لقد كان لي شرف قراءة أغلب ما كتبه الأستاذ امحمد طلابي، قبل عشر سنوات، وبقيت أتابع كتاباته ومحاضراته إلى اليوم. من خلال ذلك، عرفت طريقة تفكيره في عدد من القضايا والمواضيع. فكان لي فيها رأي، وكان لي فيها نظر.
قرأت تأملات ذ. طلابي الافتتاحية على مجلة “الفرقان“، حتى حفظت عددا من خرائط تلك التأملات. وبقيت لي على أفكاره تحفظات، منها ما احتفظت به إلى اليوم، ومنها ما راجعته بعد حين.
راجعت حكمي على موقفه من “المدرسة النقدية في الاقتصاد السياسي/ ما بعد آدم سميث ومالتوس وريكاردو“؛ إذ تبين لي، بعد نقاش خاص مع ذ. طلابي، أنه لا يتجاوز هذه المدرسة من حيث “تحليلها الاقتصادي والسياسي الجدلي الملموس“، بل من حيث الفلسفة المادية، فلسفة المادية الفرنسية، التي أثرت في روادها الأوروبيين.
تبين لي أيضا أنه لا يفكّر بعيدا عن غاياتها الكبرى، حيث “المشاطرة” في الملكيات والسياسات والمعارف.
وعرفت، أيضا، أن ذ. طلابي يعطي للخصوصيات حقها، ويقدرها قدرها، ليس الخصوصيات الثقافية المشرقية فحسب، بل أساسها الاجتماعي والاقتصادي. وفي هذا السياق، أخبرني عن تمييزه بين “نمط الإنتاج الإقطاعي الغربي” ونظيره “الآسيوي أو الإيتاوي المشرقي“. وهو استمرار لنقاش فتحه أحمد صادق سعد ومحمود إسماعيل وسمير أمين، وكلهم مصريون.
**
أما ما أحتفظ به من موقفي الناقد للأستاذ طلابي، فإنه يخص موقفه مما سمي ب“الربيع العربي“، الفوضى الخلاقة، “الثورة” الملونة الهجينة، التي استغل أصحابها (الأجنبي) التفاوتات الاجتماعية في الوطن العربي لنشر الفوضى وتفكيك ما تبقى من وحدة الوطن العربي. سوريا نموذجا، ومصر كانت على الأبواب، والعراق باستئناف المسار (حرب الخليج الأولى، الثانية، 2003)، واليمن بإعادته إلى زمن الانفلات القبلي، وليبيا بهدم ما تم بناؤه… الخ.
وإذا كان الأستاذ طلابي يعتبر “فتنة الربيع” فرصة لــ:
– إنتاج السلطة وإعادة توزيعها.
– إنتاج الثروة وإعادة توزيعها.
– إنتاج القيم الحاكة وإعادة توزيعها.
– إنتاج المفاهيم (النّحوتة) وإعادة توزيعها.
حسب تعبيره، الذي أحفظه عن ظهر قلب؛ إذا كان هو يرى الأمر كذلك، كما فعل بعض “الماركسيين” العرب، أمثال سلامة كيلة وبرهان غليون، فإنني لا أراه كذلك.
واقع الوطن العربي اليوم يقول كل شيء، تمزق هنا وهناك، وفتنة هنا وهناك. ولم تكن “أحداث 2011″ وليدة الصدفة، أو وليدة مطالب اجتماعية بسيطة وعفوية، بل كانت وليدة:
– عمل سابق، من نشرٍ لأداليج الديمقراطية وحقوق الإنسان بصيغتها العولمية، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وسيادة الأحادية القطبية. وكذا بالتمويل، والتكوينات والاستضافات في عدد من العواصم الغربية.
– عمل موازٍ، بانتهاز الفرص، وتوظيف وسائل إعلامية (منها عربية للأسف)، وممارسة الضغط الأجنبي الحكومي وغير الحكومي على الأنظمة وإدارات الدول.
– عمل لاحق، بجني نتائج هذا الخراب، سياساتٍ وثرواتٍ، سُرق فيها النفط وبيع فيها سلاح غربي صنع على المقاس (لفتنة في الشرق الأوسط) وابتزَّت فيها إدارات الدول… الخ.
**
أسجل ما ذكر أعلاه، وأقول إن فكرَ طلابي لا يقف عند هذا الحد، بل له من الغنى ما يطلب الاهتمام به. وهذه بعض إشكالياته المهمة:
– وعيه بإشكالية الاستعمار، قديمه وجديده، بما له من أضرار على كل الأقطار، في الوطن العربي والأمة الإسلامية. وهو ما يظهر من خلال كتابه “تقرير في نقد العقل السياسي المغربي.. الرسمي والمعارض“، حيث تحدث عن مرحلتين من الاحتلال: الاحتلال الروماني القديم، والاستعمار الفرنسي الحديث (الاستعمار العسكري القديم). كما يظهر وعيه بإشكالية الاستعمار الجديد في موقفه من “النيوليبرالية الجديدة“، وما أنتجته من دمار بيئي وإنساني ومعرفي وقيمي… الخ.
– دعوته إلى نموذج من القيم، على النقيض من قيم النظام الاجتماعي السائد عالميا، نظام لا أخلاقي انحلالي، يشجع اللامعنى والسيولة والاستهلاك الفاحش، يستهدف الإنسان قبل الأرض، ذاكرتَه وفكره قبل ملكيته ومقدراته الاقتصادية وثرواته الطبيعية.
في نموذجه من القيم، يعتبر ذ. طلابي ما للخصوصية من أهمية في إنتاج القيم وتبنيها، وذلك بتعريفه القيم بأنها “حزمة من التصورات الفلسفية والدينية المفضلة عند أمة ما“.
– تأصيله لقيم الوسطية قرآنيا، من “توازن” و“حدية” و“قدرية” و“انضباط“؛ وهو مهم في بابه، وسياقه، على النقيض من خطابات التحريض على التطرف والإرهاب التي انتشرت فترة من الزمن تحت أقنعة من التأويلات الدينية المتعسفة.
– دعوته إلى جمع شتات الأمة، والأوطان قبلها، تحت سقف “أدوات الإنتاج الحضاري” بتعبيره، وهي “الرسالة واللسان والدولة (السلطة المركزية) والوطن والأمة“.
– وضعه الأصبع على عين الخصوصية السياسة، لكثير من دول الوطن العربي أو أغلبها (أو كلها). أقصد “دولة مدنية بمرجعية إسلامية“، حيث “الشراكة بين القداسة والسياسة“؛ لا “تحكّم القداسة في السياسة” كما يحدث في دول دينية (الفاتيكان/ إيران)؛ ولا “الفصل بين القداسة والسياسة” كما يحدث في دول علمانية، “مدنية بمرجعية لا دينية“.
– دعوته إلى التكتل، في عصر التكتلات الكبرى، ضمن ما أسماه “السنن التاريخية الأربع/ الهجرات الأربع للقرن 21 م“: “الصحوة الديمقراطية العالمية، الصحوة الدينية العالمية (الإسلام في أوروبا)، انتقال التقدم العلمي والاقتصادي من الغرب إلى الشرق (نموذج الصين والهند)، من الدولة الوطنية إلى الدولة العابرة للأقطار“.
– تأسيسه لوعي تاريخي(“الخصوبة التاريخية“)، من خلال جهاز مفاهيمي أساسه مفهومان هما: “الحاضنة التاريخية” و“الفعل التاريخي المخصِّب“. العلاقة الجدلية بينهما هي أساس الوعي التاريخي، تجاوزا للإرادوية (إهمال “الحاضنة التاريخية“)، وتجاوزا للجبرية التاريخية (إهمال “الفعل التاريخي المخصب“).
– توسطه بين هيجل (أداة حرية) وماركس (أداة قهر) في نظرية الدولة، وهذا مهم لنا، على النقيض من وعيين: وعي مثالي لا يهتم بما تحت الدولة من مضمون اجتماعي/ ووعي تحتي لا يعترف بقواعد بنائها الفوقي (=جهاز الدولة) وما لها من تأثير ممكن.
– دعوته إلى تكوين “الفقيه الفيلسوف“، يركّب بين علوم الشريعة وعلوم الحياة الطبيعية والتاريخية، ينظر في حقيقة الواقع والتاريخ قبل تنزيل حقيقة الشرع. وفي هذا تجاوز لبعض مشاكلنا العالقة حيث يفتي الفقهاء بغير علم في “السياسة والاقتصاد” فيصبحون عرضة للتوظيف (الاستعماري هو الأخطر)، أو يعتزلون ما لا قدرة لهم عليه فيخلون بالأمانة ويتركون فرض الكفاية (وقد أصبح فرض عين).
هذا غيض من فيض، والباقي يحتاج إلى دراسة أكثر تفصيلا.
**
أما خلاصة الخلاصة، في أهمية فكر الأستاذ امحمد طلابي، فهي:
– دعوته إلى تجديد التأصيل، تدبر جديد في الآفاق والأنفس، هو ما دفع طلابي إلى الاعتكاف على القرآن عله يجد ما يحتاجه، ليس مسلمو القرن 21 وحدهم، بل العالم ككل.
– دعوته إلى تجديد المعرفة، بالتزام “الوحي الحق“، دون “اغتراب” عن “العلم الحق” و“المنطق الحق“. ليس العلم الدقيق وحده بما هو “علاقة جدلية ضرورية بين التنظير المُريَّض والتجربة والقياس الدقيقين” (هشام غصيب، تاريخ العلم)، بل العلم الإنساني والاجتماعي أيضا بما هو “قوانين” في النفس وقواعد في التاريخ. وليس منطق التفكير في الشريعة فحسب، بل منطق التفكير في الطبيعة والواقع والتاريخ والإنسان… الخ.
رغم التحفظات المذكورة، والملاحظات التي قد تكون جوهرية؛ إلا أن الأستاذ امحمد طلابي “معلم حقيقي“، فوجب على الحركة الإسلامية الإنصات إليه، وبإمعان؛ فلربما لم تقرأ فكره بعد!!!