مقدمة:
إن الله تعالى سن سننا لا تتغير ولا تتبدل (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد الآية 11)، والصراع بين الحق والباطل مستمر، وابتلاء المؤمن يظل مستمرا حتى يلقى الله، وتدافع الناس والأمم في هذه الأرض مستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والأيام دول والأمم بين نهوض ونكوص.
إنّ إلحاح القرآن الكريم على الأمر بالسير في الأرض، لا لمجرد التّسلي والوقوف على مصارع الأقوام الغابرة، والنظر في عاقبة المكذبين على مدار التاريخ، ولكن للاعتبار، فقيام الحضارات وانهيارها لا يتم عبثا من غير قوانين أو سنن، بل إن لله سننا بثها في الكون والطبيعة وحتى في اجتماع الناس وتصرفاتهم، فمن أخذ بالسنن وصل ومن تنكب عنها خسر واضمحل.
إن دراستنا هذه نروم بها المساهمة في فهم العلاقة بين النهضة الحضارية للأمم وبين تحقيقها للسنن الإلهية، من خلال دراسة النهضة العلمية للأمة الإسلامية، واعتبار تأسيس المنهج العلمي التجريبي أنموذجا لهذه النهضة، وسنقوم بحول الله ببسط هذه الدراسة على شكل حلقات.
الحلقة 1 : نظرية السنن الكونية أو الإلهية
أولاً: تعريف السنن الكونية: في اللغة العربية:
يقال سنن ومفردها سنة وقـد جاء في لسان العرب السنة: السيرة حسنة كانت أم قبيحة، وكل من ابتدأ أمرا عمل به قوم بعده، قيل هو الذي سنّه.
وسنّة الله: أحكامه وأمره ونهيه، وسنها الله للنّاس: بيّنها، وسنّ الله سنةً أي بيّن طريقا قويما[1].
في اصطلاح العلماء :
- السنة عند المحدّثين مرادفةً لما أضيف إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلْقية أو خلُقية.
- عند الفقهاء النّدب أي ما طلب الشارع من المكلّف فعله طلبا غير جازم يستحقّ فاعله الجزاء و لا يذمّ تاركه.
- عرّف الأصوليّون السنة بأنها المصدر الثّاني للتشريع ممثلةً في الأحاديث المنطوية على أحكامٍ شرعية.
- السنة في القرآن الكريم: أشمل من أن تكون حكم الله التشريعي الذي أجلاه رسوله في الحديث، بل معناها أكثر شمولا مثل قوله تعالى ( سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلا ) (سورة الأحزاب الآية 62)، والسنة بهذا المعنى القرآني هي مطلق أحكام الله وأوامره وعادته في معاملة خلقه ومجمل بيانه للطريق المستقيم وحال من سار عليه من السعادة أو من خالفه من الشقاء.
- السنن الكونية عند المتقدمين: إن التفسير السنني للحياة بالمعنى الشامل لم يكن موضوعاً بارزا للبحث عند المتقدمين، فلا نكاد نقف عندهم على تعريف اصطلاحي شامل لمعنى السنة الإلهية كما ذكرت في القرآن، ذلك أن علم السنن المادية الطبيعية أو التاريخي والسنن الحضارية قد تأخر تناوله في تاريخ الإسلام وتاريخ البشر عموما.
ومما ذكر في معنى السنة ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره حيث فقال السنة: الطريقة المستقيمة والمثال المتّبع[2]، و ما ذكره الإمام ابن تيمية بقوله: السنة هي العادة التي تتضمّن أن يفعل في الثاني ما فعله في الأول ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار.[3]
3) في الفكر الإسلامي المعاصر:
ولقد تعرض الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر إلى تعريف السنة الإلهية تعريفا عاما شاملا، فقال الإمام محمد عبده:” السنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ويعبّر عنها قوم بالقوانين .. الذي ينادي به الكتاب أنّ نظام الجماعة البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل وعلى من يطلب السعادة في هذه الجماعة أن ينظر في أصول هذا النظام ،حتى يردّ إليها أعماله، ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه”.[4]
ويعرفها الكاتب المغربي الأستاذ محمد جابري بقوله: “إنها جملة المواثيق والعهود التي عهد الله بها لكل شيء في هذا الوجود. أو بعبارة أصح هي كلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، أو بعبارة أدق فالسنن هي كل أفعال الله “.[5]
ويذكر الدكتور عبد الكريم زيدان أن الكون بما ومن فيه من مظاهر مادية وإنسانية مختلفة دقيقة أو هائلة، لا يجري مجرى المصادفة و إنما يقع وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء وأن لهذا القانون وجهين، الوجه الأول تخضع له جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية ويخضع له كيان الإنسان المادي وما يطرأ عليه [6]
يتبين من خلال ما رأيناه من تعاريف أن هناك اتفاقا عاما على أنّ سنة الله هي نواميسه المنتظمة المبثوثة في مخلوقاته وهي قانونه العام الصارم الثابت المطرد الشامل، ووفق هذا القانون تجري جميع شؤون الحياة، فإلى قوة أو ضعف وإلى ارتقاء أو انتكاس، كل ذلك محكوم بسننه. وكلما ازداد الناس معرفة بدقائق هذا القانون وربطٍ لجزئياته بكلياته، كانوا أقدر على استثماره لصالحهم في الدنيا والآخرة وكانوا أقدر على فهم حكمة مجيئهم إلى هذا الكون، و طبيعة رسالتهم والهدف من خلقهم وسبل تحقيق سعادتهم.
ثانيا: تقسيماتها :
عمل الدارسون للسنن الكونية على تقسيمها تقسيمات متنوعة حسب مجال دراسة كل منهم ونستعرض هنا بعض هذه التقسيمات:
1) السنن الإجبارية والاختيارية: يرى بعض الباحثين أن السنن تقسم حسب تعلقها بإرادة الإنسان إذ سلبت الإرادة من كل الكائنات المخلوقة إلاّ الإنسان .. وبهذا المعنى تنقسم السنة إلى قسمين، إجبارية: تجري على كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان وذلك كالولادة والحياة والموت، واختيارية قائمة على مستوى إرادة الإنسان الداخلة في دائرة القدرة الإنسانية وما يمكن أن يناله الإنسان ويسخره في الحياة باستخدام هذه القدرة العقلية وغيرها، مما أوتي من الحواس الأخرى كالسمع والبصر التي زود بها الإنسان لغرض تحقيق غاية خلقه” [7]
2) السنن الجارية والخارقة: يرى أصحاب هذا التصنيف أن السنن الجارية هي عادة الله في معاملة خلقه وأحكامه النافذة وفق الأسباب والمسببات، أما السنن الخارقة فهي تدخل القدرة الالهية بتعطيل الأسباب وإحداث المعجزات.[8]
3) السنن الكلية والجزئية: حيث أن السنن ينضوي بعضها تحت بعض مكونة نسيجا أو هرما متكاملا، فتتكامل السنن الإلهية الجزئية في القوم المجرمين المتمثلة في أعمال السوء التي اختاروها لأنفسهم وآثارها الوخيمة عليهم، حيث تنتهي بهم إلى الهلاك والشقاء، كما تتكامل السنن الإلهية الجزئية في القوم المصلحين لترسم على قمة الهرم السعادة والفلاح، وجماع ذلك في قوله تعالى ( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) (سورة طه 123 و124)
4) سنن آفاق وسنن أنفس: أخذا من قوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) ( سورة فصلت 53) قسم بعض الدارسين السنن إلى سنن آفاق و سنن أنفس، فبمعرفة سنن الآفاق يضطلع الانسان بعمارة الكون، وبسنن الانفس يرتقي بنفسه في مدارج الكمال، فيتقدم بثبات نحو الحضارة .
ثالثا: مصادر استخراج السنن :
اتفق كل الدارسين للسنن الإلهية الكونية على أن للسنن مصدرين هما كتاب الله المسطور وكتابه المنظور:
1) القرآن: ليس غريبا أن يكون القرآن المصدر الأول لمعرفة سنة الله في خلقه فكتاب الله أو الوحي الإلهي عموما ـ بما في ذلك السنة النبوية ـ هو البيان الرباني المخبر عن السنن وشروطها وأنواعها ومتعلقاتها من حيث أن واضع هذه القوانين هو الله تعالى،” وما كان للكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء أن يهمل بيان السنن التي تضم كل كبيرة وصغيرة، وتهدي الناس لرب العالمين، وتسوقهم إلى السعادة أو تكلهم إلى الشقاء”[9] .
ولقد تناول القرآن الكريم السنن الإلهية من عدة مناح، ففي القرآن الكريم، كما يلاحظ باقر الصدر على الساحة التاريخية مثلا، أنها “عامرة بسنن كما عمرت الساحات الكونية الأخرى بسنن، هذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم، فقد بينت هذه الحقيقة بأشكال مختلفة وبأساليب متعددة في عدد كثير من الآيات ـ على مستوى إعطاء نفس المفهوم بالنحو الكلي، أن للتاريخ سننا وأن للتاريخ قوانين ـ وبينت هده الحقيقة في آيات أخرى على مستوى عرض هذه القوانين وبيان مصاديق ونماذج وأمثلة من هذه القوانين، التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان ـ وبينت في سياق آخر على نحو تمتزج فيه النظرية مع التطبيق ـ وفي آيات أخرى حصل الحث الأكيد على الاستفادة من الحوادث الماضية وشحذ الهمم لإيجاد عملية استقراء للتاريخ وعملية الاستقراء للحوادث .. هي عملية بطبيعتها تريد أن تفتش عن سنة وإلا فلا معنى للاستقراء دون افتراض سنة أو قانون”.[10]
2) الواقع والتاريخ: الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي زوده الله بوسائل المعرفة فوهبه العقل الفاحص، الذي يمكنه من فهم ما يدور حوله في هذا الوجود، “وباستقراء التاريخ وفهم الراهن، يمكن للإنسان أن يجني معرفة علمية سننية عن هذا الكون، ولقد صدّق القرآن هذا المسعى فقال تعالى ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم ) وقال (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق).”[11]
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذين المصدرين متكاملان ومرتبطان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالله تعالى أمر الناس بالتدبر في كتابه المنظور وفي كتابه المسطور، فالكون مجال التجربة والبحث والقرآن مجال الاستنباط والتأمل، فلا يبقى مجال للإنسان للزيغ عن معرفة سنن الله وقوانينه والعمل على تسخيرها للسعادة في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: أهمية دراسة السنن الإلهية عامة والحضارية خاصة :
لا تعد دراسة السنن الإلهية في الكون من قبيل الترف الفكري بل هي المدخل للفهم السليم للكون وعليها يتوقف التصرف الصحيح حياله ويمكن أن نعدد أهمية دراسة السنن الإلهية في الكون والحضارة فيما يلي :
1) إمكانية تسخيرها للاستزادة من الخير واجتناب الشر، ولنصرة الحق ودحض الباطل، فنصرة الحق تحتاج إلى وسائل وإمكانات لا يقدر على توفيرها والتحكم بها إلا العارفون بسنن الله في الكون .
2) توقف علم الإنسان عليها: إن جمع المعرفة العلمية ما كان ممكنا للإنسان لولا أن الله قد أقام هذا الكون على موازين وسنن مطردة وثابتة لذا جعل بعض العلماء علم الإنسان معناه علمه بهده السنن، قال الدكتور عبد الكريم زيدان “فعلم الإنسان المتعلق بالموجودات، يعني العلم بهذا القانون العام الذي يحكمها وبقدر ما يعرف الإنسان من تفاصيل هذا القانون العام، يكون مقدار ما يمكنه الاستفادة منه” [12].
3) جعل الله السنن الإلهية دالة على وجود وعظمة فاطرها، ومعلمة عن عدله وحكمته وجليل قدرته وجميل خلقه، فمن خلالها يتعرف الإنسان على الباري جل شأنه وعلى صفاته .
4) توفير الجهد والوقت في بلوغ الأهداف المسطرة، فكما قال البعض” لعل إغفال السنن الربانية وعدم فقهها في ميدان الدراسات الحضارية في واقع المسلمين، قد أدى إلى ضياع طاقات كثيرة بذلها مفكرون ومربون عظام، وذهب الكثير منها سدى في غياهب مشكلات المجتمعات المكدسة التي يظهر أنها مشكلة واحدة هي مشكلة الإنسان المؤمن المسلم صاحب المنهج الفقيه بسنن التحضر الخبير بربط عناصر الكون الطبيعية، وطاقاته المعنوية، بالحياة الاجتماعية كخدمة الإنسان”.[13]
5) القدرة من خلالها على فهم وتفسير الأسباب الحقيقية لقيام الحضارات ونكوصها، من ذلك فهم الأسباب العميقة التي أدت بالأمة الإسلامية إلى الرقي والحضارة ثم إلى الانحطاط، فيتضح طريق التطور وتتضح معالمه وقواعده كما تزول دهشة بعض المخلصين الجاهلين بالسنن المتسائلين عن نصر الله وتزول الغشاوة عن أعينهم “فسنن الله من سار عليها في أي جانب من جوانب الحياة فاز وظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا مشركا ومن حاد عنها خسر وإن كان مؤمنا موحدا وعلى هذه القاعدة يفسر انحطاط المسلمين وتقدم غيرهم”[14].
رابعا: خصائص السنن الإلهية :
تحدث الدارسون لهذه السنن عن عدة خصائص، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1-الربانية:
إن كون ربانية السنن الإلهية يميزها عن باقي التصورات الفلسفية والمعتقدات الوثنية التي ينشئها الفكر البشري وتصوراته الخيالية.
وكون سنن الله ربانية المصدر، يعني أنها مرتبطة بالله تعالى، منه تستمد وبنوره تستضيء، وهذا ما يفرغ عليها قدسية لا نظير لها، لأنّ هذه السنن صادرة من صاحب الخلق والأمر في هذا الكون، ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ) سورة الأعراف الآية 54).
2-الثبات:
“بما أنّ سنن الله ربانية المصدر، وليست نتاج فكر بشري يعتريه النقص، فإنّه من هذه الخصيصة تنبثق باقي الخصائص، فتكون سنن الله ثابتة لأنّها تقتبس نورها من مشكاة ربّانية، وثبات سنّة الله يعني استقرارها ودوامها؛ فلا تتبدل ولا تتحول، يقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا﴾ (سورة الإسراء الآية 77) .
والثبات عنصر فعال ذو أثر كبير في نيل الأوطار “ولا يبلغ الهدف السامي إلاّ الصابرون الّذين أدركوا أنّه لكل أجل كتاب، فلم يستعجلوا النتائج قبل أوانها، بل أدركوا الثمرة في إبّانها، فكانوا منار للهدى، ودليلا على الله”[15]
والهدف الثاني من ثبات السنن الإلهية وعدم تغييرها سقوط القول ب “الصدفة” أو “الطبيعة” فيما لا يستطيع العقل البشري الوقوف على علله وأسبابه، إذ لو لم تكن السنن الجارية قائمة على الثبات لا تسع المجال للعبثية ولبسط القول بالصدفة في نظام حركة الكون والأحياء والأنفس، ولو لم تكن سنّن الله عزّ وجل ثابتة، لما كان في هذا الكون توازن ولا استقرار ولاستحال استمرار الحياة، ولكانت الفوضى حينئذ هي السمة السائدة… “. [16]
3-الإطّراد:
المقصود باطراد سنّة الله “تتابع حصولها، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع الّتي تحول دون تحقيقها”[17].يقول الله جلّ ذكره: ﴿ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (سورة فاطر الآية 43)
وهكذا نجد أنّ اطراد سنّة الله يعني أنها ليست عشوائية قائمة على أساس الصدفة والاتفاق ولهذا قصّ علينا القرآن الكريم قصص الغابرين وما حلّ بهم من جراء ما اقترفوه من مخالفات للأوامر الإلهية، لنأخذ الدروس والعبر، ونرجع إلى الصراط السوّي، حتّى لا يصيبنا ما أصابهم، يقول الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾( سورة آل عمران الآية 137)، يقول إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي: “إنّه لولا أنّ اطراد العادات، معلوم لما عرف الدين من أصله، فضلا عن تعرف فروعه؛ لأنّ الدين لا يعرف إلاّ عند الاعتراف بالنبوة، ولا سبيل إلى الاعتراف بها إلاّ بواسطة المعجزة، ولا معنى للمعجزة إلاّ أنها فعل خارق للعادة، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلاّ بعد تقرير اطّراد العادة في الحال والاستقبال كما اطردت في الماضي، ولا معنى للعادة إلاّ أنّ الفعل المفروض لو قدّر وقوعه غير مقارن للّتحدّي لم يقع إلاّ على الوجه المعلوم في أمثاله فإذا وقع مقترنا بالدعوة خارقا للعادة، علم انّه لم يقع كذلك مخالفا لما اطراد إلاّ والدّاعي صادق”[18]
4-الشمولية:
فسنن اللّه ربانية المصدر وهي من أمر اللّه، فلا غرو أن يكون طابعها الشمول، وهنا نذكر مجموعة من الآيات الإلهية حول هذه الشمولية: قال عزّ من قائل:﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ﴾ (سورة الأحزاب الآية 38)، وقال الحقّ جلّ وعلا: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ (سورة الرعد الآية 8)، قال الشيخ أبو السعود: “أي تقديرا وتوقيتا أو مقدارا وهو بيان لوجوب التوكلّ عليه تعالى، وتفويض الأمر إليه لأنّه إذا علم أنّ كلّ شيء من الرزق وغيره لا يكون إلاّ بتقديره تعالى لا يبقى إلاّ التسليم للقدر والتوكلّ على اللّه تعالى”[19]
فما من ناحية من نواحي الحياة والكون، ومجال من مجالاتهما، إلاّ وتناولتها السّنن الإلهية في القرآن الكريم والسنّة النبوية بالنّصّ والفحوى، وأوضحت فيها الخير من الشرّ، والحقّ من الباطل، والصّق من الكذب، والطّيب من الخبيث، والغثّ من السمين، في صورة شاملة وكاملة لنظام الحياة في الإسلام الّذي يجب أن يقوم على الخير وتنميته، وتجنّب الشرّ والعمل على استئصاله، تلك الشمولية تتمثّل في صور شتّى؛ أكبرها ردّ هذا الوجود كلّه…بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكلّ انبثاقة فيه، وكلّ تحور وكلّ تغيّر وكلّ تطوّر. والهيمنة عليه وتدبيره وتصريفه وتنسيقه… إلى إرادة الذّات الإلهية السّرمدية الأزلية الأبدية المطلقة…بمشيئته كلّ تغيير جديد، وكلّ انبثاق وليد… [20]
5-الوسطية:
إنّ الوسطية في كلّ شيء من أهمّ ما تميّز به الإسلام عن غيره من الشرائع السّابقة والقوانين الوضعية، ويقصد بها الاستقامة، كما يقصد بها التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، أو التّوسط بينهما؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ويحيف عليه، ولا يأخذ أحدهما الحقّ أكثر من الآخر ولا ينفرد بالتأثير ويطرد الطّرف المقابل، وفي قوله تبارك وتعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (سورة الرحمن الآيات 7/8/9) ، نلمح إشارة قوية إلى الوسطية، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، في السّنن الإلهية[21]
فالوسطية من مميّزات هذه الأمّة؛ وتتجلّى هذه الوسطية في كلّ شيء؛ فمثلا ذم اللّه البخل لكنه ذمّ كذلك الإسراف، وجعل الإنفاق في سبيل اللّه هو المطلوب شرعا. قال الحقّ جلّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ (سورة الفرقان الآية 67)، وكلّ نهج خالف خصيصة الوسطية برئ منه دين اللّه، ولئن أشرك كفارا قريش مع اللّه وجعلوا له أندادا وأنكروا الإله الواحد، فقد غالت أيضا اليهود فقالت عزيز ابن اللّه، وقالت النّصارى المسيح ابن اللّه، وجاءت شريعة الإسلام بالوسطية والاعتدال، وبالقول الفصل الذي يعلو ولا يعلى عليه.
المراجع:
[1]– لسان العرب، ابن منظور، مادّة سنن ص 225
[2]– تفسير الرازي ج 9 ، ص 29
3- مجموع فتاوى ابن تيمية ج 13 ص 140
[4]– سنن القرآن، هيشور ص 8
[5]– التجديد في علم أصول الفقه بين السنة الإلهية وجهود الصادقين وانتحال المبطلين، ص 66 وص81.
[6]– السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية ص 7
[7]– على مشارف القرن الخامس عشر الهجري دراسة للسنن الإلهية، إبراهيم بن علي، ص7
[8]– السنن الإلهية في نهوض الحضارة ونكوصها في ضوء نصوص الكتاب وفقه التاريخ الجانب الفكري أنموذجا – يونس ملال – جامعة الجزائر ص 68
[9]– السنن الإلهية في نهوض الحضارة ونكوصها الجانب الفكري أنموذجا – يونس ملال – جامعة الجزائر ص 73
[10] – السنن التاريخية في القرآن – محمد باقر الصدر
[11]- السنن الإلهية في نهوض الحضارة ونكوصها – يونس ملال – جامعة الجزائر ص 73
[12]– السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد ، عبد الكريم زيدان ص10
[13] – سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، محمد هيشور ص 31
[14] – سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، محمد هيشور ص 33
[15] – التجديد في دراسة الحديث النبوي على نور السنن الإلهية، رشيد كهوس ص 111.
[16] – بحث حول تعريف السنن وخصائصها للدكتور رشيد كهوس
[17] – أزمتنا الحضارية في ضوء سنّة الله في الخلق،أحمد كنعان،ص 76.
[18] – الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي 568\2.
[19] – إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم،أبي السعود 262\8
[20] – خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب ص 96
[21] – بحث حول تعريف السنن وخصائصها للدكتور رشيد كهوس