يرثي ستانيسلاس شايو التقدم الذي حققه النضال الطائفي في الجانب الآخر للمحيط الأطلسي [الولايات المتحدة]. في ترنيمة فلسفية ذات بصمة محافظة، يدين هذه الحركية الراديكالية المقطوعة الجذور والمجرّدة والأخلاقية ويدافع عن اعتدال أكبر في السياسة لأخذ وقت الكافي للأشياء وللأخذ في الاعتبار تعدد الثقافات.
“نحن من الطفولة كما نحن من بلد”.
أنطوان دي سانت إكزوبري[3]
هناك دول تملك جذورا غير مرئية. نفترضها، في منعطف كتاب أو زقاق. هناك أخريات حيث تفرض هذه الجذور نفسها على الإنسان، بوصفها آثارا دائمة من الماضي. ولكن لا يوجد بلد لا يوجد فيه جذر للمجتمعات. الجذور هي واقع. يبتعد الإنسان عنها أو يستولي عليها، لكنه لا يستطيع إنكار وجودها الأول.
يستند الانقسام داخل الالتزام السياسي على الرفض أو احترام الجذور والأصول. الحركية أو السياسية، نسختان من نفس الإرادة للانخراط في حياة المدينة، وممارستين متباعدتين للغاية.
الحركية تؤكد ذاتها في كل مكان وآن. عابرة للأوطان، تعبر الحدود والثقافات. متمنية الكونية، فهي تعتمد على قوانين تعتبر “كونية” بحد ذاتها: القانون الطبيعي، الحقوق الأساسية، حقوق الإنسان، إلخ. في هذا، تترجم الحركية الطموح إلى المثل الأعلى الشامل. إنها ترفض قيود السياسة وتباطؤها المزعوم وإغراءاتها. في مقابل الترسخ المحلي والتعلق الثقافي للسياسة، فإن الحركية تفضل سيولة عالم بلا حدود.
تعبر الحركية عن نفسها على المباشر، مما يجعلها ملزمة بتحقيق الإنجاز أو تلقي الضربات في كل لحظة. وحيث تأخذ السياسة وقتها الكافي، ينفد صبر الحركية. تختلف علاقتهما هنا بالوقت اختلافًا عميقًا: فالسياسة تحتضن الماضي، وتستمد منه الأيديولوجيات والشرعيات، وتجتر الحاضر. بينما الحركية من جانبها، ترفض الماضي، باعتباره قيدًا يعيق التغيير، ويعجل بالحاضر. أما بالنسبة للمستقبل، فهو مجرد مشروع للسياسي، لكنه قيمة أخلاقية بالنسبة للحركية. حينما يأمل أحدهما في غد أفضل، يطالب الآخر بمستقبل مثالي.
بالإضافة إلى الاختلافات في المكان والزمان، هناك تباعد في النهج: السياسة تفكر بشكل مستعرض (transversalement)، إنها متعددة التخصصات وأفقية. أما الحركية فهي تستعير أبعادا عمودية من خلال اختيار قضاياها متخلية عن الرؤية الشاملة. إنها تخوض المعارك بغض النظر عن تقدم الحرب. تحتضن السياسة تعقيد العالم، حيث تسعى الحركية إلى التبسيط. السياسي يحلل، والحركي يبحث عن المثال. باختصار، بين الاعتدال والراديكالية، مواقفهم متناقضة: السياسة براغماتية على خلفية المثل العليا، بينما تكون الحركية راديكالية مشبعة بالأخلاق. السياسة تناضل، عندما تكون الحركية ساخطة: “أقول لك” ضد “أتحداك”.
في قلب الحمى الحركية، يلتقي تعطش المطلق بغياب الجذور. وعند الوصول إلى مفترق الالتزام، سوف يتبع المنبت الجذور ميله الطبيعي: الحركية. ذلك لأن اختيار القضايا يذوب في اتصال مع الفراغ الداخلي للأفراد.
من أجل اختيار السياسة، وقبول العمل الذي تنطوي عليه، هل ما زال يتعين على المرء أن يفهم خصوصية الثقافة، والإحساس بخصوصياتها، وربما حتى محبة هذه الثقافة؟ لأن السياسة هي مهنة: أمام تحديات المدينة، السياسة تبني الحلول. الصبر أمام التعقيد: هذه هي دائرة اختصاصها. الحركي، المنفصل عن الواقع، لا يرى هذا التعقيد. بتجاهله خصوصيات الثقافات، فإن الشك السياسي لا يزعجه. وبالتالي، فإن الاختصارات والتبسيط والحكم الشامل تحمل معها الروابط غير المحسوسة التي أرادت السياسة أن تنسجها مع المجتمع. الحركية بطابعها التجريدي والمتجرأ، تسطح الفروق الدقيقة وتربط الثقافات بنفس حبل الكونية.
غالبًا ما يُنظر إلى الحركية كجزء من المشهد السياسي. ومع ذلك، فهي غريبة على ما يشكل جوهر السياسة. فمن خلال رفضها الحاجة للتجذر والالتزام الثقافي، فإنها تفتح بعدًا جديدًا: الإحسان الكوني. وهذا الإحسان ليس له حدود مكانية، وله علاقة أخلاقية بالتاريخ، ويفضل القضايا على النهوض بالمجتمع ككل. رغم أن فهم أهمية جذورنا، وفهم أنها تؤسس الفرد، سيؤدي إلى إعادة إعطاء معنى لحياتنا. والأهم من ذلك كله هو منح الأشخاص المنبتين عن جذورهم من جيلنا قاعدة صحية لتجديد التزامهم السياسي، بل وأكثر من ذلك، لتجديد حياتهم الداخلية. ونختم مع أرسطو:
“وبما أن السياسة تستخدم العلوم العملية الأخرى، وإلى جانب ذلك تشرع بشأن ما يجب القيام به وما يجب الامتناع عنه، فإن غايات هذا العلم ستشمل غايات العلوم الأخرى؛ وهذا سيترتب عليه، أن غاية السياسة ستكون خير الإنسان. حتى لو كان هناك، في الواقع، تماثل بين مصلحة الفرد ومصلحة المدينة، على أي حال، فمن الواضح أن المهمة الأكثر أهمية والأكثر اكتمالا هي تحصيل خير المدينة وحمايته: من المؤكد أن الخير محبوب حتى بالنسبة للفرد المنعزل، ولكنه أكثر جمالا وأكثر قدسية متى كان ينطبق على أمة بإسرها ومتى كان ينطبق على مدن بتمامها. تلك هي أهداف بحثنا، وهي شكل من أشكال السياسة “[4].
[1] Stanislas Chaillou. L’activisme tue la politique. https://iphilo.fr/2019/07/10/activisme-tue-la-politique-stanislas-chaillou/
[2] ستانيسلاس شايو (Stanislas Chaillou) خريج جامعة هارفارد (2019) والمدرسة المتعددة التقنيات (Polytechnique) الفيدرالية في لوزان (2014)، مهندس معماري وعالم بيانات في بوسطن بالولايات المتحدة. يقود أبحاثا في تقاطع بين الهندسة المعمارية والذكاء الاصطناعي، وهو أيضًا مدير مركز التفكير CitiX.
[3] Antoine de Saint-Exupéry, Terre des Hommes, 1939.
[4] Aristote, Ethique à Nicomaque.