إلى غاية تاريخ كتابة هذا المقال، وبعد 44 يوما على حربه ضد قطاع غزة والضفة الغربية، استطاع الكيان الصهيوني، تجاوز كل التوقعات الموغلة في التشاؤم، مقترفا ما لم يكن بالحسبان. ودون التركيز على مجمل الضحايا والشهداء الذين سقطوا من أطفال ومدنيين، يمكن التركيز خاصة على قطاع، عادة ما يبقى في عرف الحروب، على الأقل بعد سنة 1949، في منأى عن الاستهداف.
غير أن الكيان الصهيوني أبى إلا أن يسجل في التاريخ الحديث، أنه أول من تجرأ على هذا القطاع بهذا الحجم والشراسة، بل والجرأة والصفاقة. وعليه من واجبنا أن نرصد، ولو مؤقتا، حصيلة هذه الجرائم التي يرتكبها، ولا يزال لغاية اللحظة، في حق القاطع الطبي. كي نتساءل عن الأسباب الحقيقية، التي جعلته يخرق كل القيم والمواثيق الدولية المتعلقة بهذا المجال.
أولا: حصيلة إجرامية ثقيلة:
حسب الرصد والمتابعة اليومية التي تقوم بها المنظمات الإنسانية، فيمكن تحديد حصيلة استهداف القطاع الصحي إلى غاية تاريخ 19 نوفمبر 2023، فيما يلي:
– 203 شهيدا من الكوادر الطبية.
– 210 جريحا من الكوادر الصحية
-135 مؤسسة صحية جرى استهدافها.
-26 مشفى تم تدميره وخرج عن الخدمة كليا
-56 مركزا للرعاية الأولية خرج عن الخدمة
-60 سيارة إسعاف تم استهدافها
-55 سيارة إسعاف خرجت عن الخدمة
-150 ألف مريض مرضا مزمنا افتقر إلى الرعاية الطبية وانعدام فرص الحصول على الادوية المقررة لهم
-ما يزيد عن 1000 مريض بالسرطان توقفت رعايته الدائمة
-أكثر من 3000 طفلا أصبحوا بدون رعاية تخصصية
-ما يقارب 4800 مريض افق التدخل الطبي لإنقاذ حياته
-1034 مريضا بالفشل الكلوي توقفوا عن غسل كلاهم.
-50 ألف امرأة حامل لم تعد تحت المتابعة الصحية، من بينهم ما يزيد عن 5500 امرأة ستلد خلال الشهر المقبل.
-أزيد من 100 ألف من الكوادر الطبية والجرحى والنازحين داخل بقية المستشفيات التي تنعدم فيها الشروط المهنية مهددون في كل لحظة بالاستهداف.
-انهيار المنظومة الصحية تماما داخل قطاع غزة
-نقص جد حاد في الأدوية
-توقف تام للمولدات الرئيسية للكهرباء في معظم المستشفيات التي لا تزال تقاوم التوقف عن الخدمة.
ثانيا: ترسانة قانونية ثقيلة لم تحم القطاع الصحي:
يقع كل ذلك الإجرام، في الوقت الذي تقف فيه المنظمات الصحية الدولية، بما فيها الصليب الأحمر، عاجزة عن منع أو تقليص تلك الممارسة الهمجية. وذلك مع وجود ترسانة قانونية دولية ثقيلة، كان المفروض فيها الحيلولة دون حدوث ذلك، وهنا نسرد قائمة نموذجية لتلك القوانين، التي التي تخرقها الصهيونية في حربها ضد غزة والضفة:
– اتفاقيات جنيف: توفر اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية الإطار التأسيسي لحماية المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي أثناء النزاعات المسلحة. وهي ترسي مبدأ الحياد الطبي، مما يضمن احترام وحماية الوحدات والطواقم الطبية.
-البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف: يتناول البروتوكول الإضافي الأول (1977) حماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية ويعزز مبادئ الحياد الطبي. ويركز البروتوكول الإضافي الثاني (1977) على حماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، ويوسع نطاق الحماية المماثلة ليشمل المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي.
-القانون الإنساني الدولي العرفي: حددت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعض قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي، بما في ذلك الأحكام المتعلقة بحماية المرافق الطبية والعاملين في المجال الطبي أثناء النزاعات المسلحة.
– القانون الدولي لحقوق الإنسان: تم تناول الحق في الصحة وحماية العاملين في المجال الطبي أيضًا في مختلف الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ثالثا: الخلفية الفقهية وراء ذلك الإجرام:
سؤال يطرح نفسه: استهداف المستشفيات! لماذا؟
لماذا يستهدف العدو الصهيوني في حربه ضد المقاومة، بكل شراسة، وبهذا الحجم، المستشفيات والعاملين في المجال الطبي، من مسعفين وممرضين ومساعدين تقنيين واطباء..؟
للجواب على ذلك، لا بد من الرجوع الى طبيعة ووظيفة مؤسسة المستشفى ومهنة الطب، ومقارنتها بطبيعة ووظيفة الكيان الصهيوني:
إن حرَم المستشفى وقداسة مهنة الطب، هما بقعة الأمل والرحمة الوحيدة التي تبقى عادة لدى الشعوب المنكوبة بالحرب، حينما ينعدم الأمان في كل شيء. ولذلك تمت حمايتهما، بتلك الترسانة من القوانين الدولية. لأن المنطق الدولي عموما، بني على أساسين: تساوي الطبيعة البشرية بين المتقاتلين، واعتبار أن الهدف النهائي للمتحاربين من القتال هو مجرد فرض شروط أحدهما على الآخر.
غير أن العدو الصهيوني، بحكم تكوينه وتركيبته، تتحكم فيه نظرة عميقة تختلف تماما عن نظرة المجتمع الدولي عموما، تتجلى في عقيدة الاحتقار لبقية شعوب العالم، متبنية وظيفة الاستئصال الوجودي للفليطينيين، محكومة بفتاوى وتوجيهات تلمودية مغرقة في الظلامية. لذلك فهو يرى في المستشفى والعاملين في المجال الطبي أعداءه المباشرين المناقضين لطبيعته الاحتقارية ووظيفته الاستئصالية.
فبغض النظر عن الأسفار التوارتية التي توصي بقتل الأطفال والشيوخ وشق بطونهم جميعا (احياطا أن يكن حاملات)، وأن لا يبقى حجر على حجر عند استهداف قرى العدو.. فإن هناك نصا خاصا في “شريعة الملك”، والتي تسمي “تواراة هالمخ”، ألفه كل من الحاخامين إسحاق شابيرا ويوسف حيا، وهو مرجع فقهي أساسي لدى متطرفي اليهود، في التعامل مع “الأغيار”، المسمون عندهم ب”الغوييم”، وحيث يبدو جليا أن نتانياهو قد تبنى توجيهاته بالحرف، فهو يوصي خاصة بالمجال الطبي، وخاصة في المجلد الخامس منه، حيث لا يعتبر المجال الطبي مجالا إنسانيا محايدا، بل يعتبره سلاحا بيد العدو، والعاملون فيه لا يقلون خطورة عن الجنود المسلحين، فينص بالحرف على ما يلي:
” “يتوجب علينا قتل من يعمل في سلاح الطب لدى العدو، لأنه من دون هذا السلاح فإن العدو سيكون أكثر ضعفاً”.
إن هذا التعامل الذي يمارسه اليوم هذا العدو الصهيوني، في حق مستشفيات غزة وفلسطين، إنما كشف تلك الحقيقة، التي ظلت متوارية خلف خطاب هذا الكيان المجرم وممارساته، بعد أن منحته إدارة بايدن شيكا على بياض، ليفعل ما يشاء ليحقق ما يريد.
وعليه، ألا ينبغي الدفع بالجسم الطبي في كل العالم، للتحرك بكل الوسائل، لكشف هذه الحقيقة، ومحاربة هذه النزعة، بما فيها تقديم مشروع قانون دولي، لاعتبار الصهيونية نزعة معادية للإنسانية؟
سؤال موجه للأطباء والقانونيين