في أدبيات البحث العلمي في علوم الكون والطبيعة خاصة، يكتسب البحث قوته كلما جدّتْ مراجعه إلا عند متدبري الكونيات في القرآن، فإنه تفسيره يقوى كلما اقترب من القرون الأولى.
المفارقة العجيبة أن من هؤلاء من يكون مختصا في علم طبيعي حديث. وبدأت من هنا، أي من العلم الطبيعي لأن الخطأ فيه أكثر وضوحا ويسهل كشفه، لأن أثر الزمن فيه صارم، أي إنه علم ينقد تراثه باستمرار ويصوبه بسبب تجدد مناهج بحثه وأدواته، فمن يرى اليوم بالمجهر والتلسكوب ليس كمن كان يستعمل عينه فقط. لذا فإحراج الماضويين هنا، سهل جدا، أما إذا تقدمنا خطوة إلى العلوم الإنسانية أو الاجتماعية، يصبح الأمر أكثر صعوبة ويزداد تعنت الماضويين. ففي هذه العلوم هناك علم اللغويات والنفس والإناسة(الانثروبولوجي) وعلم الاجتماع بتفرعاته الكثيرة وهي علوم تشاكسها آثار كثيرة في علومنا الدينية النقلية..وأيضا تطورت مناهجها وأدواتها، وأصبح لها عقول جديدة بكل ما تعنيه الكلمة.
إن الإشكالية الكبيرة كيف نقرأ قرآننا على ضوء هذه العلوم الجديدة كلها، مع التنويه على نقطة مهمة: ليس كل ما في الماضي خاطئا أوسيئا أو لا يصلح -كما يريد البعض- لذا لا بد من نسفه كله، فالأمر خاضع للنقد المنهجي الذي لا يقدس قولا أو فكرة ويضعه على محك الاختبار، والعقبة الأساسية هي تحديد الثابت والمتحول، الماكث والذاهب، المحكم والمتشابه، ما الذي يخلد فلا زمن يغيره، وما الذي لا بد أن يتغير لأن للزمن كلمته فيه، وأم العقبات هي عقول تطاولت بالمحكمات حتى جعلت أقوال البشر منها فجعلتْها دينا لا بد أن نصيّر الواقع على مقاسه، مع أن الأصل أن تبتدع رأيا جديدا يناسب واقعك، هذه العقبة الأساسية-برأيي- هي معضلة الحضارة التي تنطلق من دين، أو معضلة الإنسان المتدين خاصة(وأقصد به الذي ينطلق من رؤاه للكون ولنفسه من نصوص دينية)، لأن الخطأ في استنباط معادلة الفهم الدقيقة من النصوص على ضوء الزمن حاضره وماضيه، سيكون جسيما جسيما يخرج بالإنسان من أبسط مبادئ الفطرة التي يهتدي بها إنسان وثني بلا وحي، لذا فهذا ينجح وصاحب الوحي يفشل.
وهذا ملاحظ بقوة في عالمنا الإسلامي، إن هذا الخطأ يخلّق الاجتماع الإنساني تخلقا مشوها (مضغة غير مخلقة) أي منظومات مريضة تضطرب العلاقات بين عناصرها، فتصبح الرجل رأسا، ويمشي الجسد على رأسه لا قدميه، كصاحبنا الأكاديمي الذي ذكرته أول المنشور ، فهو يهتدي بمعلومات العلم الحديث إن باشر الواقع، لكن عقله يسير عكسا إن وقف أمام آية قرآنية.
في الدين جزء ثابت وآخر متحول، جزء غيبي وآخر شهودي، ويوم اختلطت مفاهيم الغيب والشهادة لدينا، تعطل مفهوم الزمن والتغييير في قطاعات كثيرة، فسبقنا غيرُنا ولا نزال ندور في نفس الفضاءات،
وظني أننا لو كنا وحدنا في هذا الكوكب لكانت البشرية أنقص عمرا بعدة قرون لأننا أمة تدور حول نفسها ولا تتقدم إلى الإمام، والأمة الدوارة، إنسانها لا يحسن إلا إعادة التدوير، لذا فلا يعنيه خط الزمن….