تشهد الساحة الجامعية المغربية تراجعًا ملحوظًا في الفعل النضالي الطلابي، حيث انحصرت النضالات الطلابية في نطاق محدود وضيق يقتصر على المطالب الفئوية واليومية، في حين تُغيب الحركة الطلابية عن القضايا الجوهرية، وعلى رأسها إصلاح منظومة التعليم العالي. يعود هذا التراجع إلى عوامل متعددة، من بينها الأزمة الذاتية المرتبطة بتشرذم الحركة الطلابية منذ فرض الحظر العملي على نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، بالإضافة إلى سياسة الإقصاء التي مارستها بعض فصائل اليسار تجاه عدد من المكونات الطلابية خاصة الإسلاميين عبر العنف الرمزي والمادي، وكذلك الخطوة الأحادية التي اتخذها فصيل طلبة العدل والإحسان بتشكيل هيكلة أوطم على المستوى الوطني، مما أدى إلى تعميق حالة الانقسام الفصائلي وتبديد إمكانيات الوحدة، على الرغم من بعض المبادرات لتوحيد صفوف الحركة الطلابية وتجاوز معضلة العنف والإقصاء، أبرزها مبادرة “الحل الاستثنائي” التي قدمها فصيل طلبة الوحدة والتواصل، و”ميثاق شرف لنبذ العنف والإقصاء” الذي اقترحته الحركة الثقافية الأمازيغية، وآخرها “مبادرة الطرف الثالث” الذي طرحتها منظمة التجديد الطلابي.
ترافق هذه العوامل الذاتية مع شق موضوعي يتمثل في الإقصاء الممنهج للفاعل الطلابي من قبل الدولة، وتقليص تمثيلياتهم في المؤسسات الجامعية وعدم إعطائها الأولوية اللازمة. مُحاوِلةً عزل الطلاب عن المشاركة في اتخاذ القرارات التي تؤثر على مستقبلهم بشكل مباشر. بالإضافة إلى ذلك، فرضت المنظومة الليبرالية الفردانية تحديات قيمية وتحولات فكرية أدت إلى إنتاج مواطن/طالب غير مكترث بقضاياه الأساسية من حقوقه وواجبات، فما بالك بالاهتمام بقضايا الشأن العام.
في ظل هذا السياق المعقد، يُعد نجاح المعركة النضالية لطلبة الطب بصيص أمل للفاعل الطلابي، حيث تمكن الطلبة من تحقيق مطالبهم بفضل وضوح الأهداف والإجماع عليها، وتجاوز الفصائلية والشيطنة نحو برجماتية نضالية أثمرت تحقيق معظم المطالب المضمنة في الملف المطلبي. خاصة وأن هذا النضال مرتبط بقضايا حيوية مثل تحسين جودة التكوين الطبي والوضعية المادية والاجتماعية للطلبة، مما يدل على إمكانية إعادة بناء الفعل النضالي على أسس مشتركة بعيدًا عن التجاذبات الفئوية، ويؤكد أن وضوح الأهداف والتزام الجميع بها هو مفتاح أي نجاح حقيقي في الميدان النضالي.
في هذا الإطار، يتعين على الحركة الطلابية رفع شعارات تدعو إلى النضال المشترك، متجاوزة عوائق الفصائلية والارتباط بتاريخ مضى، لأن الجميع اليوم في مركب واحد، ولأن أفق الإصلاح الجامعي يبدو مسدودًا بالنظر إلى كيفية تعامل الحكومات المتعاقبة مع هذا الملف. بالإضافة إلى ذلك، يعيش عموم الطلبة على وقع تحديات اجتماعية صعبة، حيث تواجه هذه الفئة التي يزيد عددها عن مليون وثلاثمائة ألف تحديات مشتركة نتجت عن التضخم وارتفاع الأسعار وتدهور الأوضاع الاجتماعية، مما يجعل الحاجة أكثر إلحاحا إلى تحرك جماعي يستند إلى نقاط متفق عليها بعيدًا عن الانقسامات التاريخية.
إن التحديات الاجتماعية التي تواجه الطلبة لا تقتصر على غلاء المعيشة والتضخم فحسب، بل تشمل أيضًا نقص الدعم المؤسساتي، وغياب السياسات الاجتماعية العادلة التي تكفل حق الطلبة في التعليم والسكن والتغذية. يجب أن تدرك الحركة الطلابية أن هذه القضايا تتطلب تكاتفًا جماعيًا وجهودًا متناسقة لتحقيق مطالب مستدامة، بحيث لا تظل النضالات محدودة الأفق أو منحصرة في فئة دون أخرى، بل تشمل جميع الطلبة وتحقق العدالة والمساواة بينهم. إن تضافر الجهود والعمل بروح التضامن هو السبيل الوحيد لمواجهة هذه التحديات المتعددة.
دون أن نغفل التغيرات القيمية التي طرأت على البنية الطلابية، والتي تتطلب وقفة جماعية تستند إلى القيم المشتركة، خاصة فيما يتعلق بحرمة الجامعة، وقيم التعلم، ومحاربة الغش، وإحياء ثقافة التضامن والنصرة للقضايا الجامعة. وفي هذا السياق، تبرز القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مجمِّعة لكافة المكونات الطلابية، مما يستدعي إحياء روح التضامن والعمل المشترك من أجل نصرتها وتعزيز الوعي بالقضية بين الطلبة. إن القضية الفلسطينية ليست فقط رمزًا للنضال ضد الاحتلال، بل هي أيضًا قضية عدالة وكرامة، ويجب أن تكون جزءًا من الوعي الطلابي المستمر لتعزيز مفهوم النضال من أجل القيم الإنسانية. إن هذه القيم تشكل حجر الزاوية لأي محاولة جادة لإصلاح الفعل الطلابي، وتفرض على الجميع التعاون والتعاضد لحمايتها وتعزيزها.
إن العمل الوحدوي يجب أن يتجاوز الإشكالات التنظيمية المرتبطة بالهيكلة وقيادة المعارك، ليتوجه نحو نضالات من أجل قضايا مشتركة يتماهى فيها الجميع ويحرصون فيها على مصلحة الطالب والجامعة ككل. إن هذه المقاربة الشمولية يمكن أن تشكل أساسًا لعمل وحدوي حقيقي يتجاوز الفصائلية ويعلي من شأن القضايا المصيرية. ويجب أن تُترجم هذه الوحدة إلى ممارسات فعلية تتجسد في الميدان، وليس فقط شعارات تُرفع خلال المناسبات. فالعمل المشترك يجب أن يكون واضح الأهداف، محدد المعالم، ومتفقًا عليه من قبل الجميع، بحيث يشعر كل طالب أن نضاله جزء من حركة أوسع تسعى لتحقيق الأهداف الجماعية. كما لا يمكن تصوّر أي تغيير إيجابي في المشهد الطلابي دون قرارات جريئة يتنازل فيها الجميع عن ترسبات الماضي والانطباعات المسبقة، حيث تقتضي المصلحة العليا أن تكون الجامعة للطلاب، وأن تكون الفصائل تجسيدات لانتماءاتهم الفكرية والسياسية، دون أن تُرهن مصائر مئات الآلاف من الطلبة بمزاج مكونات متصارعة فيما بينها. إن التحلي بالمرونة الفكرية والقدرة على التنازل عن بعض المواقف التاريخية هو ما يمكن أن يفتح الباب أمام وحدة طلابية حقيقية، تسهم في النهوض بالواقع الجامعي وتعزيز دور الطلبة كقوة فاعلة ومؤثرة في عملية الإصلاح.
اليوم، ينبغي أن يكون شعار الجميع “الطالب أولًا، الجامعة أولًا”. هذا الشعار يتطلب توافقًا بين مختلف الأطراف الطلابية على أولويات نضالية تتجاوز الحزبيات الضيقة، وتُعلي من شأن الجامعة كفضاء للتعلم والبحث والنقاش الحر. إن هذا هو السبيل الوحيد نحو استعادة الحركة الطلابية لدورها التاريخي كقوة فاعلة ومؤثرة في المجتمع، قادرة على التأثير في مسار التغيير الاجتماعي والسياسي. إن التحرك الجماعي المنظم والمتفق عليه بين مختلف المكونات الطلابية يمكن أن يكون نقطة تحول حقيقية في مسار النضال الطلابي، وأن يخلق مناخًا يتيح للطلبة ممارسة حقوقهم والنضال من أجل تحسين أوضاعهم.
في الختام، يجب على الحركة الطلابية أن تدرك أن التحديات التي تواجهها لا يمكن تجاوزها إلا من خلال التكاتف والوحدة، والتخلي عن الممارسات التقليدية التي تعيق التقدم. حيث يجب أن يكون هناك التزام حقيقي من جميع المكونات الطلابية بالعمل المشترك من أجل تحقيق الأهداف الكبرى التي تصب في مصلحة الطلبة والجامعة والمجتمع ككل. إن الحركة الطلابية تمتلك القدرة على إحداث تغيير حقيقي إذا ما تمكنت من استعادة وحدتها، ووضعت نصب أعينها المصلحة العامة فوق أي اعتبارات أخرى.