تمهيد:
عند القيام بمحاولة توضيح دلالة مفهوم الانبعاث الحضاري، وكذلك مفهوم الحضارة توضيحا كاملا وشاملا، لابد من رفع الالتباس فيما يتعلق بالدلالات اللغوية للألفاظ التي تحمل معنى الحضارة في العربية وفي اللغات الأجنبية وتحديد معانيها وتمييز لفظ الحضارة و مدلوله اللغوي عنها، وكذا رفع الالتباس فيما يتعلق بالدلالة الاصطلاحية للمفهوم وتحليلها ومناقشتها.
- المحور الأول: الحضارة والانبعاث الحضاري في اللغة
أولا: الانبعاث في اللغة:
- في لسان العرب : بَعَثَهُ يَبْعَثُه بَعْثاً : أَرْسَلَهُ وَحْدَه ، وبَعَثَ به: أَرسله مع غيره .
وفي حديث ابن زَمْعَة: انْبَعَثَ أَشْقاها؛ يقال: انْبَعَثَ فلانٌ لشأْنه إِذا ثار ومَضَى ذاهباً لقضاء حاجَته.[1]
- في القاموس المحيط: بَعَثَه: أرْسَلَهُ، كابْتَعَثَه فانْبَعَثَ [2]
ثانيا: أبعاد الدلالة العربية للألفاظ الحضارية:
1) المدنية :بالرجوع إلى مادة مدن في لسان العرب نجد أن لها عـدة معاني
- مدن بالمكان: أقام به. ومنه المدينة، تجمع على مدائن ومدن ] بسكون الدال المعجمة [ ومدن ] بضمها[
- فيه قول آخر: من دنت ] أي أن الميم زائدة [ أي ملكت و أصلها دان و منه الأمة مدينة
- المدينة اسم مدينة رسول الله ـ خاصة ـ غلبت عليها تفخيما لها .[3]
من هذه المقدمات اللغوية نخلص إلى أن المدنية أوسع من أن تكون وصفا لقاطني المدينة] المكان [مقابل قاطني البوادي، وأوسع من تعني الجانب الظاهري والعمراني والمادي لحياة المدينة، إن هذه المعاني هي نصف حقيقة المدنية، والنصف الثاني هو معنى الخضوع للنظام الذي يقودها، والمتأتي من الجذر دان .
2- الثقافة: يذكر الزبيدي في تاج العروس من معاني ثقف :
ـ ثقف، ثقفا وثقافة : أي صار حاذقا خفيفا فطنا فهما، فهو ثقف.
ـ ثقف الشيء : سرعة التعلم في العلم أو الصناعة[4].
يتضح من هذا العرض اللغوي أن الثقافة التي هي مصدر الفعل ثقف تـدور على معاني: الحذق والنباهة، والخفة والمهارة في الاستعمالات اليدوية والتقنية، والاستقامة في السلوك، وتقويم المعوج من الأمور، وإدراك الحاجة من العلم والمعرفة بالقدر المطلوب لإيفاء الحوائج .
3- الحضارة:
- تعريفات اللغويين:
- لسان العرب :
1 ـ الحضور نقيض المغيب والغيبة: حضر، يحضر، حضورا و حضارة .
2 ـ الشهود والمشاهدة: كلمته بحضرة فلان وبمحضر منه، أي بمشهد منه
3ـ الحضر خلاف البدو والحاضر خلاف البادي والحاضرة خلاف البادية والحضارة] بالكسر [الإقامة في الحضر وقيل الحضارة] بالفتح [[5]
- معجم اللغة العربية المعاصر:
- مصدر حضَر: تمدُّن عكس البداوة، وهي مرحلة سابقة من مراحل التَّطوّر الإنسانيّ
- مظاهر الرُقيّ العلميّ والفنيّ والأدبيّ والاجتماعيّ في الحَضَر. [6]
- خلاصات:
1- الحضارة لغة تعني: حضور قوم أو أهل مدينة أو أمة حضورا مميزا يصير لهـم به ذكر، على رقعة جغرافية قارة يطلق عليها لفظ الحاضرة أو القرية أو المدينة، وينبغي أن نلاحظ الفرق بـين “الوجـود ” و”الشـهود “أو الحضور، ف”الإقامة المؤقتة في المدن و العواصم والأمصار .. لا تشكل عنصرا ذاتيا جوهريا في مفهـوم الحياة الحضارية، القائمة أساسا على منهج فريد وروح أصيل و نمط من العيش ليس له مثيل، يتوارثه أبناء حضارة ما جيلا عن جيل”[7]
2- من المبالغة القول إننا لو تقصينا الشرح اللغوي للفظ حضارة في المعجـم العربـي لوجدناه مقصورا على الإقامة في الحضر ولو كان هذا صحيحا لكان معناه فعلا أدخل في المدنية منه في الحضارة بمفهومها الشامل الرحب.
ثالثا: الدلالة الأجنبية للألفاظ الحضارية:
- لفظة culture
وتكتب في الألمانيةkultur ، ترجع إلى الأصل اللاتيني الذي يعني من حيث الأصل حرث الأرض وزراعتها culture.
ويعرض الدكتور محمد نصر عارف التطور المعرفي في دلالة اللفظ نختصره هنا لأهميته قال: “لم يتغير المعنى الأصلي طوال العهدين اليوناني والروماني ثم عكس شيشرون اللفظ بذات المعنى تقريبا على زراعة العقل وتنميته، فأطلق على الفلسفة mentis culture، ثم أطلق اللفظ في فرنسا على الطقوس الدينية cultes، واستعمل فولتير الكلمة بمعنى تنمية العقل وغرسه بالذوق والفن والمعرفة، وبقيت الكلمة محافظة على جذرها اللغوي إلى عهد تايلور الذي عرف culture بأنها الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والقانون والتقاليد”[8].
- لفظة civilisation
يعود أصلها إلى الجذر اللاتيني civites بمعنى مدينة أو civilis بمعنى ساكن المدينة أو citizen وهو ما يعرف بالمواطن الروماني، و”يرجع اشتقاقcivilisation إلى القرن الثامن عشر، وقد كان للفظة معان تختلف عن تلك التي ساعد شبينجلر وتوينبي وآخرون على منحها لها، يذكر ميرابو في مخطوط له كتب حوالي 1766 م أن civilisation شعب ما هي: رقة طباعه وعمرانه وتهذيبه ومعارفه المنتشرة”[9].
- المحور الثاني: التعريفات الاصطلاحية للانبعاث الحضاري
أولا: الأبعاد الدلالية لمصطلح الحضارة عند الغرب:
اهتم عدد كبير من الباحثين الغربيين في شتى مجالات العلوم بدراسة الحضارة بحيث يمكن أن نقسم اتجاهات الغربيين في دراستهم للحضارة إلى ثلاث أصناف:
- الصنف الأول: منكبون على تحليل عناصر حضارة يعيشونها فعلا في أطوار مختلفة من دورتهم الحضارية من الدفعة الأولى إلى المجتمع الصناعي والمدني وفي ذلك يقـول ول ديورانت عن الحضارة إنها” نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي بعناصر أربعة: الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والعقائد الخلقية ومتابعة العلوم والفنون [10]“ويرى تايلور “أنها ذلك الكل المعقد الذي ينظم المعرفة والفنون والآداب والقوانين والعادات وجميع القدرات والتقاليد الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في مجتمـع[11]. “
والملحوظ أن هذا الاتجاه يتميز بالعموم وبالوصف للوضع القائم داخل نسق الحضارة الغربية وانعكاسات هذا الوضع على الإنسان والبيئة.
- الصنف الثاني: دارسون للظاهرة بمنهج المؤرخ الذي يدرس سلسلة من الظواهر التاريخية في حلقات مغلقة منتهية و”هؤلاء تدخل دراستهم ضمن تاريخ الحضارة لا ضمن ماهيتها كما أنهم يهتمون بمظاهر الحضارات وثمراتها الثقافية والاجتماعية والسياسية أكثر مما يهتمون بآلياتها الداخلية وبعوامل نشوئها وتصدعها “[12].
- الصنف الثالث: نظر إلى الحضارة بشيء من العمق والشمول وقليل من التقوقع على المركزية الغربية والإغترار بالنفس وهؤلاء منهم الخائفون على مصير الحضارة المعاصرة وبالتالى على مصير الإنسانية فكانت نظرتهم إلى جوهر الحضارة أكثر جدية، ومنهم فلاسفة الحضارة والتاريخ الذين بحكم تخصصهم نفذوا إلى عمق الظاهرة، ونلفت النظر إلى أن الاستفادة المعرفية من هؤلاء ممكنة من تشاؤمية اشبنجلر في كتابه أفول الغرب، إلى نظرية التحدي والاستجابة لأرنولد توينبي في كتابه تاريخ البشرية.
ثانياً : الأبعاد الدلالية للانبعاث الحضاري عند المسلمين:
كما نجد في المدرسة الغربية تنوعا في اتجاهات الدارسين للحضارة فداخل المدرسة الإسلامية نجد كذلك اختلافا في تعريف الحضارة وبالتالي في الحكم عليها أو تحديد أولويتها فمن مقلد لمعاني الغربيين وآخذ عنهم إلى قائل بتعريف ابن خلدون مؤيدا أو ناقدا، إلى معرف لها محلل لعناصرها محيط بدلالاتها بشكل يفي بالمفهوم وبغرض المفكر المسلم من دراسة الحضارة، وسنستعرض هنا بعض هذه الاتجاهات:
1) الحضارة بين دلالتي الحضر والحضور:
خلصنا في دراسة الدلالة اللغوية للفظة الحضارة إلى كونها غنية بالمعاني والإيحاءات التي تفيد الإقبال والعظمة والمهابة والاستقرار والريادة والمقدمة والحركة السريعة والنهاية المحتومة اللازمة.
مرورا عبر معنييها الأساسيين وهما: الإقامة في الحضر والحضور، ولكل من المعنيين امتداد اصطلاحي. وإن اصطلاح الإقامة في الحضر هو التعريف الأكثر شيوعا وتداولا في كتب الحضارة والفكر وفي القواميس الحديثة للغة ويرى الدكتور نصر محمد عارف أن” الباحثين العرب استنبطوا الدلالات المشتقة من المعاني من مفهوم civilisationبحيث مثلت هذه الدلالات أرضية أساسية لديهم وصورة ذهنية ذات ظلال معينة ماثلة في عقولهم ومن ثم كان رجوعهم لابن خلدون الذي توافق عنده استخدام المفهوم مع جذور المفهوم الأوروبي وللقواميس العربية القديمة والتركيز فقط على استخدام الحضارة بمعنى الإقامة في الحضر دون باقي الاستخدامات الأخرى يمثل رغبة في البحث عن مقابل عربي للدلالات الراسخة في أذهانهم أي أن رجوعهم رجوعا تسويغيا استظهاريا ليس رجوعا للبحث عن حقيقة المفهوم باستنطاق اللغة العربية والاستماع إليهـا بكل دلالات مفاهيمها[13]” غير أن هذا اللبس كما يذكر غير نابع من استخدام بن خلدون للمفهوم ذلك أنه “لم يكن يتحدث عن مفهوم الحضارة كمفهوم كلي شامل يؤطر الحركة البشرية ويلقي عليها صفات قيمية معينة بل استخدامه متسق تماما مع بنائه الفكري في المقدمة حيث كان يقصد الدولة بمعناها التقليدي أو عملية توارث السلطة وانتقالها لذلك كان استخدامه لمفهوم الحضارة مقصورا فقط على إحدى دلالات هذا المفهوم وهي تلك المشتقة من الإقامة في الحضر بخلاف البادية.”[14]
2) روح الحضارة وأصلها:
بهذا المعني يرى المودودي أن للحضارة مظاهر وروحا وأن على الباحث أن يتوصل إلى روحها لا أن يتوقف على مظاهرها يقول “يظن الناس أن حضارة أية أمة عبارة عن علومها وآدابها وفنونها الجميلة وصنائعها وأطوارها للحياة المدنية والاجتماعية وأسلوبها للحياة السياسية، ولكن الحقيقة أن ليس كل هذه الأمور بالحضارة ذاتها، وإنما هي نتائج الحضارة .. من هذه الوجهة فإن أول شيء يجب أن يبحث عنه: ما تصورها للحياة الدنيا؟ وما هي المنزلة التي تنزلها الإنسان في هذه الدنيا؟ كيف وعلى أي أساس قد أقامت هذه الحضارة علاقة الإنسان بالإنسان؟” [15]
ولقد تعرض هذا التعريف إلى النقد من قبل الدكتور البوطي الذي رأى أن هـذا الاتجاه في التعريف غريب” لعل المودودي تفرد به”[16]. و الحق أنه لم يتفرد به، بل يمثل أحد أقطابه ويمكن تسمية أصحابه بأصحاب الاتجاه الفكري في الحضارة، وينحو هـذا النحو في التعريف سيد قطب ومن وافقه مثل الأستاذين سعيد حوى ومحمد قطب، فسيد قطب يعرف الحضارة بأنها “ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم تصلح لقيادة البشرية وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقيين للعنصر الإنساني وللقيم الإنسانية وللحياة الإنسانية”.[17]
3) الحضارة كمعنى متكامل :
ثمة اتجاه واضح في العالم الإسلامي يعتبر الحضارة بمثابة البناء الذي يمكن أن يخضع لإرادة الأمة، إذا ما عرفت سنن الله في هذا البناء واستثمرت ذلك على أحسن الوجوه، وأبرز من يمثل هذا الاتجاه الأستاذ مالك بن نبي حيث يقول: “من المعلوم أن عملية التحلل الطبيعي لليورانيوم لا تدخل في نطاق القياس الزمني للإنسان إذ أن كمية معينة من هذه المادة ولتكن جراما يتحلل نصفها طبيعيا خلال أربعة مليارات وأربع مائة مليون من السنين، ولكن المعمل الكيميائي قد توصل إلى أن تتم العملية الفنية للتحلل في بضع ثوان، وبالمثل نجد أن عوامل التعجيل بالحركة الطبيعية بدأت تلعب دورها الكامل في دراسات الاجتماع كما هو مشاهد في التجربة الخالدة لليابان، فالعالم الإسلامي يريد أن يجتاز المرحلة نفسها، بمعنى أنه يريد إنجاز مهمة تركيب الحضارة في زمن معين”[18].
ويصل الأستاذ بن نبي وفق هذه المنهجية إلى تحديد العناصر الأساسية للحضارة ورصد مسارها عبر التاريخ ، فالحضارة عنده هي: الإنسان + التراب + الوقت.
وخلاصة القول أن الانبعاث الحضاري هو حصيلة تحقيق مجموعة شروط محددة يكمل بعضها بعضا في قالب متكامل واحد دوره إنجاز هذه النهضة المنشودة، ولا يتحقق كل ذلك إلا بفقه السنن الإلهية في الانبعاث الحضاري للأمم.
- المحور الثالث: أبعاد الدلالة الحضارية في القرآن الكريم
أولا: معالجة موضوع الحضارة في القرآن الكريم
إن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد للبشرية وليس كتاب علم أو تاريخ وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم)) المائدة 16(،” فيبين القرآن للناس ما هو أقوم في سبل الحياة، ويخرجهم من غياهب الظلمات إلى رحاب النور المبين، ولكنه كتاب مرشد للبشرية في مناح كثيرة أخرى ومن ذلك إخراجهم من ظلمات البداوة والتخلف إلى نور الحضارة والتمدن”[19] .
لكن هذا لا يعني أن القرآن قد خرج عن طبيعته ككتاب هداية وإرشاد ليتحول إلى كتاب في فقه الحضارة والتاريخ كما أنه لم يكن يوما كتابا متخصصا بالمعنى المتداول لكلمة التخصص في أي علم من العلوم، لذلك” فللقرآن الكريم طبيعته، فهو لا يحدد المفاهيم تحديدا اصطلاحيا، ولا يرتب الموضوعات ترتيبا أكاديميا، فلو كان كذلك لتحول إلى كتاب آخر نوعيا”[20].
وخلاصة ذلك أننا إن تجاوزنا المصطلحات والمفاهيم نحو عمق الدلالات سنجد أن القرآن الكريم أرشد البشرية إلى مميزات الحضارة الإنسانية الراشدة وكيفية بناءها واستمرارها على أسس متينة تجنبها عواقب حضارات الأمم الغابرة.
ثانيا : الحضارة في القرآن الكريم
عالج القرآن الكريم موضوع الحضارة كما سلف وقلنا من باب إرشاد البشرية نحو تحقيق الحضارة الإنسانية الراشدة التي فيها سعادته، فكان لزاما تحديد ملامح هذه الحضارة ومميزاتها، “فقد تحدث القرآن عن الحضارة بمعنى الاستقراء الذي به تكون الزراعة وإنشاء المباني، فيفسح مجال البناء والتطور للإنسان، حتى إذا استقر به المقام أكثر بحث في الفنون والعلوم وتفنن في اكتساب العيش وبناء المدن، وتدوين القوانين والدساتير”[21]. وذكر أمما بلغت شأوا عظيما في ذلك فقال في شأن عاد (ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد)) الفجر 6 – 8(، ووصف القرآن لها بأنه لم يخلق مثلها في البلاد دلالة على أنها كانت أعظم أمم الأرض وقتها.
وذكر القرآن مدينة سبأ وصورها أحسن تصوير في قوتها ثم في ضعفها بعد إهلاكها فقال تعالى: (لقد كان لسبإ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلا الكفور، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياما آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق)) سبأ 15-17 (، انظر كيف استوعبت هذه الآية تاريخ أمة في سطور ووصفت بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة.
ثالثا: الرسل رواد الحضارات في القرى
في القرآن الكريم نجد ارتباطا قويا بين القرى وبعثة الرسل فما من نبي إلا وبعث لأهل قرية وما من قرية إلا وبعث فيها نذير، ففي المعنى الأول نجد قوله تعالى (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث)( يس 13 و 14) وقوله تعالى (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين)( العنكبوت 31).
وفي المعنى الثاني قال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف 23) وقال تعالى (وما أهلكنا من قرية إلا ولها منذرون) (الشعراء 208)
والحضارة كما تبدو في القرآن، ليست جسدا فحسب، بل هي كذلك روح، وروح الحضارات هي دعوة الأنبياء الواحدة، فما من رسول إلا وبعث بدعوة قومه إلى توحيد الله وعبادته (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) (الأنبياء 25)، وبالتوحيد والعبادة ترقى النفوس الزكية كما رقت المباني الشامخة، وبهما تستمر الحياة الحضارية لأن في الإيمان وحده عوامل بقائها، ولذلك كان الكفر والظلم هو سبب إهلاك القرى وقد أكثر القرآن من ذكر ذلك، فالقرآن الكريم من خلال عرضه لحضارات الأمم السابقة لفت النظار إلى هلاك الحضارة المادية وإلى بوار النزعة الروحية الرهبانية، وكشف عن أهمية التوازن والتكامل بين هذا وذاك في قيام الحضارة واستمرارها .
فما يعيبه القرآن في الحضارة ليس جانبها المادي كما يتوهم البعض،”بل ما يعيبه هو ماديتها المفرطة التي تحيي الشهوات وتميت القلوب، ويعيش أهلها على الأرض كأن لا إله ولا حساب ولا موت، ولا بعث ولا نشور، كما كان حال الدهريين قديما والملحدين حديثا الذين رفعوا شعار: لا إله والحياة مادة، وفي مثل هذه الحضارات قال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) (الفجر 8)، أي جعلهم عبرة وأثرا بعد عين، فلم يغن عنهم شيء بعد أن (طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد)، وكان سبب إهلاك الله لهم أنهم عمروا الأرض وخربوا الإنسان أقاموا المباني وهدموا المعاني عملوا للدنيا ونسوا الآخرة أكلوا نعمة الله ولم يؤدوا شكرها”.[22]
رابعا: الحضارة الحقة التي يدعو إليها القرآن :
تبين أن القرآن قد تحدث عن الحضارات السابقة لا وصفا لها فحسب بل كذلك تقييما وتحليلا وتبين أن القرآن جعل من الرسل لسانه ويده في تقويم حياة هذه الأمم وسوقها نحو سعادة الدارين. ففي القرآن الكريم مفهوم متكامل للحضارة، وخصائصها وعناصرها الأساسية، وهذه أهم ملامح هذه الحضارة:
1 ـ الدعوة إلى عمارة الأرض :لقد ذكر الله أمره بالعمارة فقال (مالكم من إله غيره هو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها) (هود 61) أي كلفكم بعمارتها.
وعمارة الأرض من الفرائض التي دعا إليها القرآن فلا تؤدى حقوق العباد إلا بها وكل ما هو ضروري لها هو ملحق بها في حكم الوجوب، كالعلوم العمرانية المختلفة من الهندسة والطب والفلك والرياضة والفيزياء وغيرها، وفي السنة النبوية نجد كثيرا من الأعمال التي هي في الأصل من أعمال الدنيا لكنها فضلت أحيانا عن العبادات،
2 ـ الاستخلاف في الأرض: وذكر الله الاستخلاف كذلك في القرآن فجعله مهمة الإنسان الأولى تشريفا له وتكليفا فقال الله تعالى معلنا خلق الجنس البشري على مسامع الملائكة (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة 30) فسمى الإنسان خليفة، وهو كذلك ما قام بأعباء نظام الخلافة فالإنسان خليفة الله في عمارة الأرض، والحكم بأحكام الله.
فالحضارة التي يدعوا إليها القرآن حضارة متوازنة متكاملة تشمل الجانب الروحي والفكري وكذلك الجانب العملي العمراني، وانطلاقا من توجيهات القرآن الكريم بني المسلمون حضارة وصلت آفاق الأرض أناروا بها طريق البشرية لقرون كانت فيها أوروبا ومعظم الأرض تغرق في ظلمات الجهل والضلال، وسنستعرض فيما تبقى من حلقات بعض ملامح الحضارة الإسلامية وخصوصا في جانبها العلمي والأسس الدينية والسننية التي انبنت عليها هذه الحضارة.
[1] – ابن منظور : لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر : بيروت، ص 233
[2] – مجد الدين الفيروزآبادي، القاموس المحيط ، مؤسسة الرسالة ، 2005 ، ص 77
[3] – ابن منظور ، لسان العرب، مادة : م د ن . ص 402 و 403
[4] – الزبيدي، تاج العروس، طبعة الكويت، الطبعة الثانية مادة ثقف ج1 ص 83
[5] – ابن منظور ، لسان العرب: دار صادر للطباعة والنشر : بيروت : مجلد 4 ص 196 و201
[6] – أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربية المعاصر، عالم الكتب – القاهرة، الطبعة الأولى 2008 ج1 ص 63
[7] – صبحي الصالح ، الإسلام ومستقبل الحضارة، دار الشورى1992 ، ص . 19
[8] – المرجع سابق، ص17
[9] – مجموعة مؤلفين، بناء المفاهيم، المعهد العلمي للفكر الإسلامي- القاهرة، الطبعة الأولى 1998 ص 267
[10]– ول ديورانت : ترجمة زكي نجيب، نشأة الحضارة :، دار الجيل بيروت 1998، ج 1 ص 9
[11]– صبحي الصالح الإسـلام ومستقبل الحضارة: دار الشورى 1992 ، ص20
[12]– يونس ملال، السنن الإلهية في نهوض الحضارة ونكوصها –– بحث ماجستير، جامعة الجزائر ص 55
[13]– نصر محمد عارف، الحضارة- الثقافة- المدنية دراسة لسيرة المصطلح ودلالة المفهوم ،المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1995 ص 56
[14]– نفس المرجع السابق ، ص 55
[15] – أبو الأعلى المودودي، الحضارة الإسلامية، 1932، ص 8و6
[16] – محمد سعيد رمضان البوطي، منهج الحضارة الإنسانية، دار الفكر الطبعة الأولى 2015 ص 9
[17] – سيد قطب، المستقبل لهذا الدين،: دار الشروق – القاهرة، الطبعة الأولى ، ص 56
[18] – مالك بن نبي، شروط النهضة ، دار الفكر المعاصر، دمشق 1986 الطبعة الأولى: ص 48 ـ 49
[19]– الدكتور يوسف القرضاوي، السنة مصدرا للمعرفة والحضارة ، دار الشروق 1998 ، ص20
[20]– باقر الصدر ، السنن التاريخية في القرآن،دار إحياء التراث العربي، بيروت الطبعة الأولى 2011 ، ص 47
[21] – محمد هيشور، سنن القرآن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي- القاهرة الطبعة الأولى 1996 ، ص71
[22] – يوسف القرضاوي، الإسلام حضارة الغد، مكتبة وهبة للطباعة والنشر – القاهرة، الطبعة الأولى 1995 ، ص 111