توطئة
تفاعلا مع المقال الذي صاغه الباحث سلمان بونعمان حول “الخوف من الحرية في عالمنا العربي:، والذي سلط فيه الضوء بكل الوضوح اللازم على وضع الحرية في مجالنا التداولي العربي – الإسلامي؛ وضع أقل ما يقال عنه أنه ملتبس ومتردد أيما تردد من الحرية وآفاقها، بل قل أولويتها، لما يمكن أن نعتبره نهوضا ممكنا. أنطلق هنا من تساؤل بسيط: عن أي حرية نتحدث؟ ما الذي نقصده بداية بالحرية التي يمكن اعتبارها شرط وجوبٍ وصحةٍ لأي نهوض ممكن لمجتمعاتنا المنهكة بفعل أغلال تقيد توقها للحرية؟ إنني هنا أطرح سؤالا عزيزا على الفلسفة؛ أقصد سؤال الأصل والأساس، لكنه هنا في الواقع سؤال يتجاوز هم التأسيس نحو هم التفعيل؛ أقصد المرور إلى الفعل بما هو أساس ثانٍ للحرية التي لا تنفك بأي حال من الأحوال عن ممارستها.
إن الخوف الذي تحدث عنه الكاتب في المقال لا يعدو عن كونه خوفا من شيء مجهول؛ إذ الإنسان عدو ما يجهل كما قيل. لكن جهلنا بالحرية لا يجعلنا فقط أعداء لها بل ضحايا فقدانها. خوفنا من الحرية يفوت علينا فرصة التمتع بها؛ الشيء الذي يعني تفويتنا فرصة انخراطنا في دورة الحياة الحضارية (لا الطبيعية).
قليل جدا من الناس يستطيعون الادعاء بأنهم أحرار؛ ذلك أن كلمة حرية أمست من الاتساع والرخاوة بحيث أنه بالإمكان أن ننعت بها أي شيء ونلحقها بكل شيء، مثلما أنها قد لا تفيد أي شيء! كل الناس يتحدثون عن الحرية. فلاسفة وعلماء (ولو بمقابلها) ولاهوتيون، والأدهى سياسيون واقتصاديون، يثيرون السجالات التي لا تنتهي حولها، ويدعون أنهم يحاولون فهم كنهها للدفاع عنها. لكن هل يكون لهم ذلك؟ ذاك هو السؤال.
1- الحرية والهوية
لهذه الكلمة بريق خاص، إن لها مفعولاً سحرياً خاصة على أذن من يجد في نفسه حاجة للبحث عنها وإثباتها، ومن منا لا يجد في نفسه ذلك؟ يتحدد الإنسان بهوية ما على كل حال. ربما كان النقاش الحاد اليوم في العالم العربي حول الحريات الفردية، ينبع أساساً من تصور العلاقة القائمة بين هذين المفهومين؛ فأنصار الحرية الفردية ينظرون لها من منظور أن حرية الفرد إنما تنبع أساساً من ذاته، وهي بذلك ترفض وجود أي موانع من شأنها أن تعيق انبجاسها، وبالتالي فهوية الفرد هي حريته. أما المناهضون للحرية الفردية بهذا المعنى الليبرالي، فهم يعتبرون أن الحرية لا يمكن أن تقع خارج حدود معينة تؤثث لها، وبالتالي فحرية الفرد مرتبطة بهويته[1].
لكن الأخطر من ذلك كله، ما يمكن أن يحدث إذا تم ربط تلك الهوية بالحرية. صحيح أن هوية الإنسان لا تكتمل إلا بالحرية بل ذهب البعض إلى القول بأن حرية الإنسان هي هويته، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الحرية صفة لاحقة أو تابعة للهوية. لم لا يكون العكس هو الصحيح، بل هو الأصح؟ لم لا تكون الهوية صفة للحرية لا العكس؟ بهذا المعنى فقط يكون الإنسان متحرراً من كل ما يحدده اللهم إلا من حريته ذاتها.
يحدث أن تكون الهوية عائقاً أمام تحقق تحرر الإنسان وبالتالي اكتمال هويته. جل مشاكل العالم (والعالم العربي بشكل دراماتيكي) اليوم ناتجة عن هيمنة الانكماش الهووي على الانفتاح أو الانعتاق التحرري. يشير في هذا الصدد الفيلسوف أمارتيا صن (1933-) Amartya Kumar Sen إلى أن مصدر أغلب “النزاعات والأعمال الوحشية في العالم تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها”[2]. ويقود هذا التصور الأحادي للهوية إلى اختزال الآخر في آخر مهدد لها، مهدد لحريتها، بل لوجودها[3].
2- الحرية السالبة والحرية الإيجابية
يميز الفلاسفة عموما بين مستويين في فهم الحرية: حرية سالبة وأخرى موجبة. فالحرية الإيجابية يمثلها أولئك الذين يفكرون في كيفية ضمان تسيير الشأن العام باحترام للحقوق والمساواة (مرجعهم في ذلك إلى روسو وماركس)، في حين أن الحرية السلبية في حدها الأقصى تعني غياب الموانع الخارجية بإطلاق (مرجعهم في ذلك إلى هوبز وبنتام).
مفهوم الحرية الإيجابية هو مفهوم عن الاكتمال concept d’accomplissement. في المقابل، تعتمد نظريات الحرية السلبية على مفهوم للإمكان concept de possibilité، حيث تعني الحرية ما الذي يمكننا فعله، ما الإمكانيات التي نتوفر عليها للقيام بشيء ما([4]). لكن رغم أن الحرية السلبية تنطلق من مفهوم عن الإمكان إلا أن ذلك ليس ضرورة، فالنظريات السلبية مع ذلك تقحم أحياناً تصوراً عن الاكتمال أو الاكتمال الذاتي auto-accomplissement؛ إذ لا مجال للحديث بحال عن إمكانية وجود حرية بالنسبة إلى شخص لا يستطيع البحث عن اكتماله وليس لديه وعي بقدراته الذاتية. لا يمكن الحديث عن حرية ما لم يحقق الفرد ذاته بشكل أصيل بعيداً عن أي تأثير خارجي، لكن أيضاً وفقاً لأهداف وغايات تؤطر وجوده، وهنا قد تلتقي الحرية السالبة بالموجبة.
3- التفكير في التنوع كمدخل للتفكير في الحرية
غالبا ما يطغى على الحديث عن التنوع ارتياب وتوجس من إمكانية سوء استغلال الدعوى به؛ إذ رغم أنه يشكل الأصل على اعتبار أن وجود الاختلاف بين الأفراد وبين الجماعات مسألة بديهية، إلا أن الواقع قد يثبت العكس، وإلا فما تفسير كل الويلات التي عاشها ويعيشها ويمكن أن يعيشها العالم في المستقبل بسبب عدم قبول هذه البديهية؟! وإن شئت القول إن هذه المسلمة تعرضت للانتهاك دائماً حتى نادت الأمم المتحدة بأنه من الواجب “الاعتراف بالتنوع الثقافي الموجود بين الشعوب والأمم على الصعيد العالمي”[5]. يزداد الأمر سوءاً عندنا في العالم العربي إذا ما علمنا أن التركيز على الخصوصيات الثقافية يهاجم من الطرفين: الداعي لضرورة تبني الحرية الليبرالية كما الداعي إلى تقييدها؛ فالطرف الأول يعتبر الركون إلى الخصوصية الثقافية نوعاً من الارتداد إلى الاستعباد والتراجع عن قيم الحرية والانعتاق، والطرف الثاني يعتبرها نوعاً من اللعب على وتر الخصوصية لنقل ما هو خاص إلى مستوى ما هو عام أو ما هو شاذ إلى ما هو طبيعي.
لذلك يعتبر هذا الموضوع من بين أخطر المواضيع التي تطرح للنقاش اليوم؛ ذلك أنه بقدر ما يتبنى العالم اليوم التنوع الثقافي ويدعمه عبر مؤسسات سياسية وثقافية واقتصادية عالمية (على رأسها الأمم المتحدة ومنظماتها) بقدر ما يزداد التخوف من عودة أشباح العرقية والعنصرية والطائفية المرعبة، بسبب التركيز على ذلك التنوع باعتباره سبيلاً للتفرقة بين الشعوب والأفراد وعرقلة التنوير والحداثة والوقوف في وجه “ثورة” حقوق الإنسان والتحرر. لكن يزداد التخوف أيضاً من فقدان البوصلة وحرمان الإنسان، بدعوى التحرر، من أرض صلبة يطأ عليها. يقول هؤلاء: لنا عبرة في ما وصلت إليه الحرية الليبرالية في الغرب من تفسخ حتى ما عاد لها من معنى.
تحظى الدراسات الثقافية والقضايا المتعلقة بالتنوع الثقافي في الغرب بالكثير من الاهتمام على عكس ما نسجله في العالم العربي. يمكن القول إن ذلك راجع إلى أسباب كثيرة؛ فمن جهة هناك التركيبة المتنوعة لسكان مجموعة من الدول (سكان أصليون، أقليات تاريخية عرقية وثقافية) إضافة إلى التغيرات البنيوية التي تعرفها المجتمعات هناك بسبب الهجرة والعولمة، ومن جهة أخرى هناك جهود فكرية كبيرة تبذل في هذا المجال (رغم عدم كفايتها) خاصة مع الدور الكبير الذي تلعبه العلوم الاجتماعية إضافة إلى وسائل الإعلام والرأي العام ومؤسسات المجتمع المدني.
4- موانع الحرية في السياق العربي المعاصر
ما الذي يعيق العالم العربي اليوم عن تذوق طعم الحرية؟ ما الذي يجعل حرياتنا أقرب ما تكون عبودية للهوية عوض أن تكون هذه علامة على اكتمال الأولى؟ ولماذا لا يكون تنوعنا عامل دعم لحرياتنا عوض أن يكون سبب ويلاتها؟ ولماذا لم نفد من دروس الماضي الاستعماري (باعتباره عامل استعباد) لنتجاوزه نحو التحرر؟ ربما لن يسعنا الوقوف عند دقائق الجواب لأن ذلك يتطلب جهوداً بحثية كبيرة، لكن يكفي أن نشير إلى ثلاثة عوائق يمكن القول إنها الأبرز:
1.4- طغيان الهوية على الحرية: الطابع القبلي والطائفي للمجتمعات العربية
لا يخفى على أحد أن المجتمعات العربية والإسلامية، شأنها شأن كل المجتمعات، مرت بتحولات سياسية وتاريخية وسوسيو ثقافية مختلفة وعميقة شكلتها أو أعادت تشكيلها وطبعت سيرورتها التاريخية، لكن الثابت في تلك العملية الطويلة أنها لم تستطع التخلي عن الطابع القبلي والطائفي الذي يميزها والذي يفعل فعله في مستويات عدة فردية وجماعية، يفعل فعله في مستوى تمثل الأفراد والجماعات للحرية ولمجالها وحدودها. وإذا كانت الدراسات في هذا الباب كثيرة، فإننا نجد معظمها انحصر في تأمل ودراسة تأثير القبلية على الجماعة وعلى الدولة أساساً دون الفرد، وفي المستوى السياسي دون غيره[6].
طفا إلى السطح اليوم الحديث عن عودة القبلية والطائفية من جديد بعد أحداث الربيع العربي، وما كشفت عنه من تغلغل للفكر القبلي والطائفي جعلته في مقدمة العوامل المؤججة للصراعات المندلعة في مناطق كبيرة من العالم العربي[7]. ورغم أن الرابطة القبلية لم تعد بتلك الحدة في الحياة المدنية والوطنية التي عرفتها المجتمعات العربية خاصة بعد الاستقلال وقيام الدولة الوطنية، إلا أن حضورها كمكون جوهري وعميق في الثقافة العربية وفي البنية الذهنية والسيكولوجية للأفراد والجماعات، جعلهم اليوم يتقبلون تأثيرها بل يقبلون عليها ويتبنون مفاهيمها وقيمها، خاصة في ظل انعدام البدائل واليأس من إمكانية حصول التغيير المنشود عبر المؤسسات المدنية التي انعدم تأثيرها وأثرها في حياتهم. يمكن القول إن الأحداث اليوم تكشف عن عودة الفرد العربي إلى الكيانات التقليدية في مقدمتها الهوية القبلية التي يحس بأنها يمكن أن توفر له الحماية وتحقق له الاستقرار وتمنح وجوده المعنى، وتمنح معه الشعور بالتحرر من قبضة السلطة، إضافة إلى أن قيم العشيرة لا تزال حاضرة وراسخة في وجدان الفرد وممارساته، ولا تزال عنصراً حيوياً في تشكيله لصورته عن ذاته وعن المكان الذي يحتله في العالم.
هناك من يفسر ذلك بالأزمة التي تعيشها الذات العربية المعاصرة والتي هي امتداد للأزمة التي يعيشها مجتمعها؛ فعندما يتعرض المجتمع لأزمة طاحنة أو خطر داهم نعود إلى هذه الانتماءات التي نجد فيها الأمان والطمأنينة، أو نستعملها كأدوات لتحقيق المصالح وكسب المنافع – ما يطلق عليه غيرتز بالولاءات الوشائجية. هنا ينكشف زيف الحداثة وينكشف معها زيف الاعتقاد أن التعددية الحضارية –الديمقراطية تستطيع أن تنجي العرب من التخلف”[8]. لكن لا بد من الانتباه إلى أن هذا الوضع اليوم وإن كان فعلاً يؤشر على عودة هذا الخطاب الهووي القبلي إلا أنها عودة خاضعة لظروف معينة هي من أذكتها، يمكن القول إنها تشكل ردة فعل أكثر من اعتبارها ثابتاً.
2.4- ما بعد الاستعمار: الدولة المعطوبة
لكن حتى وإن افترضنا أن القبيلة لم تعد حاضرة إلا كتمثل أو كرابطة سيكولوجية لدى الأفراد والجماعات يركنون إليها في سبيل تحقيق نوع من التوازن بين قسوة السلطة وعدم إمكانية مجابهتهم لها؛ فإننا لا بد أن نتساءل هنا هل استطاعت المجتمعات العربية اليوم وبعد حصولها على الاستقلال وبناء الدولة الوطنية تمكين أفرادها من مبتغاهم: الحرية؟ لا يحتاج الجواب إلى كثير من التفكير. لقد كان أمل الشعوب العربية كبيراً بعد أن ضحت بالغالي والنفيس في سبيل التحرر من الاستعمار بناء أوطان ودول حديثة، لكنها استفاقت على وهم الحرية وبدأت معركة التحرر من الاستبداد بأشكال وفي مستويات عدة من التنظير الفكري إلى النضال السياسي مروراً بالاحتجاج الاجتماعي.
اعتقد الكثيرون أن قيام دولة وطنية بعد التحرر من الاستعمار كفيل بضمان الحريات الفردية من خلال بنيات ومؤسسات وقوانين حداثية وديمقراطية، لكن الفشل في ذلك كشف عن أن استيراد المفاهيم والمصطلحات واستحضار التجارب بل حتى استيراد مظاهر التحديث المادي لا يعني بالضرورة حصول التحرر الحضاري والثقافي بل وحتى السياسي. ليست المسؤولية في فشل قيام الدولة كما تخيلناها كلنا تقع على عاتق طرف دون الآخر؛ فكل النماذج انهارت ولم تستطع الصمود في امتحان المشروعية أو الشرعية أو الواقعية. وبقي حلم التحرر فردياً كان أو جماعياً مجرد حلم.
انهارت دولنا أو فشلت من نواح عدة في مقدمتها انهيار القانون والنظام حيث فقدت المؤسسات القدرة على الحفاظ على مشروعيتها وحتى شرعيتها أحيانا لتصبح وسيلة لقمع المواطنين وإرهابهم، كما فشلت في تلبية حاجيات المواطنين وتوفير الخدمات العامة الأساسية وضمان رفاههم وتحقيق تنمية مستدامة، وفشلت في مستوى أعلى حين لم تستطع الحفاظ على سيادتها أمام العالم حيث فقدت مصداقيتها خارج حدودها وخضعت بسهولة لأجندات مؤسسات الهيمنة العالمية.
3.4- السياق العالمي: سياسة العداوة
لم يزدد العالم المعاصر مع صعود التيارات اليمينية وتنامي النزعات العنصرية والقومية إلا بعداً عن احترام التنوع بله تبنيه. لكن ما هو أدهى من ذلك، يعاني العالم العربي من سياسة أقل ما تنعت به أنها عدائية تجاهه، وهذا سبب ثالث كان وراء إعاقة مشاريعه التحررية.
يعاني الغرب “الديمقراطي” من تناقضات عدة في مستوى مناداته ودعمه لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتحرر؛ ذلك أن الديمقراطية الغربية بقدر ما كانت قادرة على تجديد ذاتها ومعالجة نقط ضعفها والصمود في وجه أعدائها، بقدر ما كانت حاملة لأضدادها ومناطق ظل فيها، ما أطلق عليه الباحث أشيل مبيمبي:”جسد الديمقراطية الليلي”. وبعيدا عن نظرية المؤامرة، وبين الماضي الكولونيالي وحاضر مأسسة الإرهاب كنوع من سياسة الخوف من الآخر وسياسة الموت كنوع من مراقبة العالم، لا يمكن التغاضي عن الفوضى التي يعيشها العالم، أو ربما نهاية العالم التي يساهم فيها الجميع ويدمرون فيها إمكانية التحرر. يقول مبمبي في مقطع يعبر عن الوضع بدقة:
فجل الحروب المعاصرة وأشكال الرعب المتصلة بها لا تهدف إلى الاعتراف ولكن إلى بناء عالم خارج العلاقة. سواء اعتبر أمراً مؤقتاً أو غير ذلك، يرتكز بشكل مفارق تسويغ مسار الخروج عن الديمقراطية، وحركة تعليق الحقوق والدساتير والحريات، على ضرورة حماية هذه الحقوق والحريات والدساتير نفسها. ومع الخروج والتعليق تأتي الزريبة – كل أشكال الجدران والأسلاك الشائكة والمحتشدات والأنفاق والأبواب المغلقة”[9].
ربما لسنا هنا في حاجة إلى التذكير بأن الدراسات ما بعد الاستعمارية عكفت على تسليط الضوء على الدور السلبي جدا للمركزية الغربية في إعاقة سبل تحرر الشعوب المستعمَرة أو حديثة الاستقلال، وتوجيه نقد لاذع للفكر الغربي ومدى تسلطه ومحاولته محو وإزالة معالم الثقافات التي استعمرها ونهج أساليب مقيتة لاستصغار الآخر ونبذه وإبادته حتى أمست الديمقراطية الغربية محط نقد لاذع([10]).
ختاما
عودا على بدء، نبهنا مقال الأستاذ بونعمان إلى أن الخوف من الحرية يجعلنا أشد عرضة لخطر الاستبداد والهيمنة والتسلط، مثلما أنه يجعلنا أقرب إلى نوع من الانغلاق الهووي ووهم التفرد والخصوصية. نبهنا المقال أيضا إلى أن الحديث عن الحرية بالتجريد خلو من المعنى لسبب بسيط: لا حرية إلا وهي مقترنة بممارستها. إن الحرية هي حرية تعبير عن الرأي وحرية ممارسة مستقلة للتفكير وحرية مساهمة فعالة في الشأن العام…إلخ. لكن هذا يعني أيضا نوعاً من التقييد لا يُفهَم ولا يجد له مبرراً إلا عبر التحول من الحديث عن الحرية إلى الحديث عن التحرر. ما نحتاجه في الواقع هو نوع من إعادة اكتشاف للذات (فردية وجماعية) أساسه الإبداع والنضال المستمر في ثلاثة اتجاهات: اتجاه التخلص من رواسب الارتهان لماض لا يعدو عن أن يكون ماضياً؛ أي ماضٍ يحتاج منا أن نقرأه بعين النقد إلى جانب الشعور بالانتماء الحقيقي إليه. ثم اتجاه التخلص من واقع الاستلاب لحاضر لا ننتمي إليه إلا بحكم الضرورة، والضرورة هنا دليل قاطع على غياب القدرة على التحرر. وأخيرا اتجاه استشراف مستقبل وحدنا من يجب أن نحدد معالمه.
المراجع:
1- العربية:
بشارة، عزمي، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2015.
الجابري، محمد عابد، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط5، 1992.
صن، أمارتيا، الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 352، 2008.
مبمبي، أشيل، سياسات العداوة، ترجمة طواهري ميلود، بيروت: دار الروافد الثقافية، 2019.
2- الأجنبية:
Charles Taylor La liberté des moderne, Essais choisis, traduits et présentés par Philippe de Lara, Paris : PUF, coll. « Philosophie morale », 1997
الهوامش
[1] – حوادث كثيرة في المغرب جرت نقاشاً حادا في هذا الصدد خاصة ما تعلق بالممارسات الجنسية والتي قسمت الرأي العام المغربي بين محافظين يرون في ممارسات من هذا القبيل (سواء تعلق بالجنس خارج مؤسسة الزواج أو الجنس المثلي) ابتعاداً عن تعاليم الدين وعن ثقافة المغاربة وبين من اعتبرها من صميم الحريات الفردية. كما يمكن أن نشير إلى الدعوات المتكررة لبعض الأقليات الدينية (المسيحية والشيعية خصوصاً) برفع التضييق على ممارسة شعائرها.
[2] – أمارتيا صن، الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، عدد 352، 2008، ص. 11.
[3] – قد تأخذ الهوية هنا أشكالاً مختلفة: دينية أو طائفية أو جنسية أو حتى طبقية..
[4] – Taylor, Qu’est ce qui ne tourne pas dans la liberté négative ? In la liberté des modernes, (Essais choisis, traduits et présentés par Philippe de Lara), Paris, PUF, coll. « Philosophie morale », 1997, p. 258-259.
[5] – حقوق الإنسان والتنوع الثقافي، قرار رقم 91/55، تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، الجلسة العامة، 4 دجنبر 2000.
كما تبنت الأمم المتحدة أيضاً سنة 1992 إعلانا بشأن حقوق الأشخاص الذين ينتمون إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية.
[6] – تنطلق جل هذه الدراسات من الإرث الخلدوني حول العصبية والملك والعلاقة القائمة بينها والإشكاليات التي تثيرها والتي ساهمت في فهم تحولات المجتمعات العربية في العصر الوسيط، وقد امتد تأثير هذه النظرية إلى حدود الفترة الحديثة وما قبل وما بعد نشوء الدولة الوطنية. انظر في هذا الصدد العمل المهم: محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط5، 1992.
[7] – ليست النزعة القبلية في مستواها السيكولوجي طبعا وحدها المسؤولة عن إذكاء مثل تلك الصراعات، هناك عوامل موضوعية سنأتي على الإشارة إليها فيما سيأتي.
[8] – عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2015، ص 115.
[9] – أشيل مبمبي، سياسات العداوة، ترجمة طواهري ميلود، بيروت: دار الروافد الثقافية، 2019، ص 66-67.
[10] – نشط الخطاب ما بعد الاستعماري منذ سبعينيات القرن الماضي باعتباره رد فعل تجاه سياسات العداوة التي نهجتها وتنهجها الدول الغربية تجاه دول العالم ما بعد الاستعماري، وقد حمل مشعل هذه الدراسات مفكرون وباحثون أغلبهم كانوا مستقرين في الغرب، من بينهم المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بدراسته المتميزة الاستشراق إلى جانب الدراسات والأدب الإفريقي والهندي المهم في هذا الصدد.