شرعتُ في المقالة السابقة في وضع بعض الملاحظات عن «نظام للحمية من السمنة المعلوماتية» والتحقق بالرشاقة العقلية، وأوضحت أن الإسراف في استهلاك المعلومات الفائضة يملأ النفس بالوهم ويُنشأ فيها لونًا من الجهل المركّب، ومن شؤم هذا الجهل أنه يصرف عن العلم، لأن من يتوهم العلم بالشيء تموت في نفسه الحاجة إلى تعلّمه، وهذا شرّ ما يعود به الخائض في فضاءات الشبكة ومجالسها.
والنفس -كما تعرف- تستروح إلى ما يكفيها عناء سبيل العلم الوعر، لا سيما وأن الجهل يحصّل على جهة الكمال بمجرد الترك، يقول الجاحظ (ت255هـ): «الإنسان بالتعلّم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء؛ يجود لفظه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلّم»، ولأن الجهل تنفر منه غالب النفوس، فربما عالجت هذا النفور باستدامة المطالعة السهلة القريبة التي تشعر النفس بلذّة موهومة، ففي العلم -كما يكتب أبو إسحاق الشاطبي (ت ٧٩٠هـ) رحمه الله- «لذة لا توازيها لذة؛ إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له، ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس وميلت إليها القلوب».
ويزيد الفساد الناشئ عن الإسراف في مطالعة المعلومات الركيكة وغير الموثوقة قبحًا حين يكون المرء ضحية لبرنامج تجهيل منظّم، وتحريف ذهن مقصود وممنهج، وهذا ما قصده الفيلسوف الكولومبي نيكولاس دافيلا (ت1994م) حين قال في جملة لامعة: «في عصر تبثّ فيه وسائل الإعلام غثاءً لا ينتهي من الحماقات: لا يُعرَف المثقّف الحقيقي بما يَعلم من أخبار، بل بما يتجاهل من أخبار!»، وهذا يصدق على الشبكات التواصلية بل هي أولى بذلك.
وإن تضعضع الرقابة التقليدية التي كانت تنظم وسائل الاعلام القديمة، وتدهور سلطة «حرّاس البوابة» الذين كان بيدهم قرار النشر أو الحجب؛ أدى إلى خوف أصحاب النفوذ والسلطة، ولم يعد بالإمكان إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، فقرروا سلوك استراتيجيات جديدة لإعادة السيطرة والتحكم بالمشهد الرقمي، وقد درست هذه الاستراتيجيات عالمة الاجتماع التركية زينب توفيقجي في أبحاثها ومقالاتها الثاقبة، وهي ترى أن الرقابة الراهنة في زمن شبكات التواصل لا تتعلق بالمنع والحجب، بل تتمحور في السعي إلى تدمير الثقة بالمصادر الصلبة وتشتيت انتباه المتلقي، فالجهات ذات المصالح لا يعنيها في الغالب -في ظل الانفتاح الشاسع- غرس معلومات وعقائد محددة أو إسكات الأصوات التي تضايقها (بالأحرى يتعذر عليها الحجب كليًا)، ولذا تلجأ إلى إغراق الشبكة بمعلومات غزيرة ومواد متنوعة وكثيفة، وتنظيم حملات رقمية هدفها الإلهاء أو التخويف أو تكريس التشرذم أو الشيطنة، والنتيجة النهائية هو تحطمّ مصداقية كل الآراء والمصادر تقريبًا، وتضاؤل اليقين بالخطابات المعروضة بما فيها خطاب الجهات المتنفذة نفسها.
وهذا يقود إلى الإرشاد «الصحي» الثاني:
2- كل مختص بالشأن الغذائي سيقول لك بأن الوصول إلى الرشاقة واللياقة الصحية لا يتعلق باتباع تعليمات غذائية محددة، بل يتعلق باتباع «نمط حياة صحي»، فليس الهدف تناول كميات أقل من الأطعمة، بل تبني منظومة من الاستهلاك الصحيح. وهكذا هو الحال في الحمية المعرفية، فالهدف الالتزام بنمط حياة معرفية صحية، وذلك بتغيير العادات اليومية، فاعتياد القراءة الجادة المطولة (المملّة أحيانًا)، والتنقيب الشاقّ عن الحقائق، والتوثق منها عبر المقارنة والتحليل والتأمل والعرض على المختصين، وترك الخوض فيما لا تعلم أو لا تتيقن من معرفته، ونظائر ذلك، كلها عادات ضرورية للحمية المعرفية.
ومن هذه العادات أيضًا: مجافاة الاعتياد على الجهل بالمقروء، فلكثرة ما يطالع المرء من أحوال وأقوال فلا بد أن يمرّ به معلومة طبية معقّدة، أو معنى لغوي دقيق، أو فكرة فلسفية مركّبة، أو بيت شعر غامض، أو نحو ذلك، ومما يقع كثيرًا أن يترك معرفة ذلك طلبًا للراحة فتدركه مغبّة ذلك، وقد لاحظ الشيخ برهان الدين الزرنوجي (ت٥٩٣هـ) هذه العادة عند بعض الطلبة وحذّر من ذلك بقوله: «إذا تهاون في الفهم ولم يجتهد مرة أو مرتين يعتاد ذلك، فلا يفهم الكلام اليسير!»، وهذا تجد مصداقه في أسئلة الناس الكثيرة عن الواضحات لتركهم معاناة الفهم وإعمال الذهن، فتراخت المَلَكَة واشتد ضعفها حتى باتت تعجز عن إدراك المعاني القريبة.
وكذلك العناية بمصادر المعارف، فأهل الاختصاص بالتغذية يحثون على تجنّب المطعومات التي كثر فيها التصنيع، فكلما قلّ التدخل الصناعي في المنتج وصار أقرب إلى حالته الطبيعية كان أكثر نفعًا وأغزر فائدة وأقل ضررًا، وكذلك الحال في حمية الذهن، فكلما قلّت الوسائط إلى الحقيقة كانت أقرب إلى الصحة وأبعد عن التحيزات وأسلم من الاختزالات، وهذا له صور كثيرة منها: بناء فهم المسائل أو تصوّر المعاني على الاقتباسات أو النقول المختصرة من المطولات والكتب المسهبة، لشيوع الاقتباسات في شبكات التواصل، ومهما كان الانتفاع بها إلا أنها ليست كقراءة الأصل ولا قريبًا منه، لفضيلة معرفة سياق الاقتباس ولحاقه، مما لا يمكن نقله مختصرًا، بل إن بعض الاقتباسات ربما لا يظهر للناظر فيها ميزة خاصة، وإنما استحسنها المقتبس لموقعها الحسن في سياق طويل متماسك. ولأجل ذلك يقال:
3- لا توجد طرق مختصرة: فكما أن النحافة وتخفيض الوزن لا اختصار لها في الغالب، ويعتور الاختصارات (كالتدخل الجراحي والإبر المختصة) صعوبات ومخاطر شاقة مع أضرار جانبية مؤرقة، أما في الحمية المعرفية فلا يوجد سبيل يسير لحماية الذهن من التخمة المعلوماتية:
فمن جهة يلزم التائق إلى العلم بذل وقته وجهده كله ما أمكنه في تلقي العلم والنهل الكثيف من مظانه، وهذا يستغرق ساعات طوال ويستلزم مكابدة دائمة، قرأت لبعض الأساتذة الأمريكيين مؤخرًا مشيرًا إلى طلبة الجامعة -وكلامه ينطبق على عموم طلاب العلوم- يقول: «إن القراءة بعمق وعلى نطاق واسع لساعات طويلة في اليوم هي الطريقة الوحيدة للتعلم في المجال الأكاديمي، ولا توجد طرق مختصرة لذلك، وإن لم يتمكن الطلبة من قراءة أكثر من 100 صفحة يوميًا أو التركيز لأكثر من 20 دقيقة في المرة الواحدة؛ فلن يتعلموا أبدًا!».
ومن جهة ثانية عليه أن يحسن التوازن فلا تغرقه المعارف، ولا تنفّره الوفرة، بل يأخذ قدر ما يطيق عقله من العلوم النافعة في الدين والدنيا.
ولا يتهاون المرء المسلم بخطر الإسراف في العلوم والمعارف بلا عقل وحكمة وعمل وبصيرة، فقد كثر كلام العلماء عن معادلة حاسمة في هذا الباب وهي ضرورة تناسب العلم والعقل، واعتبروا أن «خير العلماء من ناسب علمه عقله»، وقالوا «من زَاد علمه على عقله كان علمه وبالًا عليه»، والعقل أصله من مادة “عقل” وهي دائرة على معنى الحبس والمنع، ومنه المعقل أي الحصن لمنعه دخول العدو، وعقال البعير لأنه يحبسه عن الحركة، ومرادهم بذم زيادة العلم على العقل أن كثرة المعارف دون ضبط وتنظيم وحسن تقدير وإجادة تصرّف مفضية بصاحبها إلى الضرر والإضرار، لأن وفرة الاطلاع على العلوم الدقيقة دون تيقّظ وحكمة تامة وذكاء مفرط ودين متين يشوش على اليقين ويضعفه في النفس، وقد ورد في بعض تراجم الراوندي الزنديق أن «علْمُه كان فوق عَقْله»،وفيه «قال فخر الدين المارديني: ما أدل هذا الشاب وأفصحه، إلا أني أخشى عليه لكثرة نهوله وانبهاره؛ هلاكه»، فمالم يرزق المرء بعقل رصين فإن معارفه تضيق به ولا ينتفع بها.
فإن سلم له دينه فاته كثير من النفع والفائدة، فقد قيل «من زاد أدبه على عقله كان كالراعي الضعيف مع غنم كثيرة»؛ والمعنى أن عدم التناسب بين سعة العلم واتساع العقل توجب تفرّق المعلوم وذهابه في غير موضعه اللائق به، فلا يتمكن من نظمه وترتيبه واستخلاص أصوله وتحقيق أسسه كما ينبغي.
ويزيد الخطر إذا علمت أن الأقدر في العلم والأبصر بالمعارف أقدر على الشرّ والفساد من غيره، وكما قال موفق الدين عبداللطيف بن يوسف البغدادي (ت629هـ) رحمه الله فإن من كان «رديء الطَّباعِ بالجِبلَّةِ، فلا تَرْجُ منه خيرًا، ولا تطمع في صلاحه، ولا تتربص به أن تُصلِحه الرياضة بالعلوم، بل توقّع أن تزيده شرًا وفسادًا، كما قال بعض الشعراء:
العلمُ للرَّجُلِ اللبيب زيادةٌ ونقيصةٌ للأحمق الطياشِ
مثل النهار يزيد إبصار الورى نورًا ويُعشي أعينَ الخفاشِ
وكأن هذا مأخوذ من قول أفلاطون “العلم يزيد الشرير شرًّا؛ لأنه يقوم له مقام الأنياب والمخالب للسباع”، فإن كان فيه مع ذلك حسدٌ ومَلَقٌ وجَشَعٌ، فقد اجتمعت فيه آلات الشَّر كلها ودواعيه»، فتجد من كانت هذه حاله يتوسّع في التأوّل لنفسه في خوض المحظورات، أو يتخذ من هذه العلوم وسيلة للتكسّب الباطل أو ممالأة أهل الزيغ، ويسهل عليه إفساد العامة وتضليلهم لاقتداره على التزييف وثقة الناس بعلومه.
والذي يتحصّل من هذا أن العقل ركن أساس في الحمية المعرفية، ويراد به في العبارات الواردة عن أهل العلم أمران: قيد أخلاقي، وضابط معرفي؛ فكثرة المعارف بلا دين أو خُلُق مفسدة مستطيرة، وكثرتها بلا قدرة ذهنية موازية وذكاء فائق مفسدة أيضًا لما يتولد عن الضعف من ضياع الانتفاع بالمعلوم على الوجه الأكمل.
وكان أهل العلم والنظر يعرفون قدر الانتظام في علم العالم، ويرون أن كثرة الاطلاع بمجرده ليس موجبًا لسعة العلم، ومن لطيف ما قرأت مفاضلة شيخ الاعتزال أبو هاشم الجبائي (ت320هـ) بين علم الشيخ أبي الحسن الاسفرانيني وقد صنّف كتبًا في الكلام والتفسير والحديث وعلوم أبي عبدالله محمد بن عمر الصيمري المعتزلي (ت315هـ)، فقال: «إن مثل محمد ابن عمر، كمثل دار واسعة كثيرة البيوت، فيها عامر وخراب، ومثل أبي الحسن، مثل حجرة لطيفة متناسبة في العمارة»، «فكأنه أشار إلى أن علمه [أي الصيمري] -وإن كان أكثر منه- يختلف في الترتيب والنظام»، وهذه مفاضلة حسنة تدلك على فضيلة التناسب والإتقان.
ومهما كثرت عليك الكتب أو تشوش عليك النهول؛ لاضطراب المعارف بين يديك، فتمسّك بما يلزمك في يومك وليلتك، ولا تنس غايتك الكبرى في حركاتك وسكاناتك، وأنك لا تفهم حرفًا ولا تدرك معنى ولا تصبر على علم إلا بإلهام رباني وتوفيق إلهي، وأنك لا شيء دون تسديده وإعانته، ثم لا تجعل ما بَعُد منك من المعارف -حسًا أو معنىً- مكدّرًا أو صارفًا عن تعلّم ما قرب منك حسًا أو معنى، فلا تترك ما تحسنه وتطيقه شغفًا بما لا تحسنه أو لا تطيقه.
وعندما يدركك الشجى من كثرة ما يلزمك معرفته ومطالعته من الكتب الكثيرة، فتأمل ما كتبه الفيلسوف المعروف سينيكا (ت65م) في بعض رسائله إلى صاحبه لوسيليوس يوصيه حيث يقول: «عندما لا تستطيع أن تقرأ كل ما بحوزتك، فيكفيك أن تحوز حقًا كل ما تقرأه»، فهذا سرّ من أسرار النبوغ، وعلامة على التوفيق وحسن التدبير، أعانني الله وإياك على التزام طلب العلم، والانتظام في سلك أهله في الدينا والآخرة.