تشكل هذه الدراسة انخراطاً في النقاش الدائر حول إشكال العلاقة بين الدين والدولة ما بعد الحراك الانتفاضي، محاولاً التفاعل النقدي مع النماذج الفكرية السائدة حول المأزق المزمن للدين والعلمانية والدولة الحديثة بين التوجهات الإسلامية والعلمانية، فقد أعادت الانتفاضات العربية الاستقطاب من جديد حول هوية الدولة وطبيعتها وعلاقتها بالدين، وشهدت بلدان الربيع العربي تدافعا فكريا وتوترا سياسيا لترتيب المراحل الانتقالية، والتفكير في بناء الدولة العربية الحديثة على قواعدَ ديمقراطية، خصوصاً في لحظات إعادة تأسيس البنية الدستورية.
غير أن هذا الجدلَ اتسم بضعف النقاش الفكري المؤطر له، وغلبة المنطق السياسي والانتخابي الضيق في الحجاج على التأصيل النظري والمعرفي والمنهجي، مما أنتج صراعات حادة حول منطق الحكم والتدبير من جهة، وقضايا الحريات الفردية والحقوق المدنية من جهة أخرى. ويرجع هذا الجدل أساساً لعدم التحرير المنهجي والمعرفي للمصطلحات والمفاهيم الحاكمة، والخلط بين المجالات التداولية، بين الفكر السياسي الغربي والفكر العربي الإسلامي، الأمر الذي يتطلب تحرير مجال النزاع، وكذا طبيعة الإشكالات، ورصد علاقة الدولة بالهوية وبأسئلة النهضة والإصلاح، وإدراك ما سيخلفه هذا النزاع غير الصحي لعقليات الصراع حول السلطة وامتلاكها من آثارٍ حضاريةٍ سيئة في إعادة إنتاج أخلاق الاستبداد والانحطاط.
أنماط الخطاب وتوتر النماذج
إن أحدَ الأعطاب القاتلة في نسق التفكير العربي والإسلامي المعاصر، هو داء الإطلاقية، والعصبية التي تصدر عن النخبة الحاملة لمشاريع التغيير والإصلاح سواء الإسلامية أم العلمانية، فضلاً عن آفة الانغلاق المذهبي والطائفي حول الذات، والتوجه نحو مصادرة حق الآخر والسعي لإلغائه واستئصاله، الأمر الذي أنتج قصورا في القراءة العميقة والحكيمة والمركبة للواقع المعاصر، في تحولاته التاريخية والحضارية وتعقيداته الداخلية وإكراهاته الدولية، وقد أفضى هذا الأمر إلى بروز معضلة فكرية نطلق عليها مأزق “الأطر التصنيفية” بوصفها عائقا حقيقياّ أمام كلّ تفكير سليم وهادئ ينجز نمطا من الانفتاح الاستيعابي التفاعلي النقدي لمختلف النماذج الفكرية والأنساق السياسية.
ويعد تبني مفاهيم “الدولة الإسلامية” و”الدولة المدنية” و”الدولة العلمانية” و”دولة الخلافة” و”دولة الشريعة” بعض تجليات هذه الأزمة الفكرية العميقة التي طالت الفكر العربي المعاصر منذ قرنين من الزمان، إذ تعبر عن حجم النزاع والصدام الذي صاحب التفكير المتشنج في العلاقة بين الدين والدولة، وبين الديني والسياسي في المجال العربي، سواءً في مقاربتها التحليلية التاريخية، أم في النظر لطبيعة الدولة الراهنة، ونمط شرعيتها، وصيغ الاندماج فيها، أم بناء المواقف والاختيارات الحضارية، أم في العلاقة مع سؤال النهضة العربية المجهضة وحلم استعادة الخلافة.
لقد تراوحت الخطابات التي تناولت إشكالية الأسس الأخلاقية والأطر المرجعية في بناء الدولة في المجتمعات العربية الإسلامية، بين الدعوة إلى القطيعة الجذرية مع التراث الديني والانفصال الكلي عن الموروث التاريخي والثقافي والحضاري، مقابل التماهي مع التجربة الحداثية الغربية وبين محاولات الوصل المطلق أو الاستماتة على فقهٍ سياسيٍّ سلطاني تقليدي، بالإضافة إلى خيارات تبحث عن التوفيق بين المنظومة السياسية الإسلامية ونسق الحداثة السياسية والتكيف مع تجارب الأمم والإفادة منها.
علمانية أم علمانيات
لقد تبلور ذلك أساساً في خيارين رئيسين:
الخيار الأول، يعتقدُ أن الحلَّ لبناء الدولة العربية الحديثة يرجع إلى تبني العلمانية بوصفها عقيدة ومرجعية نهائية للدولة، وحلاّ وحيدا لا بديل عنه لكل المشاكل التي تتخبط فيها المجتمعات والنظم السياسية العربية من توترات طائفية ونزاعات هوياتية وتوجهات متطرفة. وهي في هذا السياق لا تقيم أيَّ اعتبار لدور الدين ومرجعيته الأخلاقية والثقافية سوى أن يكون شأنا شخصيا. وهكذا يصدر التيار العلماني عن خيارٍ يتغافل عن معطيات الواقع العربي، ويحاول تعميم المشكل من إطاره الخاص إلى العام (أي المجتمعات العربية كلها)؛ ذلك أن “مشكلة العلاقة بين الدين والدولة كما نقلت إلى المجال العربي لم يتم بعد تبيئتها تبيئةً ملائمةً في الواقع العربي الفكري والحضاري كي تصبح معبرة بالفعل عن همومه وتطلعاته، وليس عن هموم وتطلعات الواقع الأوربي الذي نقلت منه”[1]، كما يؤكد الجابري في معرض معالجته لهذه الثنائية بأنها ثنائيةٌ مزيفةٌ “لأنها تخفي مشكلة أخرى حقيقية بصورة نسبية هي مشكلة الطائفية في بعض الأقطار العربية، وهذه المشكلة تعكس حقيقة نسبية فقط، لأنها لا تعم الوطن العربي كله، وإنما يراد منها أن تنوب عن حقيقة كلية هي غياب الديمقراطية السياسية والاجتماعية في الوطن العربي من الخليج إلى المحيط”[2].
ورغم ذلك نجد داخل الخطاب العلماني نفسه، مقاربات متفاوتة من حيث رؤيتها للعلمانية مسارا ومفهوما ونموذجا ومدى حاجة المجتمعات المسلمة إلى العلمنة، ومناهج تطبيقها وأسلوب تدبير العلاقة بين المؤسسات الدينية والسياسات العامة للدولة، وموقع الدين في الفضاء العام. لقد عرف الخطابُ العلماني، مراجعات نقدية على عدة مستويات سواء من داخل مرجعيته أم من خارجها، منها على سبيل الذكر لا الحصر: مسألة توصيف أنماط العلمانيات، وتعدد نماذجها الفكرية والتاريخية والتطبيقية في التجربة الغربية ذاتها، وتفاوت موقفها من حضور الدين وتأثيره المجتمعي والسياسي. إذ لاحظت هذه التوجهات النقدية وجود تباين واضح بين سياسات الدولة إزاء الدين في كل من الولايات المتحدة، وفرنسا وتركيا. ففي النموذج الأمريكي مثلا، يسمح للطلاب بإظهار رموزهم الدينية وأداء قسم الولاء للبلاد الذي يتضمن عبارة “أمة واحدة، إله واحد”؛ كما تسود نظرة رسمية عامة واضحة المعالم إزاء الدين، حيث تظهر عبارة “نثق بالله” على واجهة العملة الأمريكية، كما جرت العادة على أن يتضمن القسم الرسمي، بما في ذلك أداء الرئيس لليمين الدستورية، على عبارة “ليكن الله في عوني”، وغالبا ما يصاحب ذلك وضع اليد اليسرى على الكتاب المقدس، كما تستهل جلسات الكونغرس بتلاوة الصلاة، كما تفتح جلسات المحكمة العليا بدعاء “حفظ الله الولايات المتحدة والمحكمة الموقرة”، وحتى في ما يتعلق بقضايا السياسة الأخرى، يسود خطاب إيجابي إزاء الدين في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين ترتبط التعاليم الدينية في المدارس التركية ارتباطا مباشرا برغبة الدولة في التحكم في مسألة الديانة، مع وجود دينامية اجتماعية وتعليمية لدى الجماعات الدينية التركية وحضورها المدني والمؤثر في المجال العمومي؛ في حين تقدّم الحكومة الفرنسية التمويل للمدارس الدينية الخاصة طالما قامت هذه المدارس بالتوقيع على عقد يقضي بقبولها سلطة الدولة عليها[3].
وهذا ما حذا بالباحث “أحمد كورو” إلى تحديد نمطين من العلمانية هما: العلمانية الحازمة والعلمانية السلبية، فالأولى تؤدي فيها الدولة دورا مقاوما للدين، تهدف إلى إقصائه من المجال العام، وهذه أيديولوجيا فرنسا وتركيا الكمالية. أما الثانية فتقبل بحضور الدين في المجال العام وهذه هي أيديولوجيا الولايات المتحدة. وهكذا تؤدي الدولة في نمط العلمانية الحازمة دورا صارما يتجلى في استبعاد الدين من المجال العام، وحصره في نطاق الشأن الخاص، في حين تقوم الدولة في نمط العلمانية السلبية بدور سلبي يفسح المجال أمام فكرة بروز الدين في المجال العام؛ ومن ثم يخلص “كورو” إلى أن العلمانية الحازمة هي عبارة عن عقيدة شاملة، بينما تعطي العلمانية السلبية الأفضلية لموقف الدولة الحيادي حيال العقائد والأديان والحركات الاجتماعية الدينية[4]. وعليه، فلا يمكن الحديث عن نموذج أحادي للعلمانية، بل نحن أمام علمانية جذرية صلبة تتسم بطابعها الكفاحي تجاه الدين، ورفضها لحضوره الجماعي وتأثيره في المجتمع والسياسات، وبين علمانية تتأرجح بين الحيادية والسلبية، وفي بعض الأحيان تبني أيديولوجيا دينية معينة (اليمين المسيحي المحافظ) في الخطاب السياسي وحتى الانتخابي، وبروز الكنيسة كفاعل مؤثر في السياسات العمومية.
وفي العموم يخضع تطور النموذج العلماني ومساراته إلى استراتيجيات الفاعلين في النسق السياسي والديني والمدني وطبيعة موازين القوى، وحجم التفاعل والصراع بينها في المؤسسات التشريعية والدستورية، ولأشكال الحراك الشعبي والمجتمعي الذي قد يبرز في شكل تدافع بين القوى المدافعة عن العلمانية الصلبة والقوى المنحازة إلى التيار الديني بمختلف أنماطه.
الخطاب الإسلامي وسؤال الدولة الحديثة
يؤمن الخيار الثاني، بأن أزمةَ الدولة العربية وارتباكَها وتفكيكها ناتج عن تعطيلها لحكم الشريعة وابتعادها عن قيم الإسلام، مع لحظة سقوط الخلافة العثمانية ومؤامرة إلغاء منصب الخلافة، وأن الخلاصَ يقتضي إعادة بنائها في ضوء الأسس التي قامت عليها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، مقدما قراءات متنوعة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والتجربة السياسية التاريخية، وطارحاً مقولة “الدولة الإسلامية” المرتكزة على مقولة الحاكمية أو إحياء “نموذج الخلافة” القائمة على الدين بوصفها المخرج من الحالة الجاهلية التي يشهدها عالم العرب والمسلمين، وهو قد يستعيد نموذجَ الدولة الإسلامية في أشكالها التاريخية، على اعتبار أن النموذج السياسي الإسلامي نابع من فهم شمولية الإسلام وفاعلية الدين في قضايا الاجتماع السياسي والإنساني، كما يوجد توجه يهدف إلى تبني فكرة أسلمة الدولة الحديثة وإضفاء الطابع الديني والأخلاقي على بيروقراطيتها وهياكلها.
بدوره تعرض هذا الخطاب لمراجعات فكرية ومنهجية من الداخل الإسلامي، كما عرف تطورا ملحوظا في مفاهيمه وتدقيقا لأطروحاته وتصوراته الفكرية والسياسية، خصوصا مع تيار الإسلام التنويري، في تبيئة مقولة “الدولة المدنية الغربية” وإجراء المصالحة بين الإسلام والديمقراطية، ونقد الخيارات الإسقاطية لتجربة تاريخية مُتعينة على الواقع المعاصر، والمحاولات الطوباوية لاستعادة حلم الخلافة بشكل معطوب، لا يميز بين القيم الملهمة والمرجعيات الحاكمة والأشكال التنظيمية، فيعجز عن فك الارتباط بين واقع التجربة التاريخية للنموذج السياسي الإسلامي سواء في تجربة الخلافة الراشدة أو السلطانية من جهة، وروح الإسلام الدافعة وقيمه الحضارية ومبادئه الخالدة من جهة أخرى.
وهكذا يكون التوجه هو إعادة بناء الدولة الإسلامية المعاصرة في ضوء الخصوصية الإسلامية الحضارية مع الانفتاح خبرات الأمم الأخرى ومكتسبات التحديث السياسي والدستوري والقانوني، واستيعاب تحولات العصر، فضلا عن التجديد الثوري والنقدي للتراث السياسي الإسلامي والتفاعل النقدي مع منظومة الحداثة الغربية، لإبداع الحلول العملية لمشاكل الحاضر وقضاياه وإشكالاته، لا الاستغراق في إشكالات الماضي، وهذا ما برز في التوجه نحو أولوية التركيز على بناء الدولة الديمقراطية وإقرار شكل من التمييز لا الفصل بين الدين والسياسة والتأكيد على مدنية السلطة في الرؤية الإسلامية.
وقد حكم تطور الخطاب الإسلامي المعاصر، تحولات الواقع واختلاف ظروف التكوين والتنشئة وخصوصيات كل تيار إسلامي وطبيعة النسق السياسي العربي ومستويات انفتاحه وإدماجه للإسلاميين، كما شهد الخطاب الإسلامي مراجعات حادة للعديد من المقولات الحاكمة لتفكيره السياسي وتجديدا في رؤيته لقضايا التغيير والإصلاح وقضايا الديمقراطية والمواطنة والحريات.
لقد عرفت سنوات ما قبل الربيع العربي انفتاحا نسبياّ بين الطرفين العلماني والإسلامي، إذ “نجد بعض المفكرين العلمانيين دعوا إلى بلورة نموذج علمانيّ مؤمن متصالح مع الدين، كمحمد الشرفي في تونس على سبيل المثال، في حين ذهب بعض الإسلاميين كالمفكر الراحل عبد الوهاب المسيري[5] إلى التمييز بين العلمانية الجزئية التي لا تتصادم عقدياّ مع ثوابت الدين، والعلمانية الشاملة التي تستند إلى أرضية حضارية وتصورية منافية للدين، أسسها العقلانية المادية والنزعة الصراعية الداروينية، وذلك ضمن أفق حداثيٍّ جديد يستخدم عُدة نظرية ومنهجية رصينة، هي أقرب إلى أدبيات اليسار الأوربي واتجاهات العولمة البديلة والحداثات الهجينة، وهو منحازٌ لذلك باسم الاستراتيجية النظرية المستقلة، كما برز اتجاهٌ واسعٌ ضمن الجاليات المسلمة في الغرب يقوده المفكر طارق رمضان[6] يحاول التأسيس لتصالح بين النظم العلمانية الغربية وممارسات التدين الإسلامي، بنوعٍ من الاستيعاب النظري والمنهجي والعملي لتجارب العلمنة في التجربة الغربية”[7].
سؤال الدين والدولة ما بعد الحراك الانتفاضي
مع اندلاع الربيع العربي وتداعياته السياسية والإقليمية والجيواستراتيجية، انجرت النخبة الفكرية والسياسية إلى مستنقع الانقسام الهوياتي وخلق استقطاب إسلامي علماني، أنتج تناقضات طائفية ومذهبية وتقسيم الوضع بناء على محور “نحن” و”هم” والتسرع في خيار الحسم الانتخابي لتصدر موقع تدبير السلطة دون أي وعي استراتيجي وفكري وسنني بفقه المآلات، ووعي موازين القوى المحلية والدولية، إذ أسهم هذا الوضع بين الفاعلين الرئيسيين في المشهد الثوري إلى إحداث شرخ مجتمعي وتشقق هوياتي لم يحصن مكسب الثورة ومقاصدها الكبرى، بل حولها إلى ساحة لإبادة الطرف المخالف واغتياله الرمزي والمعنوي، بل شكل كل ذلك ثقافة سياسية هشة لها القابلية للاستبداد ومنح قوى الثورة المضادة فرصة لإعادة التحكم في المشهد، بعد أن تحول التناقض الرئيسي من استبداد مركب مقابل حكم ديمقراطي مدني إلى تناقض: طرف “ديني ضد علماني”؛ فقد كان الأولى الوعي بأن المعركة الحقيقية ما بعد الانتفاضات هي مع نماذج الدولة العسكرتارية والدولة المستبدة والدولة الطائفية القبلية والدولة البوليسية، فضلا عن نموذج الدولة المستوردة التابعة والدولة القطرية التحديثية.
مآلات الاستقطاب الهوياتي
لا يمتلك الانقسام الهوياتي بوصلة استراتيجية، ولا آليات أو برامج لتحقيق الانتقال الديمقراطي، ولا يسمح ببناء توافقات تاريخية ومراجعات فكرية، بل يُسقط التدافع المدني والسياسي في حلبة صراع يستعيد فيه استراتيجيات الاستبداد نفسها، القائمة على التخوين والتشويش والتخويف والتفتيت، في إطار معركة الإلهاء والاستنزاف والاستفزاز في ظل نموذج انتفاضي ديمقراطي لم يكتمل بعد، وهو استقطاب في العمق يقدم خدمة مجانية للاستبداد والتغول ولاستراتيجيات التدخل الخارجي، الساعي إلى إجهاض حلم الانتقال الديمقراطي وتحرير إرادة الأمة.
لم يسمح هذا الاستقطاب بتحول المجال العام والبنيات السياسية إلى حالة من التعددية والتنافسية السلمية، على البرامج والاختيارات والآراء والتصورات، والسياسات الأقدر على تجسيد مصالح الوطن والمجتمع ككل، وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة المواطنية والحريات التي نادى بها الحراك الانتفاضي الشبابي أساسا. إذ لم تنتبه النخب الإسلامية والعلمانية الوطنية إلى أن التعددية السلمية تكون داخل الفضاء المواطني نفسه وليس خارجه، وهي تعددية داخل الخيار الديمقراطي ومع القوى المؤمنة بالجبهة الديمقراطية، ضد النسق الاستبدادي الذي لا هوية له، فقد يأتي في صورة استبداد ديني أو علماني أو عسكري أو مذهبي طائفي، فالاستبداد قادر على توظيف الدين والموروث الحضاري والتقاليد والأعراف لتأبيد هيمنته، كما يستطيع توظيف نسق الحداثة وقيم التنوير والعقلانية والحريات لضمان استقراره واستمراره.
وهكذا كانت النتيجة، فشلا ذريعا في الوعي بآليات الهيمنة والتغول والابتلاع الخطيرة التي يتسم بها منطق الدولة الحديثة وبيروقراطيتها وتاريخها، فبالأحرى الشروع في ترويض وحش الدولة العميقة الاستبدادية وبناء خطة جماعية لاجتثاثه، كما لم ينجح الفاعلون في تدبير توافقات تاريخية كبرى لبناء الأرضية الدستورية والسياسية لبناء الدولة الديمقراطية، فأنتج ذلك وأد المشروع الديمقراطي العربي وإجهاض الانتفاضة الديمقراطية، لصالح مشهد جديد تأطر بطغيان ثلاثة نماذج سياسية:
- النموذج الطائفي القبلي.
- النموذج العسكرتاري.
- النموذج التقليدي المحافظ.
هذه النماذج السياسية الثلاثة، توظف الأيديولوجيا الدينية والعلمانية معا وتنشئ تحالفات دينية وثقافية وسياسية وإقليمية من أجل بقاء النسق الاستبدادي العربي، كما تنتج استراتيجيات داخلية وخارجية لتحريف خارطة التدين في المجتمعات العربية، والانخراط في تأويل سلطاني وتقليداني للدين حتى لا يكون قيدا على الاستبداد الظاهر والخفي، والحرص على إفراغ التيارات الديمقراطية الوطنية من مضمونها التاريخي والنضالي، لصالح استمرار النزوعات التطرفية والعصبية والصراعية والانقسامية، لتبرير شرعيتها ومشروعيتها في الحكم القائمة على الحفاظ على الأمن والاستقرار.
وعي طبيعة الصراع
كان لابد على النخب الحاملة للتغيير والتثوير من إدراك طبيعة الصراع القائم في دول الربيع الديمقراطي، المتمثل في نموذج الدولة العربية المنشود، فضلا عن الوعي بأن المرحلة تستوجب تطلعا كفاحيا جماعيا لبناء كتلة ديمقراطية جامعة، تستكمل تفكيك الأنماط الاستبدادية المركبة التي استحكمت في الدولة العربية الحديثة. فلا تزال دول الربيع العربي تسعى إلى التخلص منها أو تفجيرها من الداخل، كحضور النمط الريعي أو العسكري أو النمط الأبوي أو النمط الزبوني أو باقي الأنماط التسلطية التي قد تفسر طبيعة الدولة العربية بعد الاستعمار؛ فلا يمكن إدراكها إلا بوصفها نسقاً معقداً فيما ترتبط بطبيعتها وكينونتها وفكرتها وعلاقتها بالمجتمع، فنحن أمام دولة ما زالت تتصارع فيها قيم الثقافة الديمقراطية والأصولية العسكرية والاستبدادية والدينية والعلمانية.
وفي الأخير نؤكد على أنه داخل نسق تفكير كل من الخطاب الإسلامي والعلماني المعاصر؛ جبهة معتدلة ومتفهمة لمطالب الآخر وواعية بتعقد علاقة الدين والمجتمع والسياسة وتقرّ بدور ما للدين في المجال العام، كما أنها بعيدة عن العدمية والشخصنة وعمى الأدلجة وطائفية الذات واستعلاء الفكرة، مما يقتضي استثمار هذا المشترك الكامن فيهما معا، المرتكز على الخوف من رجوع الدولة الدينية أو الدولة الاستبدادية التسلطية، والانخراط في التفكير الجماعي لتأسيس نموذج جديد للسلطة مجاوز لمأزق نموذج دولة ما بعد الاستعمار. وهذا يتطلب من جبهة الاعتدال جهدا ممتدا ومعقدا ومثابرا في إنجاز التحول التاريخي/ الحضاري من نموذج “الدولة ضد الأمة”(المتغولة على المجتمع)، إلى نموذج “الدولة في خدمة الأمة”(الدولة العادلة والفاعلة والقادرة)، متجاوزين مأزق “الدولة الرخوة/الفاشلة” و”الدولة البوليسية/القمعية” ومتجنبين فوضى الانهيار أو الطائفية أو التقسيم.
في الحاجة إلى الحوار الإسلامي العلماني
يقتضي نجاح هذا الأمر، الوعي المركب بضرورة بناء جسور للتواصل والحوار بين التيارين الإسلامي والعلماني، لتجاوز حالة الاحتراب وتوسيع قاعدة الاعتدال من أجل بناء أرضية مشتركة تؤسس لتوافقات تاريخية وكتلة ديمقراطية تاريخية جامعة، تحمي الخيار الديمقراطي وتنخرط في إصلاح جذري، وتعيد التقسيم السليم بين من ينحاز للصف الديمقراطي الإصلاحي الوطني وبين من يختار جبهة الاستبداد الخفي والناعم. كما يطرح بإلحاح هذا الحوار ضرورة عودة أهل الفكر إلى وظيفتهم النقدية والعضوية والعمومية، وتأسيس السياسة العربية على الثقافة والمعرفة، واستعادة المثقف لتأثيره في الفضاء العمومي وإنتاج الأفكار الخلاقة، وفك الحصار على كتابات وطروحات تتمتع بالتجديد والانفتاح النقدي الاستيعابي لدى الطرفين، وتتميز بالإنصاف والنزاهة الفكرية والصرامة العلمية، وتبتعد عن التعصب الحزبي والعمى الأيديولوجي.
————————————-
[1] الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، سلسلة الثقافة القومية 29، الطبعة الأولى (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996)، ص59.
[2] نفسه، ص107.
[3] انظر: أحمد كورو، العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، ترجمة ندى السيد، الطبعة الأولى (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2012).
[4] نفسه.
[5] يمكن الرجوع إلى العمل الرائد للمفكر الراحل عبد الوهاب المسيري رحمه الله، حول العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الطبعة الثانية(القاهرة: دار الشروق، 2005).
[6] من أهم الأعمال التي أنجزها المفكر طارق رمضان حول إشكالات التجربة العلمانية في هذا السياق هي:
-Tariq Ramadan, Les Musulmans dans la Laïcité : Responsabilités et Droits des Musulmans dans Les sociétés Occidentales, Librairie Tawhid, 1998.
– Tariq Ramadan, Islam, La réforme radicale : Ethique et Libération, Presses du Châtelet, 2008.
[7] السيد ولد أباه، الثورات العربية الجديدة المسار والمصير-يوميات من مشهد متواصل، الطبعة الأولى (بيروت: دار جداول، 2011)، ص109 و119، بتصرف.