين. التأكيد على تلك الجذور يزيل ذلك الطابع الاعجازي الذي يضفيه الكثيرون على تلك التجارب فتصبح ذات صلة أوثق بسؤال التنمية في العالم العربي. ولنضرب مثالا باليابان وتركيا.
النهضة اليابانية ما قبل الحرب العالمية الثانية التي جعلت من اليابان قوة صناعية وامبريالية عظمى تنافس القوى الغربية اقتصاديا وعسكريا. هذه الحقبة التي تعرف بحقبة الامبراطور الميجي (1868-1905)، ما كانت لتكون لولا الاستقرار السياسي والعسكري الحاصل في اليابان لأكثر من قرنين خلال عصر الاقطاع العسكري لعائلة توكوغاوا (1605-1868) والذي عزل اليابان عن العالم الخارجي. تزامن ذلك الاستقرار السياسي والأمني في عصر توكوغاوا مع زيادة أعداد السكان واستصلاح الأراضي الزراعية إضافة الى زيادة معدلات التعليم بسبب الاهتمام بنشر القيم الكونفوشوسية[3] فتشكلت شيئا فشيئا طبقة وسطى من اليابانيين قادرة على القيام بالتحديث الشامل، وهو الأمر الذي حصل فيما بعد خلال عصر الامبراطور الميجي[4]. هذه التجربة التنموية التي عادة ما تصور في دوائر عربية مختلفة على أنها إعجازية لو وضعت في سياقها التاريخي التطوري الذي يسمح بدراستها وسبر أغوارها لزالت عنها صفة الاعجاز تلك وأصبحت ذات صلة أكبر بواقعنا العربي الحالي.
نفس الأمر يتكرر مع تجارب معاصرة ليست بعيدة عن العالم العربي. فعلى سبيل المثال، يصوّر البعض تجربة التحديث التركية أثناء حكم حزب العدالة والتنمية وكأنها منقطعة عن سياقات التطور السياسي والاقتصادي لتركيا الحديثة منذ نشأتها مطلع القرن العشرين، الا أن هذه الصورة المرسومة فيها اختزال كبير[5]. فالدولة التركية منذ أواسط القرن العشرين تتبنى سياسات صناعية لإنماء القطاع الصناعي وتحفيز تصدير السلع الوطنية وحماية الشركات المتوسطة والصغيرة. كما أن حكومات تركيا المتعاقبة عملت على تحفيز الاستثمارات في الأقاليم التركية المهمشة وتوسيع حركة التصنيع الى الأطراف التركية.[6] لم تؤتي هذه السياسات الاقتصادية ثمرتها آنذاك لأسباب داخلية وخارجية عديدة الا أن التحديث والتنمية الشاملين كانا ينتظران من يخرجهما من دائرة الإمكان الى دائرة التفعيل. تمكن حزب العدالة والتنمية في أوائل القرن الحالي بسبب معادلة دقيقة طرح نفسه من خلالها ضمن ظروف سياسية واقتصادية معينة من تفعيل تلك الإمكانات المتكدسة على مر السنوات السابقة لحكمه.[7] هكذا لعب التاريخ لا المعجزة دورا أساسيا في تجربة تركيا التنموية.
الربيع العربي وتضييع الفرص التاريخية
إن نقد مفهوم المعجزة النهضوية\التنموية واستبداله بالمقاربة التاريخية ضروري من أجل تحفيز تفكير أعمق في سؤال التنمية في السياق العربي. فهذا المفهوم يضعف من قدرتنا على رؤية وتحديد الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتكدسة تاريخيا التي يمكن الاستفادة منها من أجل تحقيق الأهداف التنموية.
كانت ثورات الربيع فرصة من أجل نقل التنمية والتحديث في العالم العربي من دائرة الإمكان الى دائرة التفعيل. فالقوى المدنية الفاعلة لم تهدف في بداية الأمر الى تدمير الدولة وتفكيكها وبالتالي تحطيم جميع الإمكانات التنموية المتكدسة عبر التاريخ، بل هدفت الى اسقاط النظام واستبداله بآخر أكثر فاعلية قادر على تفعيل تلك الإمكانات والاستفادة منها. الا أن المشروع ذاك ما لبث أن تعثر لأن القوى الثورية أغفلت أن النظم السياسية القديمة التي توسعت وتعمقت أفقيا وعموديا داخل الدولة هي أيضا ذات إمكانات استطاعت من خلال تفعيلها قمع مطالب الشعوب. نلاحظ إذا أن الخطاب الثوري للربيع العربي نسي أن تلك الإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتكدسة عبر التاريخ ليست حكرا عليهم اذ بإمكان الأنظمة الاستبدادية العربية ان توظفها لصالحها كما حصل في حالات عديدة.
ما العمل؟
يجب أن نبحث ونكشف عن الإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية الظاهرة والباطنة التي تكدست عبر التاريخ في كل دولة من الدول العربية. ثم يجب أن نبحث عن كيفية الاستفادة منها وتطويرها في سبيل تحقيق الأهداف التنموية المرجوة. بعد ذلك، يجب أن ننتظر أو نخلق الفرص والظروف المناسبة التي تمكننا من الاستفادة القصوى من تلك الإمكانات في سبيل التنمية الشاملة.
نلخص هذا المنطق في الرسم البياني أدناه:
الكشف عن الإمكانات الاقتصادية المتكدسة تاريخيا ثم البحث عن السياسية المثلى لاستغلال تلك الإمكانات ثم تطبيق السياسة المثلى في الظروف المناسبة
|
لنضرب مثالا عمليا بالسياسات الاقتصادية التي تدعم الانتاج الوطني بهدف تطويره والتي تعرف باسم “السياسات الصناعية”. بعض الأمثلة على هذه السياسات قد تكون خفض الضرائب على القطاعات المنتجة، تقليل الرسوم الجمركية على السلع الوسيطة المستوردة بهدف استخدامها في المصانع، رفع الرسوم الجمركية على البضائع الخارجية المستوردة المنافسة للقطاعات الوطنية وغيرها من السياسات. تشير الدراسات الاقتصادية الإحصائية الى أن السياسات الصناعية تساهم في زيادة انتاجية وتنافسية القطاعات الوطنية فقط حين تستهدف تلك السياسات القطاعات التي فيها قدر عال من التنافس الداخلي[8]. دعم تلك القطاعات من قبل الدولة يزيد من انتاجيتها وبالتالي يساهم في النمو الاقتصادي. أما دعم القطاعات الوطنية التي لا تنافس بين الشركات الوطنية عليها فهو عادة ما يؤدي الى هدر المال العام من دون تحقيق أي زيادة في الإنتاجية أو النمو. وعليه نستنتج أننا في حال أردنا دعم القطاعات الوطنية العربية من أجل زيادة انتاجيتها عبر السياسات الصناعية، علينا:
أولا) أن نحدد الإمكانات الاقتصَادية التَّاريخية، وهي القطاعَات الاقتصادية التنَافسية في هذه الحالة
ثانيا) أن نبحث عن الكيفية الأمثل لتطبيق السيَّاسات الصناعية تلك (المقادير المثلى لخفض الرسوم الجمركية على السلع الوسيطة أو رفع الرسوم الجمركية على السلع المنافسة الخ…)
ثالثا) أن نخلق أو نبحث عن الفرصة السياسية\الاقتصادية المناسبة التي تمكن من تطبيق السياسة الصناعية المثلى على القطاعات الاقتصادية ذات التنافسية العالية.
اتباع هذه الطريقة سيمكننا من استغلال امكاناتنا التاريخية من أجل تحقيق أهدافنا التنموية ويصبح علم التاريخ ذا علاقة أوثق بأسئلة واقعنا العربي الحالي وبالسياسات العملية التي قد تساهم في نهضته.
[1] Acemoglu, D., Johnson, S., & Robinson, J. A. (2001). The colonial origins of comparative development: An empirical investigation, The American Economic Review.
[2] Tilly, C. (1985). War Making and State Making as Organized Crime. In P. Evans, D. Rueschemeyer, & T. Skocpol (Eds.), Bringing the State Back In (pp. 169-191). Cambridge: Cambridge University Press. doi:10.1017/CBO9780511628283.008
[3] سلمان بونعمان. (2012). التجربة اليابانية: دراسة في أسس النموذج النهضوي، مركز نماء للبحوث والدراسات.
[4] ناغاي ميتشو وميغال أوروتشيا. (1996). نهضة اليابان: ثورة المايجي إيشين، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
[5] محمد نور الدين. (2018). تركيا القلقة: في الحداثة والكيان والعلاقة بين الجماعات، رياض الريس للكتب والنشر.
[6] Amr Adly. (2012). State Reform and Development in the Middle East: Turkey and Egypt in the Post-Liberalization Era, Routledge.
[7] Dani Rodrik. (2015). Turkish Economic Myths, retrieved from: https://rodrik.typepad.com/dani_rodriks_weblog/2015/04/turkish-economic-myths.html.
[8] Aghion, P., Cai, J., Dewatripont, M., Du, L., Harrison, A., & Legros, P. (2015). Industrial Policy and Competition. The American Economic Review, retrieved from: https://www.aeaweb.org/articles?id=10.1257/mac.20120103.