تعاني مجتمعاتنا أوجاع النهوض وأشواق الحرية، كما يخترق جسدها آلام الاستبداد السياسي والتخلف الحضاري طيلة محاولاتها العديدة للنهوض من جديد؛ أمة عاشت مخاضا من التعثر والنهوض، ومن التأخر والتقدم، أفضى إلى نهضة “مجهضة” على يد الاستعمار والتدخل الخارجي، و”ذات” مثخنة بالانقسامات والصراعات، و”موروث” مشبع بالانحطاط يشهد توترا مزمنا بين التقليد والتجديد، ناهيك عن حالة خوف مستحكم من التعددية وتعثر في توطين الديمقراطية وهروب مرضي من الحرية.
إن الطريق إلى الحرية شاق وطويل، لذلك يحرص الاستبداد على صناعة مناخ الخوف من الحرية وإثارة حالة من التخويف من المطالبة بها، وتقديمها للشعوب خيارا مهددا للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي ومرادفا للفوضى والحروب، فضلا عن وضعها في مقابل الأمن والتنمية؛ وقد ينزع أحيانا إلى صناعة حرية “مزيفة” تكون على المقاس، موهما بخلق مساحات وهوامش للحريات والحقوق مع استمرار آلية التخويف من خطورة توسيعها، ورفع سقفها باسم الخصوصية أو تهديد التلاحم الوطني أو محافظة المجتمع.
تخشى النخب السلطوية من الحرية وتتخوف من الديمقراطية ومن نتائج إقرارها وتوطينها، ويجد هذا الخوف مبرره في نمط الاقتصاد السائد وطبيعة النظم السياسية والعلاقة القائمة بين السلطة والثروة، بالإضافة إلى خوف هذه النخب من فقدان المكانة السياسية والمنزلة الطبقية ومراكز النفوذ التي تحظى بها، وبهذا المعنى تنتصب نخب السيطرة والمركب المصلحي للتخويف من الحرية؛ لأنها تهدد مصالحهم وامتيازاتهم وتمس احتكارهم للقرار والثروة. ومن ثم لا تبدو الحرية والديمقراطية لهؤلاء ركيزة لتأسيس جديد لممارسة السلطة وتداولها وتوزيعها.
الدين في مواجهة الحرية
يفزع التدين الانحطاطي من الحرية وما ينتج عنها من اختلاف في الرأي وتنوع في الاجتهاد، ويتغذى هذا الخوف على الخطاب العلماني المتطرف المعادي للدين والداعي إلى إقصائه من الحياة العامة والخاصة، بل ويعتقد بأن الديمقراطية والحرية نفسها تهدد وجود الدين ومكانته في المجتمع والتشريع. إلا أنه لا خوف على الإسلام من الحرية، فمعظم الأزمات التي عانى منها عالم المسلمين كانت بسبب غياب الحرية والديمقراطية والتعددية، وتغييبها عن أولويات العقل الديني المعاصر وضعف حضورها داخل بنيته وتكوينه وخطابه. وعليه، يحتاج المسلم المعاصر إلى أن يستأنس بالحرية ويتعايش مع الاختلاف والتعددية وأن ينظر إليها بعين الثقة لا بعين الخوف على الدين من الفتنة[2].
هناك بعض التوجهات الدينية تنتصب معارضة للحرية ولوازمها باسم الدفاع عن الذات المؤمنة وحراسة الهوية أو طاعة ولي الأمر، وأحيانا تنخرط في مناهضة الحرية بوصفها آلية لمواجهة الحداثة العلمانية والتغريب الثقافي؛ إذ يخلط هذا النمط من الخطاب الديني بين منهج التقديس والتقدير للتراث الديني والحضاري، وينخرط في تقديس “ما لا يقدّس، والاستسلام غير الواعي له؛ بسبب الخوف عليه، والخوف من الانحراف عنه، والخوف من خصوم لنا أَغوَوْنا عنه”[3].
لقد أصبح “الخوف على التراث” ذريعة لمنع مناقشة قضايانا المصيرية، في حين أن الدافع الحقيقي وراء إغلاق باب النبش في التراث وتقديم تأويلات متعددة له هو الخوف من الاستبداد، الذي لن يرضى بفهم جديد للدين يدعو إلى الحرية والتحرر والمساواة والمطالبة بالحقوق المدنية، ويقاوم أي فهم ينتج خطابا دينيا يدعو إلى رفض الظلم ومساءلة النخبة الحاكمة ومراقبتها، والوقوف في وجه الحاكم المستبد والثورة عليه؛ فالخطاب الديني الوحيد المقبول عند النخب الدينية والسياسية المستبدة هو خطاب “حاكم مستبد خير من فتنة دائمة” والحاكم هو “ظل الله على الأرض” و”ولي الأمر المتغلب” أو “حاكم الضرورة”؛ فمن اشتدت وطأته وجبت طاعته حسب هذا التصور. ومن ثم تحريم الخروج على الحاكم بالتظاهر السلمي والاحتجاج المدني، والتحريض على لزوم الجماعة وتقديس الطاعة والتخويف من الفتن. ولذلك يعتبر الخوف من الحرية في العمق خوفا من نقد الفهم الاستبدادي للتراث السياسي العربي، وتحريفا للقيم السياسية الإسلامية التي تؤكد على الشورى والعدل والحرية والتعاقد.
كما أن “حراس التراث” يستحضرون ما أفضت إليه الحرية في التجربة الغربية من انفصال عن التراث الديني والسياسي الكنسي، وفصل بين الدين والدولة وتلازم الديمقراطية والعلمانية، معتقدين أن هذا التحرر الحداثي يؤدي إلى هدم القناعات وزعزعة العقائد الراسخة وتراجع قيم الدين والتدين في مجتمعاتنا. أنتج هذا التصور المشوه تقابلا متوهما بين الإسلام والحرية واعتبرها مهددة للتراث والهوية لا فرصة للتغيير والنهوض، فأدى ذلك إلى سيادة خطاب التشكيك في كل دعوة إلى الحرية ومستلزماتها من ديمقراطية ومساواة وعدالة، وإلى التخويف من دعاتها وحركاتها، ووصل الأمر إلى حد الهجوم على من ينادي بالحرية باعتبارها حقا من حقوق الإنسان، ليقدم هؤلاء “الحراس” خطابا دينيا مهووسا بوضع ضوابط للحرية وقيود وحدود لها حتى وهي غائبة ومفقودة، متوهما وجود فائض من الحرية والتحرر في الواقع.
إن تضخم فقه الطاعة وضمور فقه الحرية في رؤيتنا للتراث السياسي والفكر الإسلامي يعد مؤشرا على اختراق خفي للنسق الاستبدادي السلطاني للخطاب الإصلاحي المعاصر؛ فعوض تأسيس الإيمان على الاختيار الحر والعقل المتسائل والحس النقدي نركن إلى خرافية مقيتة أو تقليد موروث أو عقلانية مادية، “ومن هنا تنبثق فكرة أن كل مجتمع إنساني حقا لابد أن يكون مجتمعا من أفراد أحرار، ولابد أن يَحُدَّ من عدد قوانينه ومن تدخلاته (درجة القهر الخارجي) إلى ذلك الحدّ الضروري الذي يمكن من خلاله الحفاظ على حرية الاختيار بين الخير والشر، حيث يمكن للناس أن يفعلوا الخير، ليس لأنهم مُجبرون عليه ولكن لأنهم يريدونه ويرغبون فيه. فبغير هذه النية نكون في حالة من الديكتاتورية أو الطوبيا”[4].
يعمق علال الفاسي هذا التصور مشيراً إلى مركزية الحرية في حماية المجتمع مؤكدا أن “المجتمع لا يمكن أن يكون متشابهاً في أفكار أفراده وميولهم وتطوراتهم. والمجتمع السليم هو الذي يسمح لأفراده أن يحققوا ما بأنفسهم كما يريدون أن يحققوه، وبقدر ما تتعدد النماذج في الأمة، يزداد نموها وتقوى قدرتها على الخلق والابتكار. وكبت الرأي يمنع الشخصية القومية من أن تتفتح، ولكنه لا يمنع الأفكار من النمو في السر والتسرب للآخرين، ثم الانفجار في شكلٍ ثوريٍّ يطيح بكل مستبدٍّ يفرض على المجتمع نوعاً آخر من الحكم قد يرضيه وقد لا يرضيه”[5].
ينتهي المآل بهذا الخطاب المنغلق إلى خيار الهجوم على الحرية ذاتها، تحت مسمى الخوف على الهوية الدينية والجماعية، وبهذا تم إحداث تطابق بين توسيع مجال الحريات ونشر الإباحية، والنظر إلى النضال من أجل الحريات وحقوق الإنسان بمثابة تشجيع على تغيير المعتقد وتحدي الأخلاق العامة والاستهزاء بالدين السائد.
لقد ضيع التفكيرُ الإيديولوجي المنغلق الفرصةَ أمام التجديد الديني الإسلامي في أبعاده المعرفية والفلسفية والمقاصدية، وأمام البناء المتماسك لدولة الحرية على أسس حديثة متجددة ومتحيزة، بسبب موقف العداء من الدين، الذي كان رد الفعل المقابل له هو الجمودُ على الإسلام تراثاً وفكراً وتجربةً بمنطق معركة الحفاظ على الهوية وحماية المرجعية، لتتحول المعركة إلى صراع حول السلطة وسبل تملّكها، بل والاستيلاء عليها لحسم إشكال علمنة أو دينية الدولة. وكانت النتيجة، بسبب تفكك المرجعية الناظمة الكلية، ضياع جهود التفعيل الثوري للمرجعية الإسلامية في بعدها الحضاري المتفاعل مع واقع المسلمين ومستجداتهم وحاجاتهم وأولوياتهم في النهوض والإصلاح وأشواقهم في الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية[6].
صناعة الخوف
لا ننكر أن مناخ الخوف المتبادل وفقدان الثقة السائد بين التيارات الفكرية والسياسية في العالم العربي والمغاربي، يعمق من أزمة توطين الحرية والاتفاق على حمايتها وتنميتها، فالتيارات العلمانية والليبرالية تخاف صعود القوى الإسلامية والتيارات الدينية، إذ تخشى أن تنخرط في تقليص مساحات الحرية والهيمنة على المجتمع وفرض نمط من الثقافة والتدين عليه، بالمقابل تخاف التيارات الإسلامية من سلطة فئة متنفذة وتيارات علمانية تسعى لتغيير هوية المجتمع ولا ترى أي دور للدين والقيم في سياسات الإصلاح أو خيارات الدولة وفاعلية المجتمع[7]. وهذا الجو المشحون لن يسمح ببناء أي توافقات تاريخية ومراجعات فكرية عند هذه التيارات في لحظات التحول السياسي الفارقة التي عاشتها المجتمعات منذ ثورات الربيع العربي، فأحرى الاتفاق على برنامج عملي للانتقال الديمقراطي.
وفي ظل هذا الانقسام الايديولوجي والخوف المتبادل بين القوى السياسية الرئيسة في مجتمعاتنا، تعمد سياسات الاستبداد المحلي والاستكبار العالمي إلى إثارة المزيد من المخاوف بين الطوائف والجماعات العرقية والقومية والأقليات الدينية، ويصير الوضع أصعب في المجتمعات التي تتسم بالتعدد الطائفي والإثني، حيث “تثير الحرية خوف الطوائف من بعضها البعض. الأكثريات الطائفية تخاف مطالب الأقليات، وسيطرتها وسعيها الدؤوب والتلقائي لتوكيد وجودها. ولكن الأقليات الطائفية أكثر خوفاً، سيما في البلاد التي عاشت، فعلاً أو تصوراً، هيمنة الأقلية على مقادير الحكم. كل الأكثريات تثير الخوف، ولكن الخوف من الأكثرية الطائفية هو خوف مضاعف، للتداخل المستبطن في علاقات الطوائف بين المقدس، من ناحية، والسياسي الاجتماعي، من ناحية أخرى”[8].
وإذا كان الشعور بالخوف لدى الجماعات العرقية والطوائف ينمي النزاعات الداخلية في المجتمع ويعمق أزمته، فإنه يولّد تماسكا داخليا صلبا وحماية للتمايز الهوياتي ضد الآخر، يصل هذا التماسك إلى المقاومة الشرسة لأي إمكانية للتعايش والتحاور، وبالتالي يتحول إلى حالة من التعصب المفضي إلى التطرف المسلح ضد أي سلطة تستهدف التماسك الداخلي سواء أكانت سياسية أم طائفية أم عرقية.
وهكذا ينتقل مجال التدافع المدني والسياسي إلى حلبة صراع مستقطب وانقسامي بين مختلف الطوائف والجماعات والأحزاب، تَدافعٌ يستبطن استراتيجيات الاستبداد نفسها القائمة على التخوين والتخويف والتفريق، في إطار معركة الإلهاء والاستنزاف والاستفزاز، وفي ظل نموذج انتفاضي ديمقراطي لم يكتمل بعد، وهو استقطاب يقدم خدمة مجانية للاستبداد ويقوي فرص التدخل الخارجي[9].
لقد تحالفت السلطوية بأشكالها مع بعض التيارات الدينية التقليدية والعصبيات الطائفية والنخب العلمانية، إذ حصل التقاء موضوعي للمصالح والرهانات في الخوف من الحرية ومحاربة أفكارها ودعاتها، والتخويف من إقرارها وتنزيلها. كما عمدت السلطوية إلى خلق التعارض بين الحرية والأمن، وفصل خيار الديمقراطية عن نموذج التنمية خوفا من إضعاف شرعيتها وقبضتها، مقاومة بذلك أي تنازلات أو إصلاحات جزئية قد تؤدي إلى تغيير بنية النظام ونموذج الحكم القائم؛ فالتسلطية قادرة على توظيف الدين والموروث الحضاري والتقاليد لتأبيد هيمنتها، كما يستطيع الاستبداد توظيف الحداثة وقيم التنوير والعقلانية وشعار الحريات لضمان استقراره واستمراره. وبهذا المعنى تصبح السلطوية العربية بدون هوية محددة، فقد تتجسد في صورة استبداد ديني أو علماني أو عسكري أو طائفي[10].
إن إثارة هذا الوضع والاستثمار في تنمية العصبيات داخله، ثمرة موضوعية ومتوقعة لتيارات وطوائف وأحزاب “لم تتعود الحوار والتعايش. ولكن الحرية هي أيضاً العلاج الأكثر نجاعة والطريق الأقصر للتعامل مع المخاوف الطائفية والقومية والسياسية التي يولدها مناخ الانتقال من صمت الاستبداد المطبق إلى ضجيج الحرية”[11]، فرغم خطورة المراحل الانتقالية وتنامي التوترات والتعثرات المصاحبة لها، فذلك لا يبرر الحنين إلى الاستبداد والارتداد عن الحرية.
الخوف السياسي وإرادة الهيمنة
أبرز الباحث كوري روبين في مؤلفه الهام”الخوف: تاريخ فكرة سياسية”[12] بأن للخوف دورا في المجال السياسي لأي دولة، إذ تستعمله جماعات المصالح ونخب القوة وحتى السلطة الحاكمة لتحقيق أهداف سياسية ومكاسب اقتصادية، نظرا لما يمنحه للسلوك الإنساني من دوافع وحوافز وما يتيحه من إمكانات التلاعب بمشاعر الجمهور والتحكم في توجهات الرأي العام، ولذا يذهب “روبين” إلى أن الخوف يمثل مرتكزا رئيسا للسلطة حتى في الديمقراطيات الغربية باعتباره أداة فعّالة لحكم النخب المسيطرة، من خلال استراتيجيات خلق الخوف السياسي والاستهداف الخارجي[13].
يجسد الفزع من الحرية توتر طرفين يسعى كل واحد منهما إلى امتلاك الحرية لنفسه والهيمنة على الآخر أو الاستقلال عنه بشتى الأساليب، فهناك “خوف مسيطِر، يريد الحرية لنفسه، من طرف مسيطَر عليه، يريد هو أيضا أن يتمتع بالحرية. وهو في المقابل، خوف الطرف المسيطَر عليه من تحكم الطرف المسيطِر الذي لا يتورع عن استخدام التخويف والإرهاب المبرمج، لكي يحافظ على حريته وسيطرته. بهذا المعنى، الخوف من الحرية خوف أنظمة، وخوف متبادل ضمن هذه الأنظمة، بسبب علاقة السيطرة التي حاصرت الحرية من جميع الجوانب وألغت كل فسحة لقيامها وانتعاشها”[14].
عندما يصاب المجتمع بمرض “الخوف”، ينتج حالة من التردد والشلل والعقم في التدافع والرؤية والخطاب، ويؤدي ذلك إلى ضمور حاد في النقاش السياسي العمومي وإلغاء للتعددية، فضلا عن إلهاء قوى التغيير عن المطالبة بالإصلاحات وبإقرار مزيد من الحقوق والحريات وربط المسؤولية بالمحاسبة. ومقابل هذا الضمور يحدث تضخم مراكز السلطوية وتغولها على المجتمع، كما تنتج متلازمة الخوف والتخوف والتخويف إقصاء التيارات الإصلاحية والقوى الديمقراطية واتهامها بتهديد أمن الدولة، واعتماد سياسات اعتقال أي توجه نقدي، واستئصال الرأي المعارض لسياسات النظام؛ لأن استراتيجية الترويع الاستبدادية صنعت “وحشا مرعبا” لابد أن تنخرط كل مكونات الأمة وتتجند لمحاربته، وبالتالي تأجيل أي مطالب للحرية والإنصاف والتنمية.
تتحول استراتيجيات الخوف والتخويف إلى نمط من السيطرة والمراقبة للمجتمع والقوى الفاعلة والمؤثرة داخله، كما تراهن سياسات الاستبداد على أن يتحول الوضع إلى حالة مجتمعية شاملة تتسم برُهاب نفسي وتفكك ذاتي ورقابة ذاتية صارمة يمارسها أفراد المجتمع على أنفسهم، هروبا من الحرية وخوفا من الانتفاض الديمقراطي والاحتجاج السلمي المؤدي إلى تهديد الأمن والاستقرار والتنمية[15].
قد تختار السلطوية أسلوبا آخر للتخويف من الحرية عندما تتجه للاستثمار في حالة الإحباط السياسي للمجتمعات التي تعيش مرحلة الانتقال الديمقراطي، وما يصاحب ذلك من توتر التغيير وتعقد الإصلاح، وما يرافقها من ارتباك في بناء النموذج الاقتصادي الجديد وارتفاع الطلب المجتمعي على التنمية السريعة. وهكذا تتمدد السلطوية في مناخ اليأس السياسي والاحتقان الاجتماعي، موجهة مدفعها إلى فكرة التغيير الديمقراطي وتياراته، مستغلة التأخر الحاصل في تنفيذ وعوده وارتفاع سقف التطلعات الشعبية من خطاب الانتقال الديمقراطي، لتقدم المطالبة بالحريات ومناهضة الاستبداد خيارا مأزوما جالبا للفوضى والتطرف وسوء أحوال المعيشة، وتجعل من ذلك مبررا للتراجع عن مكتسبات الحرية وإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة.
قد يصل بيع الخوف إلى محاولة تشكيل وعي الفرد ليحب العبودية ويختارها طوعا[16]، ولعل هذا ما حاول “إريك فروم” التنبيه إليه، مفسرا غياب الحرية وانعدامها بكونها ليست نتيجة حتمية لفساد المؤسسات السياسية أو تفكيك البنيات الاجتماعية فقط وإنما راجع أيضا إلى ذات الإنسان الذي قد لا يختار الحرية ويتنازل عنها من أجل وهم الأمن والبحث عن السعادة والمتعة، ولذلك قد تتشكل لديه سيكولوجية الهروب من الحرية وعدم القدرة على تحمل كلفتها ونتائجها ويهوى الانغماس في الحكم الاستبدادي والتماهي مع ذات المستبد والهروب إليه بوصفه ملاذا آمنا من عبء تحمل المسؤولية، باحثا عن المتعة وفارا من الألم[17].
وإذا كان من شروط الحرية ومكوناتها الرئيسة توفر الوعي والإرادة وتعدد الخيارات مع إمكانية الاختيار المرتبط بالمقدرة على تنفيذه، فإن عزمي بشارة يعتبر الإنسان يكتسب “الحرية مع نمو الوعي والإرادة”[18]، لأنها في نظره صيرورة تبدأ منذ لحظة اكتسابه للقدرات العقلية والإرادة. وإذا كان الأمر كذلك فإن التحرر بوصفه “عملية ذهنية وعقلية يجعل الحرية في مجال ما حاجة يتوق الإنسان إلى تحقيقها”[19]، شرطه المحوري “هو وعي الحاجة إلى الحرية، أي وعي نقصها، ثم فعل شيء من أجل تحقيقها”[20]. ولعل هذا ما عبّر عنه الكواكبي عندما أكد على مسألة شعور الأمة بآلام الاستبداد ومعضلاته شرطا لاستحقاق الحرية وتقدير قيمتها، ومن ثم اعتبر بأن الحرية النافعة للأمة “هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها”[21]؛ أي لابد من إحداث حالة نفسية واجتماعية وفكرية وسياسية لتنشئة إنسان يتخلص من القابلية للاستبداد ويتهيأ لطلب الحرية؛ إنسان يطمح لعالم أفضل متسام على الواقع ومؤمن بحلمه بانتزاع حريته التي هي أساس وجوده.
ولذلك يرى ناصف نصار أنه”من الطبيعي أن ينزع الإنسان إلى حياة الحرية ويسعى إلى تحقيق إنسانيته بها، وأن يخاف في الوقت عينه من عبء الحرية، وهو حقا عبء كبير لا يتساوى الناس في القدرة على حمله، بحيث إنه ليس بمستغرب أن يرد التفكير في التخلص من متاعبه بالتخلي جزئيا عنها”[22]. بهذا يتلاعب الاستبداد بمعتقدات الفرد والمجتمع ليصبح الخضوع خيارا آمنا يحميه من “خطر الحرية”، ويوهمه بأن ما يحقق أمنه وخبزه ومصلحته هو الرضوخ التام والتسليم له؛ وعلى الرغم من ذلك يظل التلاعب بالناس حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر لا إنساني، عند بيغوفيتش، فلا يجوز أن نفكر نيابة عن الناس ولا أن نحررهم من مسؤولياتهم والتزاماتهم[23].
إن التحريض ضد الحرية والتخويف من الديمقراطية وتسويق الخوف، يجسد إصرارا لسياسات الإهانة التي تنهجها السلطويات تجاه الشعوب المنتفضة والحركات الاحتجاجية من أجل الكرامة والحرية، وإمعانا في نهج الإقصاء من المشاركة في الشأن العام. وإذا كان الأمر كذلك، يصبح الاستثمار في الخوف محققا لمكاسب سياسية أو داعما لإيديولوجيات دينية وسياسية همّها القمع الناعم والقهر الصلب لضبط المجتمع.
ختاما،
لا يمكن اعتبار سياسات الاستبداد في منع الشر وتنميط المجتمع عملا أخلاقيا مهما كان مضمون المنع وقيمته، في حين تبقى اختيارات الديمقراطية عملا أخلاقيا “حتى عندما تسمح بحدوث الشر. فالسلوك الحر وحده السلوك الأخلاقي. أما الديكتاتورية فبنفيها للحرية، وبالتالي نفيها لإمكانية الاختيار، فإنها تنطوي في أصلها على نفي الأخلاق”[24] كما ردد بيغوفيتش، وهذا ما يؤكد أن للحرية كلفة وأن الديمقراطية مسؤولية أخلاقية نابعة من إرادة حرة قادرة على تحمل جميع نتائجها المحتملة؛ فعندما وهب الله الحرية للإنسان وحمّله الأمانة وأنذره بالعقاب، تركه يجاهد نفسه بدلا من أن يقوم بواجبه نيابة عنه[25] في اختيار مصيره وتحمله مسؤولية قراره.
وبهذا المعنى لا يكون دور الحرية والديمقراطية صناعة القائد المعصوم من الفشل وإنما رفض القائد المستبد؛ ففي الحالة الديمقراطية يكون احتمال الخطأ واردا في البرامج والسياسات لكنها قابلة للمراجعة والتصحيح والنقد على أي حال. أما في الحالة السلطوية فنكون أمام سياسات غير قابلة لا للمراجعة ولا للتصحيح ولا للنقد حتى وإن كانت خاطئة ومدمرة للوطن، بل تقابِل كل من سولت له نفسه بمناقشة خياراتها بالرفض والزجر إما تهديدا أو تنفيذا، في حين يبقى المطلوب من الحكم الديمقراطي ألا يَستبد لا ألا يَفشَل.
يتعين على قوى التغيير والتحديث الانخراط الفكري والتربوي والسياسي في التخويف من خطورة الحكم غير الديمقراطي، ومن نزعة الانفراد بالرأي واحتكار السلطة، وهذا يقتضي منها إعادة الثقة في الحرية والتبشير بمزاياها والصبر على ثمارها. فلا مجال لتوطين الديمقراطية، ما لم يولد الإنسان الحر المجاوز لكل من نفسية العبودية ونفسية الاستعباد، فالديمقراطية قيمةٌ أساسها تحرير الإنسان من كل شعورٍ استعباديٍّ أو قابلٍ للعبودية. فتلقيح الإنسان والمجتمع وتحصينه من نزعات الاستبداد والاستعباد هو الكفيل بضمانات عدم عودة النماذج الفاشية أو النازية في صيغ شمولية جديدة[26]. الأمر الذي يقتضي مأسسةَ رفض الإقصاء وفتح الفضاء العمومي لكلّ المكوّنات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، بوصفه شرطاً لازماً لإقرار الحريات وإحداث التحول الدّيمقراطي المنشود.
مهما كانت درجة الصراعات السياسية والانشقاقات الدينية والطائفية التي تخترق مجتمعاتنا، فلا يُعالج الوضع بقمع التنوع وإلغاء التعددية، وإنما بالتوعية الفكرية والسياسية بضرورة الحريات بوصفها تحررا من ألم الطائفية والتعصب إلى أمل الديمقراطية والمساواة والتعايش، ومن ضيق الاستبداد إلى رحابة الحرية. فبدل تكريس الخوف من الاختلاف الديني والتمايز العرقي والتنوع اللغوي والاستثمار السلبي فيه، ينبغي إرساء الحريات بقبول الاختلاف مصدر قوة وغنى وطريقا للمواطنة والاستقرار.
ستظل قضية الحرية موضع نقاش واشتباك دائم فلسفيا واجتماعيا وسياسيا، لا بوصفها تساؤلا أكاديميا باردا ومعزولا عن هموم المجتمع وإنما ضرورة حيوية، لتخليص الإنسان من أسر الانشغال بحاجياته ومتطلبات عيشه ورغباته الاستهلاكية، والسمو بتطلعاته وأشواقه نحو الشعور بالكرامة وبتقرير مصيره بوصفه كائنا أخلاقيا حرا يصنع التاريخ ويكسر حتميات المادة. ومهما تنوعت أشكال النظر إلى الحرية واختلفت زوايا مقاربتها والانشغال بها – سواء أكانت شعارا أم مفهوما أم سلوكا- فسيبقى التفكير فيها والبحث المتعدد الأبعاد حولها، أداة لتعميق الوعي بمسألة الحرية وجعلها تتصدر أولويات الجدل المجتمعي والحضاري[27].
الهوامش:
[1] تم نشر هذه الدراسة سابقا بمجلة أواصر الدولية، العدد الخامس، سنة 2019، (ص26-37)، وننشرها حاليا في موقع معارف مع بعض التعديل.
[2]يمكن الرجوع في هذا السياق إلى بعض رموز التجديد الفكري داخل الحركة الإسلامية الذين انشغلوا في أعمالهم بإنجاز مصالحة بين الإسلام والحرية، ودرء التعارض بين التدين والديمقراطية ومحاولة تكييف الأفكار السياسية الغربية مع المنظومة الإسلامية، ونخص بالذكر: أعمال راشد الغنوشي حول الحريات العامة في الدولة الإسلامية، الطبعة الأولى (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993). وكتابه في موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، الطبعة الأولى(بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون ومركز الجزيرة للدراسات، 2017)، وأيضا مقالته بعنوان: “الحرية أولا” المنشورة بموقع الجزيرة نت. ويمكن الرجوع أيضا إلى: حسن الترابي في مؤلفه تجديد الفكر الإسلامي، الطبعة الأولى (سلا: دار القرافي للنشر والتوزيع، 1993). وأيضا حواره مع حسن عبد الله في موضوع: فــقــــه المـــرحلة والانتقال مـن المبادئ إلى البرامـج ضمن الكتاب الجماعي: فقه الدعوة ملامح وآفاق، ج2، سلسلة كتاب الأمة، إعداد: عمر عبيد حسنه، الطبعة الأولى (الدوحة: منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1988).
[3] محمد الأحمري، الديمقراطية: الجذور وإشكالية التطبيق، الطبعة الأولى (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012)، ص16.
[4]علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية: أوراق السجن 1983-1988، ترجمة: محمد عبد الرؤوف، الطبعة الثانية(القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2016)، ص116.
[5]علال الفاسي، الحرية، منشورات لجنة إحياء تراث زعيم التحرير، الطبعة الأولى (الرباط: مطبعة الرسالة، 1977)، ص69-70.
[6]راجع: سلمان بونعمان، أسئلة دولة الربيع العربي: نحو نموذج لاستعادة نهضة الأمة، الطبعة الأولى (بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2013).
[7] بشير موسى نافع، “الخوف من الحرية وصناعته”، منشور بالموقع الالكتروني لجريدة القدس العربي، بتاريخ: 27 يوليو2011.
[8] بشير موسى نافع، “الخوف من الحرية وصناعته”، مرجع سابق.
[9] سلمان بونعمان، “الدين والدولة بين طائفية النموذج وعائق الصراع”، منشور بالموقع الالكتروني لمنتدى العلاقات العربية والدولية، بتاريخ: 21 شتنبر 2015.
[10] سلمان بونعمان، “الدين والدولة بين طائفية النموذج وعائق الصراع”، مرجع سابق.
[11] بشير موسى نافع، “الخوف من الحرية وصناعته”، مرجع سابق.
[12] أصل الكتاب أطروحة للدكتوراه تقدم بها الباحث كوري روبين لجامعةِ ييل سنة 1999، وصدرت ضمن منشورات جامعة أوكسفورد بالإنجليزية سنة 2004:
Fear : The History of a Political Idea, Oxford University Press.
وقد صدرت ترجمته الفرنسية سنة 2006:
Corey Robin, La Peur : Histoire d’une idée Politique, préface de Philippe Braud, Ouvrage Traduit de l’anglais par Christophe Jaquet, Paris, Armand Colin, 2006.
[13]Corey Robin, Fear, p4-25/p249-252.
[14]ناصيف نصار، باب الحرية: انبثاق الوجود بالفعل، الطبعة الثانية (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2013)، ص78.
[15] انظر في هذا الصدد: سلمان بونعمان، “المشروع الإصلاحي للعدالة والتنمية: معالم الأزمة وآفاق التجاوز”، منشور على موقع العمق المغربي بتاريخ 12 ديسمبر 2017، على الرابط الآتي:https://al3omk.com/254816.html
[16] راجع في هذا الصدد:
Étienne de La Boétie, Discours de la servitude volontaire,(Paris : Éditions Payot, 2002).
[17]علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية، مرجع سابق، ص127 وص129 وص151 وص200. انظر أيضا: محمد الأحمري، نبت الأرض وابن السماء: الحرية والفن عند علي عزت بيجوفيتش، الطبعة الأولى(الرياض: العبيكان للنشر، 2010)، ص46 وص57. وراجع أيضا إريش فروم في عمله الهام: الهروب من الحرية، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، الطبعة الأولى (دار الحوار للطباعة والنشر والتوزيع، 2016)
[18] عزمي بشارة، مقالة في الحرية، الطبعة الأولى (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص31.
[19] عزمي بشارة، مرجع سابق، ص32.
[20] عزمي بشارة، مرجع سابق، ص31.
[21]عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، الطبعة الأولى (مصر: دار البشير للثقافة والعلوم، 2014) ص 168وص169.
[22]ناصيف نصار، باب الحرية، مرجع سابق، ص79.
[23]علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة: محمد يوسف العدس، الطبعة الأولى (الكويت: مجلة النور الكويتية ومؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات، 1994)، ص89.
[24]علي عزت بيجوفيتش، هروبي إلى الحرية، مرجع سابق، ص116.
[25]علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص89، بتصرف.
[26]مالك بن نبي، تأملات، سلسة مشكلات الحضارة، تحت إشراف: ندوة مالك بن نبي، طبعة 2002 (سوريا: دار الفكر المعاصر، 2002)، ص70-71 وما بعدها.
[27]انظر: عبد الله العروي، مفهوم الحرية، الطبعة الخامسة (الدارالبيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، ص141 وص137.