مما لاشك فيه ان لكل نص أدبي خصوصيته المتفردة, فكل نص يختلف عن الاخر انتاجا وتلقيا, ولعل هذا التفرد يرتبط بالأسلوب ذلك أن كل نص له أسلوبه الابداعي وهذا ما نصت عليه الاسلوبية أو علم الاسلوب, الذي يتبع مختلف الظواهر اللغوية في النص الادبي معتبرا أن اللغة هي جوهر المعنى والدلالة باعتبار ما تحمله من شحنات تأويلية قادرة على كسر حواجز صمت المعنى.
ويرى “الهادي الجطلاوي” أن الاسلوبية تقوم على “النظر في الانتاج الأدبي, وهو حدث لغوي لساني، أما منهجها في النفاذ الى أسلوب النص فهو منهج لغوي, يروم الوقوف على الخصائص اللغوية فيه, وعلى العلاقة الرابطة بين هيكله اللغوي ووظيفته الشعرية “1.
ولعل هذا يبين ذلك التداخل بين الاسلوبية والشعرية، وهو ما أكدته الناقدة “يمنى العيد” حينما تقول أنه “لم يعد بإمكاننا اليوم أن نعالج المسالة الشعرية بمعزل عن المسألة اللغوية، ليس لأن الشعر مادته اللغة، بل لأن ما قدمته العلوم الانسانية الحديثة من مفاهيم تخص اللغة ترك أثره العميق والمباشر على مفهوم الشعر”2.
ولعل هذا التداخل هو ما يجعلنا أمام فكرة أن المعنى الشعري لا ينعزل عن النظام اللغوي، فاللغة هي التي تخلق ذلك العالم الشعري الذي يؤثث فضاء القصيدة، وتنحصر مهمتها هنا في تأدية المعنى.
وتتخذ الأسلوبية من الخطاب الادبي عامة مادة لها, ذلك “أن الأسلوبية تحليل لخطاب من نوع خاص, فهي وان كانت تعتمد على قاعدة نظرية لسانية أو سيميائية، فإنها أولا وأخيرا تطبيق يمارس على مادة هي الخطاب الأدبي، وهي لاتقف عند حدود النسيج، بل انها لا تلبث بعد ذلك أن تختلط بالنص ذاته عبر عمليات التفسير وشرح الوظيفة الجمالية للأسلوب لتجاوز السطح اللغوي ومحاولة تعمق دينامية الكتابة الابداعية في تولدها من جانب وقيامها بوظائفها الجمالية من جانب اخر”3.
وتسعى الاسلوبية الى الكشف عن مكامن الجمالية في النص الأدبي، وسبر أغواره وذلك من داخل النص لا من خارجه، واذا كانت الأسلوبية كذلك، فإنها لاتهمل المؤلف، مبدع النص على الرغم من مناداتها في بداياتها بموته، إلا انعزل النص عن المؤلف والقول بموته, تجربة في حلقة تطور النقد اللساني الجاد, الذي ينحو منحى العلوم التجريبية المجردة، ما لبث أن تراجعت بل ان “رولان بارت” نفسه تراجع عنها.
واذا كان المبدع يوظف هذا الكم الهائل من الوحدات اللغوية, التي يبني بها عالمه النصي، فإنه بذلك يختار نسقا لغويا يغني نصه الأدبي، غير أن هذا الاختيار وفق المنظور الأسلوبي لا يعطي المبدع الحق في اختيار ما يشاء خارجا بذلك على قواعد النحو واللغة الأساس, بل ينبغي اختيار ما يخدم غايته داخل النص وفق قواعد الأسلوب التي تمثل معايير الاستعمال اللغوي.
و غالبا ما يلجأ الشاعر في أسلوبه اللغوي الى سياقات تركيبية تخرج عما هو مألوف تصبح معه اللغة لغة انزياحية، وهو ما يعلي من قيمة شعرية النص,
حيث تعلن اللغة تمردها على السياقات التركيبية المألوفة، وهو ما يؤكد سلطة اللغة في قيادة المعنى، ذلك أنها تراوغ دلاليا للوصول الى هدف دلالي معين, تعمل على نصرته وتأييده في خضم صراع اللغة والدلالة.
ولعل هذا الصراع هو ما تحدث عنه “صلاح فضل” حينما قال أن اللغة باعتبارها مجموعة من الصيغ تتخالف بالضرورة مع الصيغ الأخرى، إما باعتبارها متراكمات دلالية، فإن المضمون الأكبر يكمل الأصغر، أي أنها تتداخل حينئذ والعمل اللغوي الحقيقي, يبرهن لنا عن وجهة النظر الشكلية على الجانب الفردي الخاص المتميز, ومن وجهة المضمون على الطابع المتشابك ,هذا هو النموذج المثالي للفكر اللغوي, وهو في الوقت نفسه النموذج المثالي للشاعر، فالفكر اللغوي في جوهره فكر شعري، والحقيقة اللغوية انما هي حقيقة فنية4.
ويمكن القول أنه رغم تعدد مشارب الشعر العربي وتنوع مواضيعه، إلا أن موضوع التعايش يظل من أسمى الموضوعات التي عالجها الشعر العربي، فالتعايش من أهم المبادئ الانسانية والأخلاقية التي عرفتها البشرية، والتي سجلت حضورها في التاريخ الإنساني منذ عصور قديمة، غير أنها سجلت أجمل حضور في الأدب وفي الشعر بشكل خاص.
ويتأسس مفهوم التعايش على مبدأ فكرة الاختلاف والقبول بالآخر، وقد قامت وثيقة إعلان المبادئ العالمية على الربط بين التسامح وحقوق الانسان والديمقراطية والسلم، وقد ورد في البند الأول من وثيقة اعلان المبادئ عن التسامح الصادرة عن اليونسكو، أن مفهوم التعايش والتسامح يتضمن العناصر التالية:
قبول تنوع الثقافات واختلافها واحترام هذا التنوع.
الاعتراف بحقوق الانسان العلمية وبحرياته الأساسية.
التسامح هو مفتاح التعددية السياسية والثقافية والديمقراطية.
تطبيق التسامح يعني ضرورة الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني أنه ليس لأحد أن يفرض اراءه على الاخرين5.
ان التسامح هو جوهر الانسانية، ولهذا قال محمد حسين كامل: الأصل في التسامح أن تستطيع الحياة مع قوم تعرف يقينا أنهم خاطئون.
وقال “مانديلا” أن الشجعان لايخشون التسامح من أجل السلام، ويوافقه غاندي في ذلك أن التسامح من صفات الأقوياء، ولهذا فالنفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح.
ولاشك أن الشعر العربي جسد مفهوم التسامح والتعايش، فمنذ العصر الجاهلي عرف الشعر العربي الكثير من الوقائع والأحداث التي جسدها الشعراء في أشعارهم، ولعل أهم هذه الوقائع، “حرب البسوس” و”حرب داحس والغبراء”، وغيرها من الحروب التي نبذها الشعراء ووقفوا موقفا معارضا لها، فعملوا على نشر السلم بين القبائل، ويعتبر “زهير بن أبي سلمى” أهم هؤلاء، حيث دعا الى التوقف عن الحرب والتمسك بالسلم، ولهذا سمي “بشاعر السلام” في العصر الجاهلي، ولاشك أنه وهو يدعو الى السلم, فهو يعبر عن حكمته العميقة وتعقله، ولهذا سمي أيضا “بالشاعر الحكيم” نظرا للدور الذي لعبه في دعوة الأطراف المتحاربة, لتجنح الى التعايش في سلام باعتباره الخيار الأفضل، وقد صور ذلك بطريقة فنية موظفا صورا حسية غاية في الجمالية والبلاغة، حتى اعتبر مدرسة فنية ذهب على منوالها ابنه “كعب” و”النابغة الذبياني” و”الحطيئة” وغيرهم، لقد سعى الى نشر قيم “التعايش والسلم” في أشعاره، لتصبح تجربته الشعرية تجربة إنسانية بامتياز جمعت بين صدق المشاعر, وجمالية التعبير ونبل الهدف، وهذا ما دفع الناقد “محمد النويهي” الى التعبير عن اعجابه بتفرد تجربة “زهير بن ابي سلمى” قائلا:” انه أحب شعراء الجاهلية الى قلبي لأسباب متعددة، منها سبب اعترف بانه اخلاقي اجتماعي هو سمو تفكيره ومثاليته على المستوى السائد في عصره الجاهلي، ومقاومته لمقاييس الجاهليين الذين كانوا يتباهون بالبطش والاعتداء وقسوة الانتقام، ونزعته العميقة الى السلم والتصالح, وحملته الحارة على الحرب وبطولاتها الدموية، ومديحه الجميل المخلص لأفراد سموا بطابعهم وعاداتهم على الشائع المألوف في ذلك العصر، وكل هذا يحله في ضميرنا الحديث محلا رفيعا، لكني اوثره لأسباب أخرى فنية، هي تناوله المتخصص لفن الشعر وتجويده لأدائه, دون أن يسقطه هذا في التكلف، سبب اخر أصرح بأهميته عندي في تفضيل زهير هو مجرد الكم ,فقد قدم لنا من القصائد الجيدة الممتعة عددا لايجاريه فيه شاعرا اخر6.
واذا كان “زهير بن أبي سلمى” “شاعر السلام” في العصر الجاهلي، فإن الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” يعتبر “شاعر السلام” في العصر الحديث، فقد تميزت أشعاره بدعوتها للسلام, الذي يعتبر حقا إنسانيا بامتياز، وعرف بخطابه الرافض للحروب والعنصرية والتهميش.
ان شاعر فلسطين وهو يدافع عن قضيته، عبر عن مقته لكل أشكال الظلم الإنساني الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني على أرضه، وما صاحب ذلك من ذل ومهانة واضطهاد عانى منه على المستوى الشخصي، حينما طرد من أرضه قسرا، لكن ذلك لم يزده الا تشبثا بوطنه المسلوب، فأغنى الساحة العربية بأشعاره الداعية الى رفض الحروب والرغبة في انتشار السلام، يقول في قصيدته “خطاب السلام”:
وأما الذين قضوا في سبيل الدفاع عن
الذكريات وعن وهمهم فلهم أجرهم أو
خطيئتهم عند ربهم
حرام حلال
حلال حرام
ماذا دفعنا لكي نندفع، ثلاث حروب، وأرض أقل
وتأميم أفكار شعب يحب الحياة، ورقص أقل
فهل تستطيع المضي أماما؟ وهذا الامام
حطام…
أليس السلام هو الحل؟
عاش السلام
لقد استهل الشاعر قصيدته “خطاب السلام” بسطرين شعريين, ضمنهما فكرة الرغبة في السلام، وأن هذه الرغبة لا ينبغي أن تكون وهما أو خطيئة، ويبدو وكأنه لجأ الى “الاقتباس” من القران الكريم للتعبير عن ذلك، حيث اقتبس من سورة هود، الآية الكريمة: »فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق « .
وقد أنهى سطره الثاني بحرف العطف أو الذي يفيد المشاركة بين المعطوف والمعطوف عليه, في حين أوقف هذه المشاركة مغلبا بذلك الوقفة العروضية على الوقفة الدلالية، ومتوقفا في السطرين الرابع والخامس, بين كلمتين لهما نفس الايقاع الصوتي، مغيرا في ترتيبهما: “حرام حلال”، “حلال حرام”، ولعل هذا التغيير يشير الى تغيير نغمة خطاب السلام، ليأتي في السطرين السادس والسابع، ويعمل على توحيد القافية، وهو ما يضيف ايقاعا موسيقيا على القصيدة، ويوظف الشاعر في السطر الثامن أداة الاستفهام “هل” التي توظف لطلب “التصديق”، وهي تقع بعد العاطف لا قبله، كما فعل الشاعر، ولم يتقدم الإسم على الفعل كما قد يضطر بعض الشعراء الى ذلك، كما ارتبطت بالفعل المضارع “تستطيع”، وبخلاف ذلك جاء توظيف أداة الاستفهام “الهمزة”، حيث جاء بعدها نفي وهي تفيد “التصديق والتصور” معا، ولعل الاستفهام من أهم الأساليب التي يلجأ اليها الشعراء في توظيفاتهم اللغوية، وذلك لما لها من تأثير في المتلقي, الى جانب قدرتها الفائقة على تبليغ المعنى والدلالة، وقد نوع الشاعر “محمود درويش” في توظيفه لأداة الاستفهام، حتى لا يقع في روتينية اللغة، فيضمحل تأثير المعنى أمام التكرار اللغوي، ويبدو أن الشاعر أجاب عن سؤال السلام بشكل سريع، وهو ما يؤكد أهمية هذا الأخير بداخله, ويتضح ذلك جليا في اختياره للعنوان “خطاب السلام”.
ولعل لجوء “محمود درويش” لخاصية “الاستفهام” في قصائده, وخاصة تلك التي تعالج مواضيع “التعايش والسلم” ونبذ الحرب, ليؤكد استنكاره للحروب والعداوات، فها هو في قصيدته “هدنة المغول امام غابة السنديان”، يتساءل:
متى تضع الحرب أوزارها
كي تفك خصور النساء على التل
من عقدة الرمز في السنديان
ويبدو أن الحروب لا تعلمه سوى القوة والتفاؤل فها هو يقول:
كل حرب تعلمنا أن نحب الطبيعة أكثر: بعد الحصار
نعتني بالزنابق أكثر، نقطف قطن الحنان من اللوز في
شهر اذار، نزرع غاردينيا في الرخام، ونسقي نباتات جيراننا
عندما يذهبون الى صيد غزلاننا7.
ويتضح “التسامح” جليا في معجم القصيدة, التي طغى عليها “معجم الطبيعة”، كتوظيفه لكلمة “الزنابق”,، و”الغاردينيا” التي ترمز “للجمال والعاطفة” و”السنديان” رمز “الصمود والقوة والعزيمة” إن طغيان معجم الطبيعة على القصيدة، يؤكد صفاء الشاعر اتجاه الحياة، ونقاء إنسانيته، وسمو مشاعره اتجاه واقعه المأساوي، ذلك أن قلقه وحزنه سرعان ما يذوب داخل بوثقة الأمل والتفاؤل، كل ذلك من أجل رغبة صادقة في السلام.
ويمكن القول أن التعايش في الشعر العربي, اتخذ عدة أشكال تلتقي كلها في اعتبار التعايش قيمة انسانية سامية، تعبر عن سمو أخلاق الشاعر، ومن أشكال هذا التعايش، “التعايش الديني”
يقول “نزار قباني”:
خرجت اليوم للشرفة
على الشباك…جارتنا المسيحية
تحييني..
فرحت لأن انسانا يحييني
لأن يدا يدا صباحيه
يدا كمياه تشرين..
تلوح لي..
تناديني..
أيا ربي
متى نشفى، هنا
من عقدة الدين..
أليس الدين، كل الدين
انسانا يحييني؟
ويفتح لي ذراعيه..
ويحمل غصن زيتون…8
يفتتح هنا الشاعر قصيدته بفعل ماض “خرجت”، محددا “زمن” الخروج و”مكانه”، موظفا بذلك تقنيات سردية، حيث بدت القصيدة وكأن الشاعر يسرد لنا حكاية شعرية حول التعايش الديني مع جارته المسيحية، التي بادرته بتحية الصباح، وهو ما أثار بداخل الشاعر سؤالا عميقا: متى نشفى من عقدة الدين؟ موضحا أهمية “التعايش الديني” الذي ينطلق من الأخلاق والقيم الإنسانية التي تعترف بالأخر ولا تقصيه.
يبين الشاعر أن مجرد تحية صباحية، أيقظت بداخله قضية كبرى، ألا وهي قضية التعايش الديني الذي يعمل على تعبيد طريق السلام:
انسانا يحييني
ويفتح لي ذراعيه
ويحمل غصن زيتون
وهذا ما يؤكده توظيف الشاعر لغصن الزيتون خاتما به قصيدته، التي بدأت بفعل ماض وانتهت بفعل مضارع، وهو ما يعني أن فعل التعايش كان في الماضي وسيظل في الحاضر ضرورة إنسانية ملحة، داخل الحياة.
إن تنويع الشاعر بين أزمنة الأفعال، يضيف جمالية خاصة على القصيدة، التي طغى عليها أسلوب السرد، والأسلوب الخبري الذي نقل مشاعر الشاعر، بينما تمثلت الصيغ الانشائية في النداء والاستفهام، وقد جاء النداء قبل الاستفهام وكأن الشاعر ينادي من سيجيبه عن سؤاله المقلق: أليس الدين انسانا يحييني ويفتح لي ذراعيه.
ولعل هذا التعايش هو ما دعا اليه الشافعي في بيته:
الناس داء ودواء الناس قربهم = وفي اعتزالهم قطع المودات
ففي هذا البيت يختزل الشافعي مفهوم التعايش، باعتباره دواء الانسانية.
لائحة المراجع المعتمدة:
1 الهادي الجطلاوي: مدخل الى الاسلوبية تنظيرا وتطبيقا,منشورات عيون, الدار البيضاء,1992.
2 يمنى العيد: في القول الشعري,الدار البيضاء,1988.
3 بسام بركة: الخطاب الأدبي والنقد الأسلوبي الحديث عند جورج مولينه,مجلة البحرين الثقافية,العدد 30 اكتوبر 2001.
4 صلاح فضل: علم الأسلوب,مبادؤه واجراءاته,الهيئة المصرية العامة للكتاب,القاهرة,1985.
5 علي أسعد وطفة: مجلة التسامح العدد11.2005.
6 محمد النويهي: الشعر الجاهلي,الجزء الثاني ص 646.
7 محمود درويش: ديوان أرى ماأريد,دار توبقال للنشر,1990.
8 نزار قباني: ديوان يوميات امرأة لامبالية,منشورات نزار قباني بيروت,1993.