ينتشر بين كثيرين خطأ افتراض وجود علاقة ايجابية بين زيادة التبادل التجاري وبين تحسن العلاقة السياسية والاستراتيجية بين الدول. سبب تبني هذا الافتراض الخاطئ من قبل العديد من المحللين والمفكرين هو التعامل مع معطيات السياسة الدولية الحديثة بعدّة مفهومية قديمة.
قبل سقوط الاتحاد السوفييتي كان النظام العالمي ذو قطبين. هذه الثنائية القطبية المؤسَسة على التباين الإيديولوجي بين الشيوعية والرأسمالية أنتجت مواقف حادة في السياسة الدولية. فكان انتماء دولة ما للقطب السوفياتي يعني عدائها الكلي (السياسي والاقتصادي) للقطب الأمريكي والعكس. ولذلك حينها كان الموقف والتموضع السياسي له تبعات اقتصادية مباشرة حيث يُتوقع تدهور العلاقات الاقتصادية بين البلدان بسبب المواقف الاستراتيجية والسياسية المتضادة.
تغير الأمر بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتحول النظام الدولي الى نظام ذو قطب واحد. أصبح استقرار معظم الدول مرهونا بتقبل سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد السياسي الدولي ولو على مضض. عندئذ، تفككت العلاقة بين المواقف السياسية والمصالح الاقتصادية، اذ معظم الكيانات السياسية صارت تتحرك في الإطار نفسه الذي ترسم حدوده الولايات المتحدة؛ وبالتالي لم يعد ثمة ضرورة تقتضي تضييع المصالح الاقتصادية التي يحددها ويستفيد منها القطاع الخاص عند تضارب المصالح السياسية او الاستراتيجية التي يحددها القطاع العام (الدولة). فرأس المال الاقتصادي الذي يستحوذ على جله القطاع الخاص شديد السيولة والتنقل بحثا عن الربح بينما رأس المال السياسي الذي يستحوذ عليه القطاع العام أكثر جمودا. وبسبب هذا التباين بين طبيعة رأس المال الاقتصادي والسياسي الذي قد يخلق اشكاليات عديدة على مختلف الأصعدة؛ جاء الحل في عصر القطب الواحد على شكل تفكيك العلاقة بين الاقتصادي والسياسي بحيث يصبحا منفصلين عن بعضهما فلا يؤثر أحدهما على الاخر ضرورة.
جراء ذلك التحول انتشر في أدبيات العلاقات الدولية مفهوم يعكس:
أولا) هذا التغير الحاصل في طبيعة العلاقات بين الدول وسيطرة القطب الواحد على جميع تلك العلاقات.
وثانيا) تلك التوليفة التي تحل الاشكال الناتج عن تباين طبيعة الرأس مال الاقتصادي من جهة والسياسي من جهة أخرى.
انه مفهوم “الصديق-العدو”. فالدولة “الصديق-العدو” هي دولة قد تُعادى مصالحها السياسية وتُصادق مصالحها الاقتصادية او العكس.
عدم إدراك هذا التغير الحاصل في المفاهيم السياسية قد يكون السبب الذي يدفع الكثيرين الى الوصل بين الاقتصاد والسياسة في عصر تفككت فيه العلاقة بينهما على المستوي الدولي. فعلى سبيل المثال، تجد من يعتبر ان العلاقة السياسية، التركية-الاسرائيلية، في تحسن مؤخرا بسبب زيادة التبادل التجاري بين البلدين. مع ان جميع المعطيات تشير الى تدهور العلاقة السياسية بينهما وزيادة حدة التعارض في مصالحهما الاستراتيجية. وللمفارقة قد تجد نفس الشخص ولدوافع ايديولوجية يعتبر ان العلاقات السياسية التركية-الاماراتية في تراجع متجاهلا زيادة التبادل التجاري بين تركيا والامارات على مر السنوات الأخيرة. ولو طبق تحليله السابق الذي يفترض حصرية العلاقة الايجابية بين المصالح السياسية والاقتصادية لخلص الى ان الامارات في توائم سياسي واستراتيجي مع تركيا. وهذا قطعا خاطئ. انه لمن الأسلم اعتبار تركيا تتعامل مع كل من الامارات واسرائيل على أنهما دول “صديقة-عدوة” قد يستفيد القطاع الخاص من مصادقتها على الصعيد الاقتصادي رغم عدائها على الصعيد السياسي، والعكس صحيح. باستعمال مفهوم “الصديق-العدو” لتحليل العلاقات بين الدول يمكننا حل اشكالية التعارض بين العداء السياسي والتقارب الاقتصادي التي نجدها حاضرة في دول عديدة، كالصين وأمريكا والامارات العربية المتحدة وإيران وتركيا وإيران وغيرها من الدول شرقا وغربا..
نستنتج إذا انه لا علاقة ايجابية ضرورية بين المصالح السياسية/الاستراتيجية التي تحددها الدولة من جهة والمصالح الاقتصادية/التجارية التي يحددها السوق او القطاع الخاص من جهة أخرى. ونختم بنصيحة: لا تتمسكن تمسكا شديدا بمفهوم يحده زمان ومكان. فالمفاهيم التي من خلالها نرى ونحلل عالم اليوم والتي لا نتصور انتهاء فاعليتها تتغير بتغير الحقبات والأزمنة. فالبارحة كان مفهوم العدو(المطلق/الكلي) هو الذي نقرأ من خلاله الأحداث على صعيد العلاقات الدولية واليوم أصبح مفهوم “الصديق-العدو” هو الذي من خلاله يجب أن تُقرأ أغلب المشاهد والأحداث.