مقدمة
الوجود مفهوم عام يمكن أن نحده بمفاهيم أربعة هي: الغيب والشهادة، الخلق والأمر.
- الغيب والشهادة.
هما طرفا الوجود، يقول الله تعالى: ﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَ تِ وَٱلۡأَرۡضِ عَـٰلِمَ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ أَنتَ تَحۡكُمُ بَیۡنَ عِبَادِكَ فِی مَا كَانُوا۟ فِیهِ یَخۡتَلِفُونَ﴾ [الزمر ٤٦]، فهناك عالم شهادة نشهده بحواسنا، وهناك عالم غيب لا نشهده بها، ويمكن تقسيمه إلى قسمين، قسم مطلق لا يعلمه الإنسان إلا بوحي ورسالة، كيوم الحساب ومشاهده، والجنة والنار، وذروة الغيب هو الله تعالى فلا يخبر عنه وعن أسمائه الله تبارك وتعالى، وقسم نسبي وكله الله تعالى إلى الإنسان بما وهبه إليه من عقل وحواس ليكتشفه بنفسه وهو متطور مع الزمن، وهذا هو ميدان البحث العلمي الذي يصنع العلوم الطبيعية(الآفاق) والعلوم الاجتماعية أو الإنسانية(الأنفس)، قال تعالى: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ (٥٣)﴾ [فصلت 53]. الآية تنبئنا أن رحلة الحق، هي رحلة الإنسان الكبرى بين عالمي الغيب والشهادة، أي إنه سيرى من آيات الله بما يصنعه من علوم طبيعية وإنسانية ما يجعله سيؤمن أن القرآن حق (فالهاء هنا تعود إلى القرآن الكريم)[1] وهو من الله تعالى، لأن الكون المنظور هو تصديق للكون المسطور(القرآن).
- الخلق والأمر
إن هذا الوجود له شقان، جانب خلقي مادي، وجانب أمري نظري، فكل الوجود ما خلا الإنسان مقهور بخلقه وأمره أي خلقه على سنن مقدرة من عالم الأمر فلا خيار ولا قرار: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } الأعراف54.
أما الإنسان فمقهور بخلقه، أي له جسد محكوم بسنن صارمة، لكنه حر في أمره لما فيه من نفخة إلهية روحية(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ{72}سورة ص)، واقتضت حكمة الله أن يزوده بشرعة أمرية يلتزم بها اختيارا({ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ }الجاثية18)، ألا وهي القرآن العظيم {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الشورى52.
فالقرآن روح من عالم الأمر متعلق بالجانب الروحي الأمري من الإنسان، يزوده بمنهجه الذي يتبعه اختيارا لا اضطرارا ليقوم بوظيفة الخليفة. فالله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض، ليستعمرها ويصنع الحضارة، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} هود61.
ولكنه لما كان حرا، فيه تقوى وفجور، فقد يفسد ويسفك الدماء، فلزم أن يزوده الله تعالى بكتاب أمري يزكي نفسه، ويكف يده عن الطغيان، ليصنع حضارة إيمانية قوامها التعارف لا العدوان.
مفهوم الحضارة لغويا
جاء في لسان العرب عن معنى حضر مايلي: الحُضورُ: نقيض المَغيب والغَيْبةِ؛ حَضَرَ يَحْضُرُ حُضُوراً وحِضَارَةً؛ وكلَّمتُه بِحَضْرَةِ فلان وبمَحَضْرٍ منه أَي بِمَشْهَدٍ، والحَضَرُ: خلافُ البَدْوِ.الحاضر: المقيم في المُدُنِ والقُرَى، والحَضَرُ والحَضْرَةُ والحاضِرَةُ: خلاف البادية، وهي المُدُنُ والقُرَى والرِّيفُ، سميت بذلك لأَن أَهلها حَضَرُوا الأَمصارَ ومَساكِنَ الديار التي يكون لهم بها قَرارٌ، والحاضِرَةُ والحاضِرُ: الحَيُّ العظيم أَو القومُ؛ والحِضارَةُ: الإِقامة في الحَضَرِ؛ وكان الأَصمعي يقول: الحَضارَةُ، بالفتح[2].
وهذا المعنى متصل باسم آخر هو الشهادة وفي لسان العرب: شهد: من أَسماء الله عز وجل: الشهيد. وقيل الشهيدُ الذي لا يَغيب عن عِلْمه شيء. والشهيد: الحاضر.والمُشاهَدَةُ: المعاينة. وشَهِدَه شُهوداً أَي حَضَره، فهو شاهدٌ. وقَوْم شُهُود أَي حُضور، وقوله تعالى: وذلك يومٌ مَشْهودٌ، أَي محضور يَحضُره أَهل السماءِ والأَرض. وأَشْهَدَني إِمْلاكَه: أَحْضَرني. والمَشْهَد: مَحْضَرُ الناس[3].
يتبين لنا إذن أن الشهادة بمعنى الحضارة، وقد وقفنا عند مفهوم الشهادة وعلاقته بمفهوم الحضارة، لأنها هي الاسم الفذ الذي بيّنه القرآن رابطا إياه برسالة الإسلام ، لذا سوف نفصل في مفهوم الشهادة القرآني ليتبين لنا مفهوم الحضارة القرآنية.
مفهوم الحضارة قرآنيا
يقول الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَكَذَ لِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدࣰاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِی كُنتَ عَلَیۡهَاۤ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن یَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَیۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِیرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِینَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُضِیعَ إِیمَـٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [البقرة ١٤٣].
الأمة الشهيدة هي أمة وسط، ومن معاني الوسط أنه مكان بين طرفين، أو هو الخيار والعدل؛ لأن الخيارَ من الناس عُدولهم[4]، ويكون الرسول…رسول من أين؟ أليست رسالته من عالم الغيب؟، إذن الأمة الوسط هي أمة خيرة(عدولة) بين عالمين لها نصيب منهما معا، هما عالما الغيب والشهادة، فمن يجعله الله وسطا ليشهد على الناس لا ينبغي له أن يتبع غيره أو يزهد بما عنده!.
فما هذا الوسط الذي يعلل الشهادة؟ نشهد على الناس بماذا؟.
إن الآية تقول أيضا: ويكون الرسول عليكم شهيدا.. إنه الرسول، إنه ليس محمدا (صلى الله عليه وسلم) الإنسان فقط، إنه محمد الرسول، إذن لقد شهد علينا بهذه الرسالة يوم صنع لها واقعا حقيقيا، يغني العائل، ويرفق باليتيم، ويهدي السائل، ويحدث بنعم الله، واقعا يستمد خياره الأمري من القرآن ومبادئه وقيمه وتشريعاته ونظرته إلى الله والكون والإنسان.
إنه الوسط بين الغيب والشهادة، الذي يستمد روحه الأمري من الغيب، من الوحي،( أي نظام تشريعُه أصولُه إلهيةٌ، وفلسفته الكبرى أصولها إلهية)، ثم يقيم له حضارة في عالم الشهادة، فلا هي أمة تغرق في المادية وتمجد اللذة والمنفعة والجسد وتذهل عن الغيب عن الله واليوم الآخر والحساب، ولا هي أمة تقتصر على الغيب بلا ترجمة عملية له، فالله واليوم الآخر دافع حي لا ينقطع عن أي عمل لهذه الأمة وأفرادها، وتغيير القبلة كان (اختبار تمحيص الوسط) لتلك الأمة، هل يتبعون الرسول ذا الرسالة الغيبية من الله، أم يركنون إلى أقوال بعض السفهاء من اليهود والمشركين، وما أكثر من يعيب علينا اتباعنا ديننا اليوم بالذرائع نفسها، إن اتباع القبلة ليس حركة مادية فقط بل هو وجه حياة كاملة.
والركن الأول في الإسلام هي الشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله: فهذه الشهادة إن تحققت ستهيمن على مسيرة الخيار الإنساني، وهذا هو الدين؛ أي الطاعة والانقياد[5]؛ أي أن تطيع الله بخياراتك أو تضبطها بالحدود الإلهية اختيارا لا قسرا، وهنا تدرك أن الشهادة/التوحيد، هي قمة الحرية لأنك تحرر خيارك من أي سلطة أخرى ما خلا الله تعالى، فلا تكون وقفا لأحد، بل لله الذي خلقك، حرا لتأتمر بأمره بإرادتك كما ائتمر الكون بأمره قسرا.
ولنفهم مفهوم الأمة الشهيدة وشهادتها أكثر فحضارتها، سنربطه بما توحيه هذه الآية التي أوردناها سابقا: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ (٥٣)﴾ [فصلت ٥٢-٥٣].
فقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، ﴿وَلِلَّهِ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ فَٱدۡعُوهُ بِهَاۖ وَذَرُوا۟ ٱلَّذِینَ یُلۡحِدُونَ فِیۤ أَسۡمَـٰۤىِٕهِۦۚ سَیُجۡزَوۡنَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [الأعراف ١٨٠] ، وإذا كان دعاؤنا بها يعني أن نسأله بها ونصفه ونسميه[6] وهذا لسان المقال، فإن لسان الحال أن نتخلق بها ونجعلها واقعا في حياتنا. فإحصاء الأسماء ليس التّعداد، وإنّما هو العمل والتعقّل بمعاني الأسماء، والإيمان بها[7]، ومن معاني دعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى: [ظهور أثر الاسم في سلوك العبد وأخلاقه: فالله عز وجل يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو عليم ويحب كل عليم، وهو كريم ويحب الكرماء من عباده، وهو سبحانه يكون مع عباده بحسب اتصافهم بما يحبه سبحانه، وهذه هي المعية الخاصة][8].
ولذا فإن دعاء الله بهذا الاسم (الشهيد) الذي يختم هذه الآية التي تحث على العلوم الطبيعية والإنسانية، يعني أن نعمل به ونتخلق بمعانيه، وهو كما أسلفنا الحاضر في لسان العرب، الحاضر الذي لا يغيب عنه علمه شيء، فحري بالأمة التي تبلغ رسالته أن تكون شهيدة مثله بحضورها وعلمها، بأن تقيم المناهج البحثية العلمية التي تشيد العلوم الكونية التي تكتشف آيات الأنفس والآفاق المنظورة (العلوم الإنسانية والطبيعية) لنصدق بها ما في القرآن من آيات كونية مسطورة، فنربط الغيب بالشهادة ونشهد على الناس ونبين أن القرآن هو الحق. وحقه لا يقف فقط على علمه الشهودي على الله، بل في هدايته إلى التقوى، ﴾﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3). ﴾البقرة. وهذا هو الحال الوسط، الذي تفرقت به أمم اليوم، بين حياة مادية بحتة تنكر الغيب وأخلاقيته، وبين حياة مثالية تتنكر للمادة وتغيب عنها وعن تسخيرها.
فالرؤية الحضارية الكونية القرآنية إذن، رؤية علمية سننية، تقوم على العلم لا على الخرافات والشعوذة، وتقوم على الإيمان والتوحيد والخيرية والأخلاق، وهذه من المبادئ التي أصل لها المفكر عبد الحميد أبو سليمان في كتابه “الرؤية الكونية القرآنية الحضارية”[9]، وبين فيها بعض الوسائل المنهجية لبناء العلوم الاجتماعية الإسلامية، وأنها هي وأسلمة المعرفة وجهان لعملة واحدة وهذه كانت من إحدى الأهداف الكبرى للمعهد العالمي للفكر الإسلامي وبرنامجه التعليمي.
ولابد أن نتعمق أكثر في العلاقة بين أهم ركنين يقوم عليهما المفهوم القرآني للحضارة، وهما العلم والتقوى، لأنهما جماع الأمر كله، وهما جناحا الوسط الذي ينبغي للأمة المسلمة أن تطير بهما فتشهد شهادة وتحضر حضارة، وهذان الجناحان أي العلم والتقوى، ماهما إلا وجه آخر للشهادة والغيب، بمعنى أن العلم الكوني يتوكل بعالم الشهادة، والتقوى يتوكل بها عالم الغيب، الذي جاءنا منه الوحي بالرسالة ليتمم مكارم الأخلاق ويزكينا لنصنع حضارة تكون رحمة للعالمين.
العلم والتقوى
إذن الحضارة القرآنية يجب أن تطير بجناحين: العلم والتقوى. ولنبين هذين المفهومين وارتباطهما من خلال القرآن نفسه، وذلك بالوقوف على المفاهيم التالية التي تفصل لنا قدرة القرآن الكامنة على تكوين الإنسان الذي يصنع الحضارة المهتدية أو الهدى الحضاري:
- مفهوم العلم والعلماء، والخليفة في الأرض.
- مفهوم القراءتين في سورة العلق، متلاقحا مع مفهوم التعارف في آية الحجرات.
- مفهوم العمل الصالح أو الباقيات الصالحات والبحث العلمي
أ.مفهوم العلم والعلماء والخليفة في الأرض:
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ{27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ{28}. فاطر
إن الآيات تلفت انتباهك إلى الطبيعة، وما فيها من قوانين ومشاهد تدل على جمال الخلق وتنوعه وإتقانه، فتذكر السماءَ والمطر والنباتات بأنواعها المختلفة، والجبال وتضاريسها البديعة، والإنسان والحيوان.. مَن هؤلاء العلماء؟ أليسوا علماء الفلك والمناخ والجيولوجيا والنباتات والحشرات والحيوانات والأطباء بتخصصاتهم المختلفة في الجسم والنفس البشريين؟.
إنه العلم الذي يبحث في الكون، فيصل إلى خالقه، وينير القلب بالإيمان، فيسبح بحمد الله ويقدس له، ويبين القرآن أن العلماء بالكون هم أكثر الناس خشية لله، إذن فالخشية تقوم على علم، وأنت لن تعرف الله حق معرفته ما لم تفقه كونه الذي خلقه، وهذا الفقه هو عبادة لله تعالم باسمه(الخالق)، الذي سماه الغزالي الفقه الحضاري[10].
الخليفة في الأرض عالم، والعلماء هم الخلفاء
يؤكد القرآن الكريم أن الخلافة في الأرض لن تكون بلا علم، في الحوار العلوي الذي دار بين الله تعالى وملائكته: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31). البقرة.
إذن لقد كان الجواب الإلهي على تساؤل الملائكة، فيه ضمنا تعليم آدم للأسماء، الذي سيمكنه من مهمة الخلافة و بناء الحضارة، وذلك لأن تعلم الاسم مرتبط بفهم المسمى، لأن الاسم أتى من السمة[11] أي الصفة؛ لأنه يسم الشيء أي يميزه، فأنت لن تستطيع أن تسمي مالم تميز، والتمييز يعني القدرة على إدراك الأشياء في الكون وهذا ميدانه العلم الطبيعي، لذلك نجد آيات كونية كثيرة في القرآن تحث الإنسان على النظر والتفكر في الكون.
ب.مفهوم القراءتين في سورة العلق متلاقحا مع مفهوم التعارف في آية الحجرات:
إن العلم واسم الله الخالق يأخذاننا إلى أمر القراءة الأول ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِی خَلَقَ﴾ [العلق ١]. فالقراءة هنا أمر ولكن باسم االله الخالق، أي كأنه يريد منك أن تخلق باسمه أي تصنع أشياء تسخر الكون(تحويل الأمر إلى خلق)، أي أن يكون القرآن الأمري هاديك إلى خلق الحضارة وأدواتها من خلال القراءة، قراءة في مخلوقات الله(الذي خلق، خلق هنا مطلقة)، وهذه القراءة هي التي ستنتج العلوم الطبيعية والإنسانية، وهذا الصناعة تبدأ من قراءتك لنفسك وفهم علاقاتها، لأن أي إبداع علمي هو انعكاس لتقدير الإنسان لنفسه وفهمه لها لذلك كانت الإشارة إلى خلق الإنسان أولا ﴿خَلَقَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مِنۡ عَلَقٍ﴾ [العلق ٢]، وبذلك نرى أن أمر القراءة الأول يشير إشارة حاسمة إلى العلم الذي يبني الحضارة.
فماذا عن أمر القراءة الثاني؟.
إن أمر القراءة الثانية يربط التقوى بالعلم أي الهداية بالحضارة، ولنفصّل في ذلك: إن الأكرم عرّف إكرامه أنه علّم الإنسان بالقلم مالم يعلم، يوم أمره بالقراءة ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ (٣) ٱلَّذِی عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ (٤) عَلَّمَ ٱلۡإِنسَـٰنَ مَا لَمۡ یَعۡلَمۡ (٥). العلق(3-5)
فكيف ستكون قراءتك سببا لكي تقبس من مقتضيات هذا الاسم(الأكرم)؟ يكون ذلك بأن تجعل العلم الذي تعلمته وسيلة للتقوى عند تعاملك مع الآخر لتكون الأكرم عند الأكرم، بدليل هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13.
أي أن يكون التعارف مبنيا على أرضية التقوى، فهي معيار التفاضل بين الأمم، أقول هذا وأنا أرى أمم اليوم وظفت علمها للبطش بالآخر ونهب ثرواته واستغلاله، بدلا من إتقاء الله به، أي أصبح العلم للطغيان والاستغلال لا من أجل التعارف المتقي، الذي يعلم الآخر ويتعاطف معه.
إن القراءة هي منهج لاكتشاف الكون أو الأنفس والآفاق بالتعبير بالقرآني، منهج يثمر العلوم التي تنتظم أقطار السموات وفجاج الأرض، علوم يجب أن تكون غايتها تحقيق ( الإكرام) عن طريق( التقوى) .
ويرشدنا هذا إلى أنه لن يقوم بالتقوى حق قيامها من لم يمتلك ناصية العلوم كلها التي تثمرها القراءة، فلن تكون الأتقى مالم تكن الأعلم، ومالم تكن الأعلم فلن تكون الأكرم، وستفشل في مهمة التعارف المتقي، وستكون فريسة للشعوب الطاغية، وهذا ما ترشدنا إليه بقية سورة العلق: كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ (٦) أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ (٧) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰۤ (٨)﴾ [العلق 6-8]
لأن العلم الكوني هو وسيلة الاستغناء فالطغيان، فما من أمة تطورت علميا إلا طغت وبطشت، وتجاوزت حدودها ووظفت علمها في الطغيان لا التعارف المتقي، والتاريخ شاهد على ذلك، فويل للأمم الجاهلة التابعة، إنها صفر في سنة المدافعة.
إن القوة ورباط الخيل اليوم، علوم مرعبة فجرت الذرة وطاولت الكواكب البعيدة، فكيف ستتقي وأنت لا تملك أدوات الاتقاء؟! .
فالخلاصة إن دعاء الله باسميه الخالق والأكرم الذين أتيا مع أمري القراءة، يقتضيان أن تصنع علما كونيا يصنع الحضارة (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، وأن يكون هذا العلم الحضاري أو العمران قائما على الهداية أو التقوى (اقرأ وربك الأكرم) لعلاقة الإكرام بالتقوى كما أسلفنا من خلال تلاقح هذه الآية مع آية التعارف من سورة الحجرات.
ج. مفهوم العمل الصالح، أو الباقيات الصالحات والبحث العلمي:
إن مفهوم العمل الصالح مفهوم خطير لأنه يتعلق بالفعل الذي يغير الواقع ويصنع التاريخ والحضارة، فكل خلل يشوبه سينعكس تخلفا لذا وجب تطهيره.
والعمل الصالح هو الذي يقوم على السنن فيؤهل الشيء ليقوم بوظيفته، وانظر في قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }الأنبياء90.
فالصلاح هنا هو قوة واقتدار على أداء الوظيفة الخلْقية لا الخلُقية، وهي الإنجاب لأن المرأة صالحا خلُقيا فهي من الذين يسارعون في الخيرات، لذا فقد أصلح الله تعالى رحمها ليؤدي وظيفته، كما في تفسير الطبري: (كَانَتْ عَقِيمًا فَأَصْلَحَهَا بِأَنْ جَعَلَهَا وَلُودًا)[12]. ولن يكون العمل صالحا باقيا مالم يقم على السنن، والسنن لا يكتشفها إلا البحث العلمي، والعمل الصالح قرين الإيمان في آيات كثيرة، إذن فالبحث العلمي الذي يثمر العمل الصالح هو ثمرة الإيمان بالله تعالى، فالإيمان بالخالق أن تفقه المخلوق (اقرأ باسم ربك الذي خلق)؛ لأن البحث العلمي بمناهجه المختلفة سبيلنا لفهم آيات الكون، وعلى هذا يقوم العمران البشري في شتى مجالات الحياة (علم وحضارة)، ثم يأتي الوحي ليضمن تصويب وجهة العمل حتى لا يخدم الفساد (تقوى وهداية).
فالقنبلة النووية عمل بشري، لكن اتصال حاملها بالوحي الإلهي، سيجعلها عملا صالحا، فإن ملكها أهل الفساد كانت عملا فاسدا مفسدا، وتكمن هنا خطورة التخلف المادي!.
دعاوى لا وسطية
هناك دعوتان تهدمان فكرة الأمة الوسط، الشهيدة على الناس، الأولى من خارج المؤسسة الإسلامية وهم دعاة التغريب، أي الامتثال لنموذج الحضارة الغربية امتثالا كاملا دون أي خصوصية حضارية، والثانية من داخل المؤسسة الإسلامية وهي ثقافة الزهد السلبي الذي يفصل الدين عن الدنيا بدعوى طلب الآخرة، فيذهل حامله عن عالم الشهادة ويغرق في الغيب، أو يرى الحل كله في الماضي مقدسا إياه بدون تمحيص أو تمييز وهذا أيضا ذهول عن عالم الشهادة، والحاضر المعاصر يقيم الحجة على الدين والأمة بأنهما لا يصلحان للواقع المعاصر.
الدعوة الأولى تقصر الحياة على عالم الشهادة والدعوة الثانية تقصر الحياة على عالم الغيب، أما الأمة (الوسط) فلا تقوم إلا بهما معا، فإن قامت بإحداهما سقط وسطها فلن تشهد على الناس. ونذكر أن مفهوم الأمة الوسط ورد في سياق الحديث عن تغيير القبلة لينبيك الله تعالى أنها أمة ذات قبلة محددة وسمات محددة إن خرجت عنها فقد أضاعت كل شيء.
فيا لخطورة دعاة التغريب من المستغربين، وخطورة دعاة الزهد السلبي المريض أو دعاة الأثر، فيمن ينسب نفسه إلى السلف وفيمن ينسب نفسه إلى التصوف، والسلف براء من كل ذلك؛ لأنهم هم الذين بنوا الحضارة الإسلامية الكونية وبلغ بهم الإسلام ما بلغ.
خاتمة
إن الشهادة/ الحضارة خلق واقع حي، يعمر الأرض بالحق والخير والجمال بسياج من العلم والتقوى، تشهد عليه عيون العالمين، وليست شعارات أو أقوالا جوفاء. إنها خلق، لذا كانت الكلمة الأولى التي نزل بها الوحي: اقرأ باسم ربك الذي خلق، إنها قراءة باسمه الخالق حصرا، لتكون وسيلة إلى الخلق، خلق كل ما يعين على بناء حضارة الإيمان التي تكفكف أيدي الطغيان.
اقرأ هي المفتاح، وليست قراءة الكتب إلا بوابة لها، أو مرحلة، لأن القراءة الحقة تشمل العملية التعليمية كلها التي تدرك الواقع، واقع الأنفس والآفاق، أي العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، التي تقيم شهادة العمران، وتجعل من الأمة بل من كل فرد فيها آية تقوي منطق الإيمان والقرآن، تبيّن حقه في هذا العالم، مصداقا لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }فصلت/53.
فلكي يقود فهمنا للقرآن إلى حضارة قوامها العلم والتقوى، يجب أن يكون فهما صحيحا له ولكثيرٍ من مفاهيمه، الكلية كالتقوى والعلم والعمل الصالح والقراءة والخلافة، لتبصر الإنسان وتصوب عمله فيخلق لها ما يجسدها في الواقع من نظم ومؤسسات في شتى مجالات الحياة.
فكم من مسلم يظن أن العلم هو العلم الشرعي فقط، وأن التدين هو عكوف على الشعائر دون ربطها بعلم الحياة والأحياء؟، وكم من ظانّ أن العمل الصالح هو بضعة أعمال خلُقية من صدقة وبرٍ وتنفل؟. فلابد من تطهير هذه المفاهيم في العقل السليم لتثمر خلقا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والقوة العسكرية..كلُّ بحسب موهبته. وهذا يستلزم حتما العمل الجماعي المؤسساتي، فكل مجالٍ منظومة متكاملة تقوم على عمل الأفراد في جماعات متعالقة تحكمها شبكة علاقات سننية صحيحة، تحوّل مفاهيمها الأمرية إلى وجود خلقي قد يكون نظاما سياسيا أو تعليميا أو مؤسسة تقنية تصنع الأجهزة التي تكرم الإنسان وهكذا، مستنيرة بتشريعات الهدى القرآنية. تشريع من القرآن(تقوى وهداية)، وعلم كوني يرشد إليه القرآن والعقل وحواسه(شهادة وحضارة).
[1]-البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسير القرآن، تحقيق: محمد عبد الله النمر وآخرون، الطبعة4، المجلد 7، (القاهرة، دار طيبة للنشر والتوزيع، 1997 م)، ص179.
[2]-الباحث العربي
[3]-الباحث العربي http://cutt.us/vG9OF
[4]-الطبري، محمد بن جرير بن يزيد، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى، المجلد الثاني، ( القاهرة، دار هجر للطباعة والنشر، 2001).
[5]-أبو الحسين أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، الطبعة الأولى، المجلد الثاني، (دمشق، دار الفكر، 1979)، ص319.
[6] -البقاعي، إبراهيم بن عمر بن حسن ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، الطبعة الأولى، المجلد الثامن، (القاهرة، دار الكتاب الإسلامي، 1984).
[7]-أبو الفضل العسقلاني، أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، المجلد الأول، (بيروت، دار المعرفة ، 1960)، ص 226.
[8] -د. طالب الكثيري، العنوان: منهج فهم معاني الأسماء الحسنى والتعبد بها (1)، 22نوفمبر 2011.https://www.alukah.net/sharia/0/94888/#ixzz6HdD1IYwN
[9]-أبو سليمان عبد الحميد بن أحمد، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، الطبعة الأولى، ( القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر2009)، ص23.
[10]– الغزالي محمد، كيف نتعامل مع القرآن، الطبعة السابعة، (القاهرة، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2005)، ص 68.
[11]-الأنباري كمال الدين عبد الرحمن محمد، أسرار العربية، تحقيق بركات هبود، الطبعة الأولى، ( بيروت، دار الأرقم بن الأرقم)، ص36.
[12]-الطبري، محمد بن جرير بن يزيد، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، الطبعة الأولى، المجلد 16، ( القاهرة، دار هجر للطباعة والنشر، 2001).