اخترنا موضوع الاختيار الديموقراطي لأننا لا زلنا نعيش سياقا مجتمعيا أقل ما يمكن أن يلاحظه المتابع أنه ليس بمكن أحد في أقطارنا العربية، خاصة بعد “التحولات” التي حدثت طوال العقود الأخيرة من القرنين العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين ادعاء الامتلاك الفرداني للحلول التي يستوجبها الواقع الراهن. لذا إن الحاجة ماسة للتنبيه إلى ضرورة ترسيخ الحل النقدي في كل اختياراتنا، بما فيها اختياراتنا للديمقراطية. لا نراعي فيها فحسب ما يمكن أن تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج، على الرغم من أهمية وضرورة مراعاة هذه النتائج، وإنما نراعي في اختيارنا لوازم ومستلزمات الفكر المقاصدي والفكر النقدي التي تدقق في أسباب الفشل والارتداد، والتي تجعل من الاحتكام للعقل وللحوار وللشمول أسسا ينبغي أن يقوم عليها نظامنا الديموقراطي.
ليس من غرضنا في هذا المقال تتبع الحقب التي مر منها كفاح المغاربة من أجل الديمقراطية؛ لأن ذلك أمر بينه الأستاذ علال الفاسي في كتابه ” الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها”[1]. إن غرضنا هو أن نبين أمرين: أن نوضح أولا كيف ارتبط الاختيار الديموقراطي عند علال الفاسي بمقصد الحرية في الإسلام، وثانيا أن نبرز كيف يقتضي هذا الاختيار النظر النقدي أو ما كان يسميه ب “النقد الذاتي”.
1-مقصد الحرية
ولتكن البداية مع مقصد الحرية؛ لأن علال الفاسي من صنف الذين كتبوا في مقاصد الشريعة من زاوية أنها عمل علمي ودرس تطبيقي يبرهن صاحبه على نجاعته وعلى جدواه من خلال الممارسة الاجتهادية. ولهذا يستمد فكر علال الفاسي أهميته من النظرة المقاصدية العميقة للحقوق الإنسانية عامة، ومنها حق الحرية. والحق أن الأستاذ العلامة الفاسي كان من المبرزين الرواد في تأصيل ذلك من الناحية الاعتقادية والعملية.
فمن الناحية الاعتقادية جعلت عقيدة التوحيد في الإسلام العبادة والعبودية لله وحده دون سواه، والاقتصار على عبادة الله والتوجه بالعبودية إليه وحده دون سواه وسيلة عملية للتحر ولمقاومة كل طغيان[2]. ويلزم عن العبودية في مجال الألوهية أن يكون للأحكام الشرعية ومقاصدها وحدها الحكم والأمر. لقد نص القرآن الكريم على عدم الانفكاك الوارد في قوله تعالى: “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة”\ سورة البينة، الآيات: 1_3 \. والعجيب أن المفسرين قاطبة لم يدركوا مقصد في هذه الآية، لأنهم لم يهتدوا للمراد بالانفكاك فيها، مع أن أقرب دلالاته اللغوية هي التحرير. فلم يكن الكفار منفكين، “أي متحررين من عبادتهم لغير الله إلا بعد أن جاءتهم الحجة القاطعة التي ليست غير رسول يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة، تخاطب العقل، وتدعو إلى التفكير، وتنادي بالحرية”[3].
وعلى كل حال إن من أهم ما في هذا التأصيل الاعتقادي للحقوق، بما فيها حق وواجب الحرية بأنواعها أنه يفتح الطريق لولوج أبواب الحرية والتحرر ويقطع كل طريق لممارسة التحكم والاستعباد. كما أن أقوى ما في هذا التأصيل الاعتقادي أنه يدفع إلى التفكير العملي في بناء أجهزة ومؤسسات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية تحول دون أن يتخذ الناس على اختلاف مواقعهم ومسؤولياتهم بعضهم أربابا من دون الله. بكلام آخر إن هذا التأصيل بقدر ما يمكن للتوحيد في المجال الإلهي يكرس أيضا حرية الناس في المجالات البشرية، خاصة مجال الاختيار الحر في أبواب السلطة والحكم.
لقد كان علال الفاسي رحمه الله من الناحية العملية من رواد الفقهاء والمفكرين المحدثين الذين هدموا كل أصل تصوري أو نظري يعتبر الدين “أفيونا للشعوب” أو وسيلة لتكريس الاستعباد والتبعية. بين رحمه الله كيف عاكس الإسلام هذا التصور لأن الإنسان عندما يقصر عبادته على الله وحده يتحرر تبعا لذلك من كل القيود والأوضاع التي تكبل تحرر الإنسان.
انطلاقا من هذا التأصيل قرأ الفاسي الكثير من مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قراءة نقدية ومقاصدية. فعلى سبيل المثال لئن سلم بحرية الإيمان التي نصت عليها المادة 18 فإنه سرعان ما رفض ما تتضمنه من حرية تغيير ديانة الفرد. تعليل ذلك أن هذه المسألة لا تدخل بحسبه في باب الحرية، وإنما تدخل في باب الخيانة للجماعة المسلمة. وهي على كل حال، وفي ضوء إكراهات الواقع المعاصر وضغوطه الخارجية مسألة دقيقة. ولئن تطابق كلامه حول أنواع الحرية مع المواد الثانية عشرة والثالثة عشر والتاسعة عشر والعشرين والإحدى والعشرين التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإنه سرعان ما نبه إلى بطلان زواج المسلمة بغير المسلم. فليس هذا الزواج ” إلا تخاذنا، أي زنا صريحا. لا يعد زواجا بحال لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا”[4].
إن المفهوم من هذا التأصيل للحرية أن يعد الإنسان نفسه ” لمبدأ صحيح وعقيدة ثابتة ويعمل لها، ويرعاها في سلوكه وأعماله وتفكيره بما تشتمل عليه من تفاصيل وما يحيط بها من جوانب[5] . كما يتبين من هذا المفهوم للحرية، ذلك الاعتبار الذي يرجعها إلى مصدر روحي غير قابل للتقييد؛ لأن التحرير هو عصب وجود الإسلام، والشخصية المغربية تواقة إلى الاستقلال في كل شيء. كما يتبين من هذا المفهوم أن الاعتبار الذي يؤسسه يقتضي مسؤولية مجتمعية في الاشتغال الفكري والسلوك العملي هي مسؤولية تنزيل المقصد الإسلامي والمتمثل في عمارة الأرض وإصلاحها بوسائل الإنسان الإرادية والفكرية والعملية.
الأصل الروحي للحرية، مسؤولية الإنسان في التنزيل المجتمعي لذلك الأصل، أمران يكشفان طبيعة الاعتبار النظري الذي يؤسس الموقف الفلسفي للحرية عند علال الفاسي، إنه اعتبار مقاصدي يتجه بإمكانية الحرية وجهة مستقبلية، لأن الإنسان يطمح في سعيه الحياتي إلى التخلق بخلق الحرية المطلقة[6] .
يؤسس الاعتبار المقاصدي سلم تقويم الأفعال الإنسانية، فعلى قدر نهلها من مصدره الروحي تنأى عن التقييد، وعلى قدر ابتعادها تقترب من التقييد. ففي حال ابتعادها عن المصدر الروحي تكون أفعالا غريزية في التصرفات المجتمعية التي لاتنأى عن التنازع والتغالب والتهارج، لذا تعين تقييدها عن طريق التشريع المحافظ على المصلح العامة.
لا يمكن للحرية الغريزية أن تكون مطلقة في الحياة المجتمعية بما تتطلبه من التزامات وعقود وعهود ونحوها، فعلى سبيل المثال لم يبح للمحتاج أن يسرق ولا للشخص أن يتناسل بغير الزواج الشرعي. أما في حال ارتباطها بالمصدر الروحي تكون أفعالا فطرية، ولكنها، كما يقول علال الفاسي: ” فطرية باعتبار الواقع، ولا أقول الطبيعة الفطرية، لأن الفطرة هي الإنسانية المسلمة أو الإسلام الإنساني” [7]
إن التطور المجتمعي يجب، لكي يكون خلاقا ومبدعا، أن يمتاح من الاعتبار المقاصدي الذي يتجه بالفعل الإنساني وجهة الحرية التي ينشدها الإنسان في المستقبل. وتلك مهمة من المهام التي تضطلع بها النخبة في المجتمع فكان إبداعها العقلي في هذا الباب غير قابل للتقييد، أو قل كانت حريتها الفكرية في ذلك الاضطلاع حقا عقليا مرسلا لا حقا غريزيا مقيدا.
ويبدو أن نقطة انطلاق البعد المجتمعي في الاعتبار المقاصدي لهذه الحرية الفكرية، متجسدة في صعوبة النظر إليها في استقلال عن الممارسة في القول والتصرف، خاصة في الوقت الحاضر التي تبدأ فيه هذه الحريةُ من الأفراد وباتجاه الأفراد وتنتهي بكافة مجالات الخدمات العامة والمصالح التي تديرها الدولة (…) وهي ليست قاصرة على فئة معينة بطبيعة الحال(…) لذلك فإن أهمية هذه الحرية تتضاعف لاتصالها الوثيق بكل ما يمس الأفراد والسلطات على تعددها في الدولة”[8].
وعلى كل، لا يستمد مقصد الحرية من الغريزة أو من النزعات الشهوانية بل يستمد من القدرة على التصرف في الأحوال تصرفا مقيدا بمقاصد الشريعة. هذا هو الجعل الشرعي للحرية عند علال الفاسي، والذي يجعل منها خلقا روحيا لا غريزة طبيعية. قبل التكليف وقبل الاقتناع المرء بين ثلاثة اختيارات: إما الفراغ، وإما عبودية التقاليد، وإما التكليف. يصبح الإنسان من خلال التكليف الشرعي “حرا لأنه مسؤول، ويصبح مسؤولا لأنه يصبح حرا”.[9] ويظهر من هذا التكليف الشرعي التفات إلى الاستعمال اللغوي لكلمة الحرية في اللغة العربية، والذي ينتظم في معنى السلامة من عيوب كان العرب يعتبرونها من صفات العبيد مثل صفات الذل والخساسة والكسل. قال شاعرهم:
إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما *** أو أسود اللون إني أبيض الخلق
لا تقبل الحرية بهذا المعنى الروحي التفويت؛ لأنها حق عقلي مرسل لا حق طبيعي مقيد قابل للتفويت. قال علال الفاسي: ” الإنسان الحر هو غير الزائف، أي الذي تتصور فيه الفطرة الإنسانية متغلبة على الطبيعة الحيوانية”.[10] لو كانت الحرية مجرد غريزة لما استطاع أحد تفويتها، وإنما هي “خلق”، ومن ثم نفهم المغزى من عدم قبول الإسلام عبودية الإنسان للغير وجعلها لله وحده دون سواه. هذه الحرية الإسلامية، هي التي جعلت العبيدَ أحرارا في الوقت الذي كانت أجسامهم ما تزال تحت سيطرة السادة يعبثون بها و يعذبونها كيف شاءت أهواؤهم و عنجهيتهم الجاهلية[11] .
2 -المقتضى النقدي للاختيار الديموقراطي
للأستاذ علال الفاسي كتاب مشهور موسوم ب “النقد الذاتي”، وهو أنموذج متميز من الكتب التي تدعو إلى استئناف النظر النقدي. إن هذا الكتاب في نظرنا بمثابة العمل العلمي الذي يتصف بالغنى والبنائية. فهو عمل علمي غني لأنه صادر عن عالم خبرَ ميدانَ العمل واحتك بتقلبات الواقع طيلة خمس وعشرين سنة. وهو كتاب مبني بإحكام؛ لأنه يكتنز من التحليل القائم على المقارنة والتجربة بقدر ما يتضمن التركيب الذي يدل على الشمولية في النظر والتدقيق في الفكر[12]. لقد امتلك الأستاذ علال الفاسي جرأة النقد في وقت كان هذا المفهوم عند الكثير من الحركات السياسية والفكرية في العالم العربي مرادفا للتشهير أو للتجريح. وقد استمرت هذه النظرة القاصرة للنقد حتى بعد صدور كتاب النقد الذاتي[13].
لا تخفى أهمية و صعوبة ممارسة النقد في بلداننا، و دلائل ذلك كثيرة و تكاد تعز عن الحصر، لننظر على سبيل المثال كيف تروض نماذج من الجمعيات و كثير من الأحزاب أعضاءها على طاعة القيادات، و ليس على محاسبتها و انتقادها، إذ تحملهم على التزام التعليمات و لا تدربهم على المحاسبة و إصدار التقويمات[14].و الحق أننا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين أشد احتياجا إلى التلقي النقدي الذي نتعلم من خلاله ليس فحسب كيف نصخب و نرفع أصواتنا بالاحتجاجات التي تنادي باحترام الاختيار الديموقراطي، و ترفع شعاراته البراقة، و إنما أيضا كيف نفكر في مفاهيمه، وكيف نتحاور في تنزيل مقتضياتها، وكيف نستمع إلى غيرنا بنوع من الفهم، و كيف ننصت إلي مخالفينا في الفكر و خصومنا في العمل بمقادير معتبرة من التفهم و التريث و التثبت. ومن ثم إن القراءة النقدية للتراث الفكري للأستاذ علال الفاسي في هذا المضمار مفيدة ونافعة بالنسبة للحاضر وقد تنير بعض مسالكه ودروبه.
إن الخطوة الأساسية في الاختيار الديموقراطي متمثلة في تحرر النخبة المفكرة في المجتمع المغربي من كل سلطة حسية أو معنوية لذوي المال أو ذوي الجاه وكل المنافع الموقوتة[15]. وإن تحررها متوقف على قبولها بحق الاختلاف في النقد؛ لأنه قد نجد صعوبة لقبول الانتقاد من الآخرين، ولكن يجب أن نتعود على ذلك، بل ويجب أن لا يصدمنا فيعوقنا عن الاستمرار في التفكير. وفي هذا السياق لا يسع المرء إلا أن يتساءل فيطرح السؤالين الآتيين:
يتمثل الأول في سؤالنا الآتي: هل تقبل حياتنا المجتمعية السماح بالتفكير الحر في كل القضايا على تنوع مجالاتها وتراتب درجاتها؟ الحق أن تاريخ تلك الحياة يفيدنا أنها تستلزم دائما وضع قيود لا يمكن للتفكير الحر أن يتخطاها، من تلك القيود عقائد المجتمع، ومن ذلك فكرته عن النظام العام، ومن ذلك تصوره عن الآداب العامة. و عليه لا بد من نخبة واعية لرسالتها، قادرة على تحمل مسؤوليات توجيه أمتها لأننا لئن سلمنا مع علال الفاسي بأن ” الدمقراطية حسنة في كل شيء، إلا أن الأرستقراطية الفكرية شيء ضروري لتوجيه الأمة”[16] .
ويتمثل سؤالنا الثاني: هل يعني التبصر بالقيود التنظيمية السائدة في المجتمع العدول عن ضرورة حرية التفكير؟ ليس الأمر كذلك بالنسبة لعلال الفاسي، لأنه” إذا كانت الحرية ستحرقنا فلتفعل، فإنها على كل حال خير من الضغط، ومن التغذي بأفكار تنظمها عبادة القوة أو عبادة المال”[17].
يبدو من هذا القرار العملي ما يقتضيه أيضا من اختيار ديموقراطي يقترن به ويلحقه ويقارنه فكر نقدي يمكن أن يواجه به المرء رسوخ الممارسات الاستبدادية في مجتمعانا “الفقيرة” و “الأمية” وتضارب مصالح الانتهازيين والوصوليين في بنياتها. وذلك في نظري من أهم ما يمكن أن نفيده في لحظتنا الراهنة من كتاب النقد الذاتي للأستاذ علال الفاسي. إن أهم ما في فصول النقد الذاتي[18]، امتلاك صاحبه أنظارا في الديموقراطية لا زالت تكتنز حضورا قويا واستمرارية لها دلالات واضحة في واقعنا الراهن[19]. وإن احتياجنا المستأنف لها ليدعونا إلى استخراج هذه الأنظار التي لا تحتاج إلى كثير من التعليق؛ لأن صاحبها كأنه لا زال حيا يرزق بيننا نحن أبناء العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين. ومن أهم هذه الأفكار الفكرة التي يقر صاحبها بضرورة اعتماد الفكر النقدي في اختيارنا الديموقراطي.
قد يقال إن الديموقراطية حجرة أساسية في البناء المجتمعي، ولكنها حجرة منطوية على حفر عمقها الجمود الفكري المسيطر على أنظار الغالبية من أفراد مجتمعنا. نعم كلها إكراهات ولكن على الرغم من موضوعيتها فإنها لم تمنع الفاسي من التنكر للأساليب الديمقراطية في معالجتها. لقد بقي الرجل متشبثا بالديموقراطية، ليس فحسب كمعطيات هيكلية أو بنيات مؤسسية[20]، بل كاختيارات منهجية في الثقافة المجتمعية للحكام والمحكومين. قال الأستاذ علال الفاسي: ” ليس هناك نظام كامل بكل معاني الكلمة ما دام ليس هناك بشر منزهون عن الغرض والعبثية والانتفاعية، ولكن الأسلوب الديمقراطي خير وسيلة ممكنة للتعبير عن الفكر العام واستكناه رغبات الشعب الحقيقية” [21].
لا يمكن “لعيوب” الديمقراطية من أن تكون قدرا أبديا، لأنه يمكن تجنبها عن طريق اعتبار بعض الأصول[22] التي لا يمكن بدونها قيام حياة مجتمعية مستقرة ، فحن في المغرب يعتبر الملك في نظامنا الديمقراطي و كما قال: “شخصية فوق الأحزاب والاعتبارات السياسية”، وبذلك يمكن أن نتجنب الفوضى والاضطرابات المختلفة”. بل يمكن القول مع أحد الباحثين: إننا نلاحظ عند تتبع لتطور المجتمعات يلاحظ أنها تتطور، وباستمرار في صياغة الأسس التي تقوم عليها (…) كلما بلغ المجتمع درجة من التطور الفكري وكلما سادت العلاقات بين أفراده ومؤسساته خصائص التماسك والتوازن، كان هذا المجتمع أقدر من غيره على الانفتاح على كل حوار يمس نظامه وسيرورته[23].
معنى هذا أن القرار الديمقراطي الذي ينبغي أن تفهمه نخبنا المفكرة ليس فحسب بنيات مؤسسية تتعدد خلفيات مستثمريها، بل هو أيضا اختيار منهجي. وبين البنيات والاختيار علاقة جدلية محورها مصالح المجتمع و سيطرة العقل. قال علال الفاسي: ً إذا كانت الديمقراطية هي سيطرة العقل، فمن الواجب أن نتجه في اعتبارنا كله لرفع مستوى العقل والإعلاء من شأنه، لأنه وحده الذي يحمينا من أخطائنا ويعقلنا عن شهواتنا [24]. ولهذا لا يتفق الفاسي مع من حرم العوام من الناس من اختيار مسؤوليهم في الحكم[25]؛ لأن العبرة هنا ليست راجعة إلى الشهادات العلمية والإمكانات المالية، وإنما هي راجعة إلى سلامة أذواق الناس وأخلاقياتهم.
يمكن أن تتعرض مؤسسات الديموقراطية كالمجالس النيابية لعيوب تمس طريقة انتخابها واختيارها، بسبب رسوخ كثير من الممارسات الفاسدة، أو بسبب تجذر الذهنية الاستبدادية أو بسبب تضارب مصالح الانتهازيين والوصوليين، خاصة في مجتمعاتنا “الفقيرة” و”الأمية”. نعم يمكن أن تسود هذه العيوب، ولكن على الرغم من كل ذلك بقي صاحبنا متشبثا بالفكرة الديمقراطية، ليس فحسب كهيكل مؤسسي، وإنما كترجيح مقاصدي أو و تقدير مصلحي. قال الأستاذ علال الفاسي: “ليس هناك نظام كامل بكل معاني الكلمة ما دام ليس هناك بشر منـزهون عن الغرض والعبثية والانتفاعية، ولكن الأسلوب الديمقراطي خير وسيلة ممكنة للتعبير عن الفكر العام واستكناه رغبات الشعب الحقيقية” [26].
لقد ظل النقد الذاتي مقارنا للاختيار الديمقراطي عند علال الفاسي، بيان ذلك أنه سبق له أن قرر في أن الدستور في النظام الديمقراطي المأمول هو من وضع هيئة أو جمعية تأسيسية منتخبة من الشعب[27]. ذلك ما سبق له أن بينه في الخمسينات من القرن العشرين، لكن وعيه بتغاير الأحداث وبتعاقب المستجدات الطارئة على مغرب ما بعد الاستقلال جعله كل ذلك يعيد النظر في أفكاره؛ لأن الحالة المغربية وقتئذ لم تكن تسمح للمغرب بالأخذ بهذا الرأي، وهو ما سبق له أن أوضحه في قوله: ” إنني سبق أن أعربت عن تفضيل وضع الدستور من طرف مجلس تأسيسي منتخب في كتابي ” النقد الذاتي”، فإن الحالة التي كان عليها بالمغرب لم تكن تسمح بالاختيار لمن يريد قبل كل شيء الخروج بالبلاد من حالة الحكم المطلق إلى حالة الحكم الدستوري”[28].
والحاصل أننا إزاء اختيار ديموقراطي أخذ به هذا الفقيه والمفكر والزعيم الوطني، ولم يكن هذا الاختيار من الاختيارات الزائفة التي تكتفي برفع الديموقراطية باعتبارها شعارا براقا للأبصار ومدغدغا للعواطف والأماني والأحلام، وإنما كان اختيارا مكلفا من الناحيتين النظرية والعملية. يبدو ذلك في ضرورة انبنائه على النظرة المقاصدية التي يزاوج صاحبها بين الحرية باعتبارها حقا وبين كونها واجبا، كما يبدو ذلك أيضا في ضرورة انبنائه على الممارسة النقدية التي تتطلب أمرين مفصليين:
أولهما تأصيل اختيارنا الديموقراطي على أصول نحتفظ دائما بحق وبواجب إعادة بنائها وتشكيلها كلما تطور مجتمعنا، وكلما بلغ مستويات من التقدم في المعارف وفي القيم، ومن التغير في أنماط الوجود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي.
والثاني مزيد من الأخذ بمقادير التحرر العلمي والعملي الذي يجعل نخبتنا وقادة مجتمعنا متحررين من كل سلطة حسية أو معنوية لذوي الجاه أو المال أو المنافع الموقوتة… وهما أمران يقتضيان جهدا علميا وأخلاقيا يحمل نخبتنا وقادة الرأي والسياسة والحكم على مزيد من التضحية، بل ومزيد أيضا من الحرمان من متعة العيش وملذات الحياة، أو قل التخفف من الترف ونزعات الاستهلاك المفرط، وما أكثرها في زماننا.
المراجع المعتمدة :
- عدي زيد الكيلاني، مفاهيم الحق والحرية في الإسلام والفقه الوضعي، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 1990 م.
- علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، تحقيق ودراسة الدكتور إسماعيل الحسني، القاهرة، دار السلام، الطبعة الأولى، 2011م.
- علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، البيضاء، مكتبة الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1963م.
- علال الفاسي، النقد الذاتي. تطوان، دار الفكر المغربي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
- علال الفاسي، الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها الرباط، مطبعة الرسالة، الطبعة الثانية.
- محمد وقيدي، بعض اشكالات حرية التفكير، الرباط، المغرب، حرية العلم، 22 / 8 / 1993.
[1] بعد أن تتبع علال الفاسي الكفاح المغربي الحديث من أجلها استخلص أن الشعب في بلاده اختار الديموقراطية، وفي ذلك قال رحمه: ” الشعب عرف وآمن بأنه لا يمكن تغير الأوضاع في البلاد والخروج من الظلمات إلى النور إلا عن طريق إقرار نظام ديمقراطي دستوري يكون أساسا لإصلاح شامل لكل الميادين” علال الفاسي، الديمقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها، الرباط، مطبعة الرسالة، الطبعة الثانية، 1999م، ص 72
[2] . وبذلك كان الإنسان حرا في اعتقاده قبل الدخول إلى الإسلام. أما بعد الدخول إليه فقد بقي الفاسي متمسكا بتقديرات جمهور الفقهاء في مسألة الارتداد عن الدين الإسلامي بعد اعتناقه والاندماج في مجتمعاته.
[3] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، تحقيق ودراسة الدكتور إسماعيل الحسني، القاهرة، دار السلام، الطبعة الأولى، 2011م، ص:354.
[4] علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، البيضاء، مكتبة الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1963م، ص: 77.
[5] النقد الذاتي، ص: 51. يلاحظ علال الفاسي أنه من ” الخير الا نحدد الحرية من الناحية المنطقية، لأن الحد المنطقي يحمي الحرية في السور المنطقي، وهذا التسوير يجعلها تقف دون معطياتها الحقيقة ودون حدودها الطبيعية ” الحرية ص: 7.
[6] الحرية لعلال الفاسي، ص: 4 ويبدو لمؤرخ فكرة الحرية مماثلة هذا الاعتبار المقاصدي لخلاصة من الخلاصات التي انتهى إلى بنائها الدرس النقدي لنظرية الحرية في الفكر الأوربي الحديث، فلا تتحقق الحرية بحسب أبرز رواده في الآن، بل ترجأ إلى المآل قرر ذلك هيجل عندما تتوافق أهداف كل من الفرد وعقلانية الدولة ومصير التاريخ كما قرر ذلك ماركس عندما يختفي المجتمع المبني على الملكية وعندما يستوعب الإنسان العلوم الموضوعية. ينظر للتوسع عبد الله العروي، مفهوم الحرية، ص: 63 -69
[7] الحرية لعلال الفاسي، ص: 5.
[8] عدي زيد الكيلاني، مفاهيم الحق والحرية في الإسلام والفقه الوضعي، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 1990 م، ص: 186.
[9]مقاصد الشريعة لعلال الفاسي، ص: 354.
[10] المرجع نفسه مقاصد الشريعة لعلال الفاسي، ص:353.
[11] علال الفاسي، مقاصد الشريعة ص: 247. ختم علال الفاسي كلامه في الحرية بتفصيله القول في أنواعها. فمن الحرية ما هو ديني يمليها اختيار الإنسان في الإيمان وفي إظهار شعائره وعباداته بدون إكراه مادي أو معنوي، ومنها ما هو فردي ينتفي فيه الإكراه على عمل لا يرضاه الإنسان إلا إذا كان عملا وطنيا مفروضا على الجميع، ومنها ما هو سياسي يروم حق التعبير عن الرأي في دائرة الحفاظ على مقاصد الشريعة والثوابت الوطنية للمجتمع، ومنها ما هو علمي يهم البحث والنظر والتدبر، ومنها ما هو عملي يحمي حق العمل ويبطل الاستغلال. المرجع نفسه، ص 355 وما بعدها
[12] ولعل هذا ما حاول بيانه الأستاذ الفاسي في قوله:” ولقد بذلت فيه، علم الله، جهد المخلص الذي يريد البناء ويسعى في التجديد، ويعز عليه أن يترك الحيرة تعبث بعقل شباب الأمة وقلبه، وقرأت لكل فصل منه، قبل أن أكتبه، عشرات المؤلفات العربية والمعربة والفرنسية والمنقولة للغة الفرنسية من لغات أوربا الشرقية والغربية وأمريكا وأسيا. ودرست وجهات النظر المتباينة، وقارنت بينها بقدر الاستطاعة، ثم عرضتها على تجاربي في الكفاح وتقلباتي بين الكادحين في أقطار عديدة طيلة خمسة وعشرين عاما، وحاولت أن أستخلص من كل ذلك التوجيهات التي أضعها بين إخواني لينظروا فيها ويستفيدوا منها”. النقد الذاتي، ص: أول صفحة من تصدير الكتاب ” النقد الذاتي. يستحضر المتتبع هنا ارتحال علال إلى القاهرة في بداية سنة 1947، ليتخذها مقرا لتنقلاته العديدة إلى أوربا وأمريكا وبلدان المشرق العربي.
[13] ولهذا لا نستغرب إذا حظرت بعض التنظيمات الإسلامية على أنصارها قراءة الكتب التي تحث على النقد وما في معناه من مساءلة، ومن محاسبة، ومن تحقيق، ومن إنضاج للوعي، ومن تطوير للإدراك، ومن تطهير للسلوك، ومن ترشيد للعمل أيا كان مجاله وأيا كان مستواه. نتفهم، انطلاقا من هيمنة هذه الذهنية القاصرة المغزى من اعتبار البعض التأليف في الميدان النقدي ميزة من الميزات التي يحق للباحث الافتخار بها وادعاء الفرادة من خلالها. في هذا المضمار قال الأستاذ عبد الله النفيسي: «والميزة في هذا الكتاب أن الإسلاميين يقومون بنقد ذاتي للحركة الإسلامية، وهذا ما يعطيه فرادة تاريخية وقيمة فكرية وأهمية موضوعية” يقصد بذلك كتابه الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية أوراق في النقد الذات، الكويت، آفاق النشر، الطبعة الأولى، 1433ه، 2012م، ص 11.
[14] قال الأستاذ محمد عمارة: ” إن الخلل في علاقة “الطاعة” ب «الحرية” على النحو الذي لا ينمي في الأعضاء ملكات النقد والفحص وشجاعة الاعتراض”. النفيسي، الحركات الإسلامية ص 347.
[15] النقد الذاتي، المرجع نفسه، ص: 72، يعترف علال بصعوبة هذا المظهر العملي في الوسط المغربي، لأنه قائم في معظم مكوناته على الانتفاعية والانتهازية وكل من يرفض الاستناد لأيهما يحرم من متعة العيش وملذات الحياة.
[16] علال الفاسي، النقد الذاتي. تطوان، دار الفكر المغربي، الطبعة الثانية، بدون تاريخ، ص 31
[17] المرجع نفسه، ص: 175
[18] خاصة الفصول الستة الأخيرة التي يتضمنها الباب الثاني الموسوم ب «التفكير بالمثال”
[19] ولهذا نتفهم ما ذهب إليه الأستاذ محمد السياسي في قوله: ” إن البرنامج السياسي” الذي سطره الكتاب لا زال يحتفظ براهنيته محمد الساسي” النقد الذاتي، جريدة المساء، 06 يونية 2014م.
[20] كالدستور والمجالس النيابية والانتخابات الدورية
[21] النقد الذاتي، ص :67.
[22] كعدم اعتبار حكم الأغلبية في تضييع استقلال البلاد … النقد الذاتي، ص :67.
[23] محمد وقيدي، بعض اشكالات حرية التفكير، الرباط، المغرب، حرية العلم، 22 / 8 / 1993، ص: 12
[24] النقد الذاتي، ص :67. من الأهداف الأساسية في سيطرة العقل تغيير الذهنيات بما تستلزمه من ” إحلال الحزب والنقابة والجمعية والمسجد محل المنظمات العرفية ” المرجع نفسه، ص :425. وذلك ما عبر عنه أحد الباحثين بقوله: ” إحلال الولاء للفكرة وللاختيار الأيديولوجي محل الولاء للشخص ” محمد عابد الجابري، وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، البيضاء المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، ص: 135.
[25] قال الفاسي: ” فنحن غير متفقين أبدا مع “رينان” في تخير نخبة من المسيرين الحكماء للمدينة على طريقة جمهورية أفلاطون، لأن عدم المساواة العقلية لا تحرم المواطنين من الواقع المحسوس وهو أن عامي التفكير أعضاء أيضا في الجماعة ولبنة في البناء العام لكيان الأمة، كما أنهم قادرون على اختيار من ينوب عنهم قدرتهم على التعبير عن آرائهم في الشؤون المعروضة عليهم.” النقد الذاتي ص 112.
[26] النقد الذاتي، ص :66.
[27] قرر الفاسي هذا في النقد الذاتي ص 161. لكنه اعترف عام 1962م بأنه عاكس هذا الاختيار بسبب تقديرات مصلحية وقتية. أهمها أن يكون دستور ينقل السلطة من الحكم المطلق إلى الحكم الدستوري خير من عدم وجود دستور. ينظر علال الفاسي، الديموقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها، الرباط، مطبعة الرسالة، الطبعة الثانية، 1999م، ص 71
[28] علال الفاسي، الديموقراطية وكفاح الشعب المغربي من أجلها ص 71