ظهرت العلوم الإنسانية في العصر الحديث باعتبارها علوما متصلة بالإنسان في أبعاده النفسية والعقلية والاجتماعية وغيرها، وهي أبعاد ذات طبيعة تفاعلية تركيبية تثير إشكالات عدة على مستوى تصنيفها، وفهمها، وتفسيرها، وتوجيهها، والتنبؤ بها. ولئن كانت هذه العلوم علوما حديثة من حيث بناؤها المنهجي والمعرفي المستقل فإن لها تاريخا تمتد جذوره في مختلف حضارات الإنسانية، مما بوأها مكانة خاصة وموقعا متفردا ضمن منظومة المعارف الكبرى.
ومنذ أن كلف الله تعالى الإنسان بمهمة الاستخلاف والعمران في الأرض، انطلق يضرب في الأرض سيرا ونظرا وتسخيرا، مولدا مجموعة من المعارف تساعده على تحقيق ذلك. ثم تطورت أحواله، ونمت طبائعه، واستشعر قلقه الوجودي، فراحت تتناسل لديه الأسئلة والإشكالات الوجودية الكبرى، وكانت رسل الله –الذين ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم -تأتي تترى لإنقاذ هذا الإنسان وتمكينه من هدايات السماء، وتفهيمه مقاصد خلقه ومقتضيات استخلافه.
وقد تفاعلت حضارات العالم وثقافات الشعوب، وتشابكت المعارف وتفرعت العلوم، وتنوعت المناهج وتشاكلت الاتجاهات والفلسفات، وتعددت التصنيفات والتقسيمات؛ بين علوم شرعية، وأخرى اجتماعية وإنسانية، وأخرى كونية مادية. ومع تطور العلم وولوج عالم الانفجار المعرفي وتدخل عوامل سياسية واقتصادية وثقافية تمكنت أوربا من أن تحتضن استقلالية حقول معرفية موضوعها الإنسان، وذلك خلال القرن 19م، واستطاعت أن تفصلها عن الفلسفة فكانت العلوم الإنسانية. وهو ما حدا بهذه العلوم إلى إعادة تشكيل النظام المعرفي لبنيتها الداخلية بما يتوافق مع خصوصية الموضوع المدروس.