في عام 1755م أشار الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو -في سياق بروز المخاوف بشأن تضخم أعداد الكتب بعد توسّع تقنيات الطبع والنشر- إلى أن «عدد الكتب سيزداد باستمرار، ويمكن للمرء التنبؤ بأنه سيأتي وقت سيكون فيه من الصعب تعلّم أي شيء تقريبًا من الكتب!»، ولكنه بالتأكيد لم يكن يتخيّل حجم المعرفة التي قُدّر لها الظهور فيما بعد لا سيما في القرن العشرين وما بعده، ومن ثمّ أصبحت حصة الفرد من البيانات -بفعل تقنيات التواصل وشبكات المعلومات- أضخم من أي وقت مضى؛ ففي المدة ما بين عامي 1986 حتى 2011م تضاعفت المعلومات التي يتلقّاها المرء يوميًا خمسة أضعاف (هذا بالنسبة للأمريكي العادي وغالب ظني أننا الآن نتلقى أكثر من ذلك بسبب توسّع القدرة على الوصول للشبكات الأحدث).
وتشير بعض التقديرات إلى أن الإنسان في زمننا يتعامل يوميًا مع ما قد يصل إلى 34 جيجابايت من المعلومات أو ما يقارب 100000 كلمة (منذ 2008م أضحى الفرد الأمريكي يستهلك أكثر من 11 ساعة من المعلومات يوميًا)، كما يذكر دانيال ليفيتين في كتابه عن أزمة الوفرة المعلوماتية في زماننا، ويكتب: «قبل 300 عام كان الحاصل على شهادة جامعية في “العلوم” يعرف كل ما يعرفه أي خبير في ذلك الوقت، أما اليوم فلا يمكن لشخص حاصل على درجة الدكتوراه في علم الأحياء أن يحيط بكل المعرفة المكتشفة عن الجهاز العصبي للحبّار، فبحسب Google Scholar فإن هناك أكثر من 30,000 مقالة بحثية حول هذا الموضوع!».
وهذا حقّ واقع، ففي الأزمنة الأولى كان العالِم إذا وهبه الله ذكاء مفرطًا وهمّة رفيعة وصبرًا وافرًا أمكنه استيعاب معظم علوم عصره -أو إن شئت كلها- في الشرعيات والنظريات والطبيعيات بحيث لا يفوته منها إلا اليسير، ومن ذلك ما جاء في ترجمة الفخر الرازي (606هـ) رحمه الله أنه كان «علّامة وقته في كل العلوم، وكان كثيرًا ما يذكر الموت ويُؤْثره، ويسأل الله الرحمة، ويقول: إنني حصلّتُ من العلوم ما يمكن تحصيله بحسب الطاقة البشرية، وما بتّ أؤثر إلا لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم»، أما في زماننا فلا يمكن لأحد أن يقال فيه «علّامة وقته في كل العلوم»، بل ولا بعضها إلا مع المبالغة والتزيّد.
وإذا كان الإنسان شابًّا طُلَعَة تتوق نفسه إلى تحصيل العلم، ويتوقد ذهنه لتلقي المعارف، ويشغل وقته بالاستزادة من سائر الفنون، فالغالب أنه يكابد طوفان المعرفة الفيّاض، فأمامه ألوف المحاضرات والشروح الصوتية والمرئية في شتى العلوم، وبين يديه مئات المجلدات التي لا يضنيه البحث عنها، وليس بينه وبينها إلا بضع نقرات، فضلًا عن ألوف المقالات والدراسات، ناهيك عن المرئيات والبودكاست وما شئت وراء ذلك.
فهذه معضلة لا بد من معرفتها عن كثب، فإن لم يشعر بها الإنسان قطّ ولا اعترضت سبيله يومًا فربما كان السبب أن نفسه ألهته بمتابعة الوقائع والأحداث وما يكتبه الناس في المواقع والصفحات الشبكية، وهي الأخرى تفيض وتتفاقم، ولا يمكن الإنسان إن كان ولوعًا بالإحاطة بالماجريات إلا أن يضجر أو يملّ أو يقلق من فيضان الكتابات، وكثرة الإيرادات، وتضارب الآراء وتناقض الأقوال.
وهكذا يجد الراغب بتحصيل العلم وإدراك حال العالَم نفسه تحت وطأة الوفرة المعرفية المفرطة، والتنوع المعلوماتي الفائض، والتتابع الحَدَثي الزائد (هناك حقل بحثي واسع تحت مصطلح “عبء المعلومات information overload” ينقب عن هذه المشكلة وعلاجها)، على نحو يفوق طاقة المرء -مهما عظمت- على الاستيعاب، ويتعسّر معها الانتفاع على الوجه الأصحّ.
وهذه الحال تفضي عند غالب من ترى إما إلى الضجر والملالة كما أشرتُ، كتب زيغومنت باومان (ت 2017م): «إن تسونامي المعلومات والآراء والاقتراحات والتوصيات والمشورات التي تربكنا حتمًا في مساراتنا المتعرجة للحياة ينتج عنها نزوع لا مبالٍ تجاه المعرفة والعمل ونمط الحياة»، وكثير من هؤلاء من أهل الضجر يبدّد وقته في ألوان الملاهي والمباهج النازلة، إما المحرمة أو ما دونها بحسب صلابة دينه وصلاح قلبه، فإن ارتفع الواحد منهم تلهّى بالطرائف والغرائب وفتات المعارف الهامشية.
أو تفضي –لدى من لايزال متمسكًا بغايته في التعلّم وتلقّي المعارف ما أمكنه- إلى خوض وحول التخليط والتداخل والتناقض والالتباس، أو التنقّل المرتبك بين العلوم والتقافز القلق بين الكتب دون طائل، ثم تجد الواحد من هؤلاء على يأس من تحقيق اليقين فيما يتعلّمه أو بعضه أو يكاد، لكثرة الاختلاف وظهور تنازعات الناس في سائر المذاهب فيما يعرض من المسائل والدلائل.
ويكون من نتائج كل ذلك الوقوع في «السِمَن المعلوماتي»، وهو لون حديث من ألوان الجهل، فإن الإتاحة الهائلة للهراء في الشبكات والمواقع المختلفة «تضعف قدرة العوام والمثقفين على البحث، فبالنسبة لمن تربوا في بيئة من التحفيز الالكتروني المستمر يبدو البحث الفعلي مملًا، فالبحث يتطلب القدرة على الوصول إلى: معلومات موثوقة، وتلخيصها، وتحليلها، وكتابتها تفصيليًا، وعرضها على الآخرين»، وإن الفيضان المكتظ من المعلومات المتفاوتة تفاوتًا واسعًا في جودتها ودقتها «يصنع طبقة سطحية من المعرفة تجعل المرء أسوء حالًا عما كان عليه لو لم يعلم أي شيء على الإطلاق!» كما يقول توم نيكولز، ويرى أن تضاعف كمية الأخبار عن العالم أدت إلى تراجع الاهتمام به (الضجر)، وتقلّص حجم الدراية الدقيقة بشأنه (الالتباس والتناقض..الخ).
***
وإن التشابهات بين «سِمَن» الجسد و«سِمَن» العقل أكثر مما قد يبدو لك، فإن السمنة كما يقول بعض أهل الاختصاص «مرض مزّمن تحدده الرواسب الدهنية المفرطة في الجسم التي يمكن أن تضر بالصحة»، وكذلك فإن سِمَن العقل هو عطب يصيب الذهن بسبب الرواسب المفرطة من المعلومات والآراء والأقوال والاعتقادات والاختيارات النظرية ونحو ذلك، وكلا السمنتين ضارّة مفسدة للبدن والنفس، على أن «السِمَن المعلوماتي» أخفى من سمن البدن، فإن كنت لا ترى أطراف قدميك وأنت واقف، أو كنت تعاني من ضيق مقعدك في الطائرة، فالأرجح -لا مؤاخذة- أنك سمين، ولكن معرفة البدانة المعلوماتية قد لا يتبين لك إلا بتأمل وتدبّر خاص، وإن كنتُ أشرت فيما سبق إلى بعض القرائن على ذلك (التخليط والتداخل أو الضجر).
وكما أن علاج السِمَن في الحمية كما يتفق على ذلك الأطباء منذ قرون بعيدة، وما يتبع ذلك من الرياضات الجسدية، فكذلك فإن دواء «السِمَن المعلوماتي» يكون بالحمية المعرفية، كما يكون بالرياضات الذهنية، كما بحث ذلك كلاي جونسون في كتابه عن «الحمية المعلوماتية The Information Diet» وقد استفدت من أفكاره هنا.
وقد رأيت أن أقترح نظامًا للحمية من السمنة المعلوماتية أو لأجل تحقيق «الرشاقة» الذهنية على غرار حمية البدن، ويتضمن جملة من الإرشادات «الصحية»، منها:
1- فحص المدخلات وإصلاحها (نظّف ثلاجتك!): فلا يمكن للبدين أن يشرع في «الحمية» وغرفة طعامه مليئة بالأطعمة المكتنزة بالسعرات والسكريات والدهون، فلذا ينصح أولًا بتنقية ثلاجته من المضرات، ومن القواعد المقررة -كما تعرف- أن «التخْلية قبل التحْلية»، فأول ما يلزم الشاب أن يعيد النظر في المصادر التي يطالعها والموارد التي يديم متابعتها، فيطهّر نظره من كثير من مصانع الكلام وخطوط إنتاج الهراء الرقمي (في مطلع يوليو عام 2023م قررت منصة x “تويتر سابقا” أن تجعل حدًّا لعدد المشاهدات المسموح بها لغير الحسابات الموثقة “600 تغريدة في اليوم”، وقد تفاجأ البعض أنهم بالفعل يطالعون هذا العدد من التغريدات كل يوم، بل أكثر من ذلك!)، وأنت تعلم أن الإسراف في الطيبات من المطاعم والمشارب يصعّب الهضم ويفسد الجسد، والإسراف في استهلاك المعلومات كذلك يصعّب الهضم ويشوش الذهن، فما بالك إذا كان الإسراف في استهلاك الأفكار الضعيفة أو الأخبار المكروهة أو الماجريات المسترذلة؟ لابد أن تكون العاقبة أنكى وأمضّ.
ولو تبصّرت لعلمت أنه لا جهد أو وقت يهدر في تتبّع ما يعرضه الناس في الشبكات من أحوالهم وأقوالهم إلا وإلى جانبه حقّ مُضَيّع، لأن العمر ضئيل والذهن شرود، وبالكاد يتيّسر للمرء الوقت الكافي والذهن الصافي كي ينظر فيما يلزمه من أمر دينه، وما لا يسعه تركه من أمر دنياه.
والأشد من ذلك أن الأمر لا يقتصر على التضييع المحض للوقت، بل إن المخالط لهذا ونحوه يملأ «ثلاجته» كل يوم بكُنَاسَة الأذهان وزَبَد الآراء مما يفسد عليه معارفه، ويشوّه صورة العلوم في نفسه، ويوقر راحلته بالتخيّلات الركيكة، وإن المعرفة الفاسدة أخطر من الجهل المحض، ولا شك أن كثرة تلقّي المعلومات المتناثرة التي يمتزج فيها الباطل بالزيف مع شيء من الحق المخلوط بالأكاذيب يولّد في النفس شيئًا قبيحًا هو «الجهل المركّب» كما تواضع عليه النظّار القدامى، وقد سمّي بذلك «لتركّبه من جهلين؛ فإن صاحبه يجهل، ويجهل أنه يجهل»، ولذلك قال بعض أهل العلم كالشعبي وغيره أن الجملة المعروفة: «لا أدري، نصف العلم»، ومرادهم «أن من جهل شيئًا وجهل جهله به كان مجهوله من أمرين، وهذا هو الجهل المركّب. ومن قال لا أدري عَلِم جهله به، وبقي علمه بذلك الأمر» كما قرر ساجقلي زاده (ت ١١٤٥هـ) رحمه الله في كتابه المفيد «ترتيب العلوم».
وللحديث بقية بإذن الله.