إن تاريخ العلم طافح بالعديد من الأفكار والمعتقدات المنتشرة التي أضحت عبارة عن مسلمات غير قابلة للنقد ولا التشكيك، وهذه الشائعات تخترق معظم التخصصات الفكرية وفي كل المجتمعات، وإذا كانت مهمة الفكر الفلسفي عبر العصور هي وضع مثل هذه الأفكار محل نقد ومساءلة، فقد نجد أحيانا أن أرباب الفكر الفلسلفي وحاملوا لواء الحكمة يسهمون في تأكيد وترسيخ بعض هذه الأفكار الشائعة في الثقافات وتبريرها لأسباب شتى.
إن هذه المقالة عبارة عن مراجعة لكتاب «أسطورة العنف الديني: الآيديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث» للفيلسوف والمحاضر البريطاني وأستاذ اللاهوت في جامعة دي بول الأميركية وليام كافانو، الصادر عن عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة أسامة غاوجي، الطبعة الأولى سنة 2017م، الذي يتحدى فيه واحدة من أهم الأفكار الشائعة التي تعدى مجال رواجها المجتمعات الغربية المسيحية التي نشأت فيها ليشمل تأثيرها باقي المجتمعات والثقافات الإنسانية وهي الفكرة القائلة بأن للدين نزوعا نحو العنف يميزه عن باقي الأديولوجيات والأنظمة الفكرية العلمانية الأخرى.
أسطورة العنف الديني: البنية والحجج.
إن جوهر أسطورة العنف الديني هو الفكرة القائلة بارتباط الدين بالعنف أو على الأقل أنه السبب المباشر في أحداث العنف، وهذه من أشد الأفكار انتشارا سواء عند الطلبة والإعلام وغير ذلك من المجالات، وإن الدراسات الأكاديمية تقدم أدلة وحجج لدعم هذه الفكرة (الأسطورة) التي تبدو وكأنها فكرة مطلقة غير قابلة للدحض، وقد لاحظ كافانو أنه باستقراء العديد من الأعمال الأكاديمية التي تناولت ظاهرة العنف في علاقته بالدين والتي رغم أنها تقدم مفهوم الدين بشكل مشوش وغير واضح، إلا أنه يظل في هذه السرديات معطا ثابتا يخترق التاريخ والثقافات، ثم اشتبك مع الأدلة والحجج التي تقدم على أنها مبررات تؤكد تزوع الدين نحو العنف.
أولا: الدين مطلق غير نسبي.
يميل جمهرة من الأكاديمين والباحثين إلى اعتبار أن خاصية إطلاقية الوحي والأديان، تقف وراء نزوعها إلى العنف، وتتجلى الإطلاقية في كونها تعتبر ذاتها متفوقة على غيرها في امتلاكها للحقيقة المطلقة وأنها تقع في المركز، مما يعني أنها نتظر بعين الازدراء والتحقير لغيرها من الأفكار، والمشكلة هنا أن من يفعل هذا لا بد وأن ينطلق من تصور للدين يعاني من انحياز غير مبرر، فالواضح أن أي تحديد لدلالة الدين لا بد وأنه يدخل بعض الظواهر فيه ويستثني أخرى منه، وعندما لا تكون أي معايير محددة للتصنيف فإن الحل هو محاولة تذويب الدين، وبالتالي سيختفي معه الحد الفاصل بين الديني والعلماني، وتصبح عندئذ كل الحجج اعتباطية ولا معنى لها.
إن المشكلة هنا هي عدم القدرة على تقديم طريقة مقنعة للتمييز بين الديني والعلماني، فالظواهر التي تميز الدين غير مطردة ولا هي محل اتفاق وما يعتبره هذا الباحث دينا قد ينفيه الآخر، إذا فالتمييز بين الديني وغير الديني أصبح محل مساءلة مشروعة، وعند التدقيق في حجة الإطلاقية نلاحظ أن القومية بهذا الاعتبار تعتبر دينا في مستوى الأديان الكبرى، وذلك لأنها تدعي حيازة الحقيقة المطلقة التي تتجلى في حيازتها للحق والخير ودفاعها عنهما، كما أنها تتميز ببعض الخصائص الأخرى التي يحلو لبعض المحللين إلصاقها بالظاهرة الدينية مثل الطاعة العمياء، وإعلان الحروب المقدسة وغيرها، مما يعني أن فكرة ارتباط العنف بالدين تفتقد إلى أي أساس تفسيري قوي يدعهما.
هناك من الكتاب من تفطن إلى أن نفس خصائص الدين قد توجد في غيره من الأديولوجيات، وبالتالي حاول توسيع دلالة الدين لتشمل كل الأشكال والممارسات التي تعطي لحياة الناس معنى وتتجاوز متطلباتهم البيولوجية، أي أن الإنسان يصير وفق هذه الرؤية متدينا رغما عنه وهو مقهور بالمطلق لا فكاك له عنها، فطقوس مشاهدات مباريات كرة القدم والاستهلاكية والانسانوية والعلمانية بهذا الاعتبار تعتبر أديانا كذلك، ومن البين أن هذا التعميم قد أفرغ مقولة اختصاص الدين بالعنف من أي معنى وبالتالي صار حجة ضد صاحبه.
ثانيا: الدين انقسامي؛ نحن وهم.
ترى هذه الحجة أن الدين يؤسس لمشكل على مستوى “الهوية” فهو يقسم الناس إلى “نحن” و”هم” وهذا التقسيم له فائدة عملية تتجلى في إقصاء أولئك الـ “هم” ووضع حدود بينهم وبين جماعة الـ “نحن” التي لها امتياز احتكار الإيمان والتحدث باسم المقدس، أن الدين بهذا يغذي الولاءات القبلية والإثنية، وكالعادة فإن مشكلة تحديد دلالة الدين تبقى حاضرة، كما أن مشكلة شمول خصائص الدين لظواهر أخرى مثل السياسة تبقى حاضرة كذلك، فبأي معيار نفصل بين الدين والسياسة؟
يشير كافانو أنه أمام هذه المعضلة لا يكون الحل إلا الالتفاف عليها، أما المفارقة الغريبة فهي أن هذا “الغموض” في تحديد دلالة الدين وبالتالي تحديد حدود الديني والسياسي، يتحول إلى “وضوح” بطريقة غير مبررة في إدانة الدين بالعنف، وفي المقابل تجاوز العنف الذي من الممكن أن يصدر عن غيره من الأيديولوجيات الأخرى، إن هذا الموقف الملتبس هو وليد النظر إلى الدين باعتبار أن له جوهرا ثابتا عابرا للتاريخ والثقافة، وأن طابع الانقسامية الذي يتميز به هو الذي يقف وراء شيطنة الآخر واستبعاد أية إمكانية للتعايش السلمي والحوار المتبادل.
إن الرؤية التي ترتكز على مقولة انقسامية الدين تسقط في فخ التداخل بين المجال الديني والمجال السياسي وهو تداخل لا يمكن الانفكاك من منه باعتراف الباحثين الذي يدعمون هذه المقوله، وهنا يحاول الكاتب توضيح أن كل مبررات العنف الديني يمكن أن تكون هي نفسها مبررات للعنف السياسي، فهو يفند مثلا الاعتقاد بأن العنف الديني يكون “رمزيا” أي أن أهدافه الحقيقة تكون مخفية وراء الأهداف المباشرة، بخلاف العنف السياسي الذي يكون ذو طابع استراتيجي، إن السياسة رمزية كالدين ويمكن أن تستخدم شعارات رمزية لتبرير العنف كالصراع الطبقي مثلا، فليس إذا كل ما هو رمزي يمكن اعتباره دينيا.
ثالثا: الدين لا عقلاني.
تقوم هذه الحجة الأخيرة على أساس أن الدين ينمي لدى أتباعه مشاعر غير عقلانية تتعارض مع أحكام العقل ومسلماته، أما الحالة الذهنية التي تتولد عن لا عقلانية الدين فيمكن التعبير عنها بمصطلحات “الحماسة” و”الحمية” و”الغضب” و”التعصب” وغيرها، فهو إذا يشكل تهديدا للنظام العقلاني لأنه يحيل إلى حياة ما قبل العقل والتنوير، وهناك من يقترح كحل لهذه الدوافع هو “تدجين الدين” بفصله عن الحياة العامة وإبعاده عن السياسة لأن مجاله هو الآخرة.
لكن حتى اللبرالية غير محصنة من الدوافع اللاعقلانية، وهناك من يسلك طريقا وسطا لتوضيح أن الدوافع اللاعقلانية للدين قابلة لأن توظف توظيفا سلبيا أو إيجابيا، ولعل جوهر الإشكال هو أن الدين يخضع للمقدس بخلاف المجالات الأخرى، لكن ما هو هذا المقدس؟ أليس من الممكن أن يتمظهر بأشكال أخرى خارج مجال الدين؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فلا مبرر لوضع تعارض بين العقل والدين ما دام أن نفس المشاعر العدوانية يمكن أن تتشكل خارج إطار المقدس إذا ما توفرت لها الظروف، فالأديولوجيات العلمانية على اختلاف أنواعها تحمل مثلها مثل الدين إمكانية ممارسة العنف أو أكثر.
ثانيا: صناعة الدين.
يشير كافاونو إلى حقيقة الاختلاف الجوهري حول مسألة تعريف الدين، ويبين أن النقاشات الأكاديمية توزعت إلى مقاربتين في هذا الخصوص؛ المقاربة الوضعية التي حصرت معنى الدين في العقائد والممارسات التي تدور حول شيء يشبه الآلهة أو المتعالي، ثم المقاربة الوظيفية التي وسعت مفهوم الدين ليشمل أنواعا كثيرة من الأديولوجيات مثل الماركسية والقومية وأيديولوجيا السوق الحرة.([1]) فإذا كانت المقاربة الأولى تركز على المحتوى المذهبي في نظرها إلى الأديان، فإن المقاربة الثانية تركز على الوظيفة التي يمارسها الدين في الحياة الاجتماعية، ورغم هذا الاختلاف بين المقاربتين؛ فإنهما يتفقان على النظر إلى الدين كشيء جوهراني منفصل عن العالم وكمكون أساس عابر للتاريخ والثقافة، ولعل سبب الفشل في تحديد تعريف الدين يرجع إلى أنه ليس هناك جوهرا ثابتا له وأن الدين بهذا التحديد مقولة تم تأسيسها وصناعتها.
يؤمن كافانو بعكس هذا بأنه لا وجود لمفهوم عابر للتاريخ والثقافة للدين وأن تحديد ما هو دين وما ليس دين خاضع لاعتبارات إعادة ترتيب السلطة داخل أي سياق اجتماعي، وبالتالي فالدين ليس منفصلا عن باقي الظواهر العلمانية الأخرى التي صعنتها الدولة القومية اللبرالية الحديثة في الغرب، ثم سجنت الدين في حدود ما هو شخصي جواني وهو الأمر الذي لم يكن حاضرا قبل عصر الحداثة، ولكي يبرهن على هذا الرأي عاد إلى تاريخ مصطلح الدين قبل عصر الحداثة وبالضبط إلى العصر الروماني وبعض الحضارات الأخرى مثل الصين الكونفشيوسية وحضارة الأزتك وحضارة الهند حيث لاحظ أن الدين كان جزء من الحياة العامة للشعب وجزء من نظام الكون، فكلمة religio كانت واحدة من المفردات التي تدور حول مفهوم الطاعة الاجتماعية، وتشمل العهود المدنية وشعائر العائلة وهي أمور تعتبر اليوم مدنية، وحتى بالنسبة للقديس أوغسطين فكلمة دين ليست حصرا على النشاطات الجوانية، بما أنه مقولة عامة تشمل جميع مناحي الحياة.
إن هذا المعنى العام لمفهوم الدين ظل حاضرا حتى القرون الوسطى رغم أنه بدأ يقل، فإلى هذه المرحلة لم يكن الدين اسم جنس كلي تعتبر المسيحية أحد أنواعه، فهو مرتبط بالعبادة أنا كانت طبيعتها، حيث لم يكن نظاما خاصا من المواقف والاعتقادات أو مجرد دافعا داخليا خالصا داخل الروح الإنسانية، لقد كان جملة مهارات لضبط الروح والجسد، فالرهبنة جزء من تلك المهارات أو أحد أشكال تعبيراتها فقط، لقد كان نوعا من الفضيلة كما عند الأكويني وليس مؤسسة مستقلة عن ظواهر الحياة الاجتماعية مثل السياسة والاقتصاد.
صناعة الدين في الغرب
مع فجر الحداثة تم التخلي عن هذا المفهوم للدين وأصبح يمتلك دلالات أخرى، خاصة مع بعض المفكرين الأفلاطونيين، حيث تم اختزاله إلى اسم جنس كلي يمثل نظام من المواقف الاعتقادية التي تعتبر شأنا جوانيا ودافعا شخصيا مميزا ومستقلا عن باقي الظواهر العلمانية، وهذه هي الدلالة الجديدة التي ألصقت بالدين والتي اكتملت في القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما أصبح الدين نظام من الاعتقادات المذهبية أو حالة عقلية، وهنا تشكلت ثنائية الجواني والبراني، هذه الثنائية التي ستتأسس عليها رؤية العالم العلمانية الخاصة بالغرب المسيحي.
لقد عززت حركة الإصلاح الديني هذه الدلالة الجديدة للدين ورسختها بفعل الجدال والحجاج بين الطوائف الدينية المختلفة والمتصارعة، وبفعل بعض منظري التسامح الديني مثل إدوارد هربرت الذي كان يرى ضرورة سيطرة الدولة على الكنيسة وامتصاص سلطتها، وجون لوك الذي اعتبر أن التمييز بين أعمال الحكومة المدنية وأعمال الدين أو الكنيسة ضروريا للتسامح وإنهاء الخلافات الدينية، وعلى كل حال فهذا التحول الذي وقع لدلالة هذا المصطلح هو نتيجة للتحول الذي حدث في ترتيبات إعادة توزيع السلطة، حيث “انتقلت السلطات التشريعية والقضائية والمطالبة بالولاء والإخلاص من قبل الشعب من الكنيسة إلى الدولة الحديثة صاحبة السيادة”.([2]) وبهذا تم خلق واقع يتناسب مع المفهوم الجديد الجديد للدين.
إبتكار الدين خارج الغرب.
بعد أن تم تكريس المفهوم الجديد للدين في الثقافة الغربية؛ غدى هذا المفهوم قالبا جاهزا عابرا للتاريخ بحيث تم إسقاطه على الثقافات الأخرى، يلاحظ كافانو أن الغربيين كان لهم مسبقات فكرية تنفي وجود أديان في مستعمراتهم قبل غزوها؛ لكن بعد عملية الغزو تبين لهم أن سكان المستعمرات يمتلكون أديانا، ومن هنا كان العمل على تدجين تلك الأديان لتتناسب والتصور الجديد للدين بمفهومه الغربي، دين مستقل على باقي المجالات الاجتماعية، مثل الهندوسية التي تم تضخيم البعد الصوفي فيها، والبوذية التي تم اعتبار نشاطاتها الخارجية على أنها انحراف أو مروق خدمة للمطامع الإمبريالية، ونفس الأمور يقال مع الشنتو في اليابان والكونفشيوسية في الصين، وفي المحصلة إن الهدف من إقامة تماثل بين هذه الأديان وبين المسيحية، وجعلها أديانا فردية لا اجتماعية ولا سياسية، من طرف السلطات الاستعمارية هو ترتيبات السلطة، فهذا التحديد يتيح إبعاد أطراف من التنافس حول السلطة وبالمقابل جعل أطراف أخرى أولى بها.
في محدودية الدلالة الوظيفية والجوهرانية للدين:
إن التعريفات الجوهرانية للدين التي تركز على فكرة “المتعالي أو المفارق” تسقط في فخ الشمولية التي يصعب السيطرة عليها، وذلك أن المفارق -المتعالي- يمكن أن يشمل مفهوم “الأمة” و”الأرض” و”مبادئ الإنسانية” و”الأسلاف” وأمور أخرى، كما أن هذا التحديد يمكن أن يسوي مثلا بين اليهودية والبوذية التي تخلو من الإله المتعالي.
لقد سعى بعضهم إلى تجاوز مزالق التحديد الجوهراني بمحاولة نحت تعريفات وظيفية تركز على محتوى أو جوهر نظام الاعتقاد (إميل دروكهايم مثلا) أو الدور الذي يلعبه الدين في حياة الناس، ففي هذه الحالة تصبح السوق الحرة دينا لأي واحد جعل حياته متمركزة حول مطاردة الفوائد في السوق حتى وإن لم يكن مؤمنا بأي إله أو كان لا يمارس أية شعائر، وإذا كانت هذه المقاربة تعتمد على الملاحظة الإمبريقية للسلوك الإنسان الظاهر وليس على الانفعلات الداخلية الغير قابلة للملاحظة، فإنها جوهر مأزقها هو توسيعها لمقولة الدين إلى “درجة تفقدها المعنى”([3])
إن كعك الكريسماس والطوطم ومراسم الشاي والقومية كلها تعتبر أديانا في نظر بعض روادها، ولا يمكن بأي حال اعتبار هذه الاستعمالات مجرد مجازات مادام أن الوظيفية تعتقد أن أفضل طريق لدراسة الدين هو حشر كل التصرفات الذي تشبه الدين، ومن ثمة تم اعتبار الماركسة والأقتصاد والشيوعية عند بعضهم أديانا أخرى تمارس نفس أدوار الدين من حيث أن لها مريدين وطقوس ورموز خاصة.
الحروب الدينية كأسطورة.
إن الحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في القرنين 16 و17م والتي انقسمت بسببها المسيحية إلى طوائف ومذاهب متناحرة، تقدم كمثال تاريخي بارز على مقولة العنف الديني الذي لم يقض عليه إلا صعود الدولة الحديثة، يسميها كافانو بـ “أسطورة الخلق الخاصة بالحداثة”([4]) أما أهميتها فتتجلى في كونها أسست لرؤية جديدة علمانية للحياة وشرعنة لمبدإ فصل الدين على الدنيا، وقد حاول الكاتب بيان هشاشة ولا علمية الرواية التاريخية الرسمية التي يتمسك بها منظروا الحداثة، وذلك بتقديم سرد تاريخي مخالف للسردية الرسمية يبين أن الحروب الدينية لم تكن باسم الدين وإنما كانت حول قضايا سياسية وثقافية واقتصادية أخرى.
يقدم كافانو في البداية آراء كل من باروخ اسبنوزا وهوبز وجول لوك التي تتفق حول فكرة أن العنف الديني هو سبب الحروب وقد قدمت الأحداث التاريخية في القرون الوسطى المادة الخام إما للثورة على الدين من الأساس واعتباره ردة إلى عصور الظلام (بارون دي هولباخ) وإما الدعوة إلى إبعاده عن المجال العام وإخضاعه لمراقبة الدولة (كما عند فولتير) وإما الدعوة إلى اعتناق دين الإنسان الذي لا طقوس له ولا شعائر (جون جاك روسو).
على أن هذه هي نفس السردية قد ظلت حاضرة في النظرية السياسية المعاصرة، فقد حاول المنظرون الغربيون الاستمرار في إبعاد الدين عن السياسة، فهم يتذرعون بالحروب الطائفية وما تسببه من انقسامات وفوضى، وبالتالي يقدمون الدولة بوصفها حلا لهذه المعضلة؛ لكن كافانو يجادل بأن العلاقة بين الحروب الدينية وبروز اللبرالية والدولة القومية علاقة واهية، إذ يوضح كيف أن العديد من الصراعات والتطاحنات الحديثة وإراقة الدماء لم تكن بسبب الحروب بين الطوائف الدينية وكمثال على ذلك ما شهدته المستعمرات الأمريكية.
في نظر كافانو فهذه الأسطورة تتكون من مكونات عديدة، فأولا إن الخلافات الدينية هي السبب الأول للعنف، وهذا يقتضي الافتراض بأن يقاتل البروتيستانتي الكاثولوكي أو العكس، ولا يمكن أن نتصور وفق سردية الرواية أن يكون القتال بين جماعات المذهب الديني الواحد، ثانيا إن محرك العنف هو الدين وليس السياسة أو الاقتصاد أو غيرها من المجالات العلمانية الأخرى، ثالثا يجب أن تكون هذه الأسباب الدينية منفصلة تماما عن الأسباب الأخرى حتى تصح الرواية وتكون معقولة، رابعا إن صعود الدولة الحديثة كان حلا لمعضلة العنف الديني، ثم يتفحص الكاتب هذه المكونات ليستخلص أنها لا تصمد أمام الفحص التاريخي.
الإشكال هنا هو إذا كانت هذه الأسطورة بهذه الهشاشة فلماذا تم إنتاجها والحفاظ عليها وأصبحت تشكل رؤية وموقفا ثابتا في الغرب؟ يجيب كافانو بأنها: كانت مفيدة في تعزيز شكل الحكم العلماني الغربي باعتباره صانعا للسلام، ووفقا لهذا الأسطورة فإن السلام والازدهار لا يمكن أن يتحقق إلا بالفصل الدقيق للبواعث والدوافع الدينية الخطيرة للدين عن الشؤون الدنيوية كالسياسة وهذا ما فعلته الدولة اللبرالية، هذا علاوة على أنها تسهم في شرعنة الإخلاص للدولة القومية وتهميش الفاعلين الدينيين وتقدم تبريرا لنشر الرؤية والتصور الغربي في الحكم وفرضه على العالم.
استعمالات الأسطورة:
يستهل كافانو الفصل الأخير بذكر بعض المضايقات وأعمال العنف التي تعرضت لها إحدى الجماعات الدينية في أمريكا نظرا لكونها رفضت الالتزام بتحية العَلَم حيث اعتبرته نوعا من الوثنية والشرك، وهذا نموذج من يبين عدم تسامح الدولة، كما أنه كان وليد التحول في التعامل مع الدين في الجهار القضائي الأمريكي الذي بدأ يركز على الطبيعة الانقسامية للدين في أربعينيات القرن العشرين، أما في بداية القرن فقد كان التعامل معه على أساس أنه قوة موحدة وليس انقسامية.
لقد أسهمت الفلسفة الطبيعية ما بعد الداروينية إضافة إلى عوامل أخرى في تشكيل هذه الرؤية التي كانت تهدف إلى وضع جدار فاصل بين الكنيسة والدولة، وبعدما يسرد كافانو العديد من القضايا المتعقلة بالدين التي عرضت أمام القضاء الأمريكي والتي يستخلص من خلالها أن توظيف أسطورة العنف الديني “لم يكن استجابة لحقائق امبريقية بقدر ما كان سردية مفيدة تم إنتاجها واستعمالها للمساعدة في إنتاج إجماع حول جملة من المتغيرات في النظام الأمريكي.”([5])
وكما يتم توظيف الأسطورة في ترتيب السياسات الداخلية، فكذلك يتم توظيفها لإعادة ترتيب العلاقات مع الأخر المختلف دينيا وحضاريا، خاصة الإسلام الذي يتم نعته بأنه نزاع إلى إنتاج العنف لأنه لم يتعلم ولم يستفد من تجربة فصل الدين عن الدولة، إن الأسطورة هنا تلعب دورا استشراقيا في التأسيس لثنائية الغرب العقلاني والآخر المتخلف، ولعل من أسوء توابع هذه النظرة هي تبرير التدخل في القضايا والشوؤن الخاصة بالدول الإسلامية واستعمارها والصدام الحضاري معها، أما الاستعمال الثالث للأسطورة يتجلى في مختلف ضروب الإمبريالية التي تمارس خاصة على العالم الثالث من احنلال استطياني (إسرائيل) وسجون (أبو غريب) ودعم بعض الأنظمة الرجعية (السعودية) والحروب ضد بعض الدول (أفغانستان) وعلى الجملة فأسطورة العنف الديني يوظف لإقامة الحروب الإمبريالية،
خاتمة: في سبيل تفكيك الأسطورة
الحاصل إذا أن هذه الأسطورة لا أساس لها من الصحة، وإذا ما تم التحرر من سيطرتها، فإنه لا بد من إعادة توجيه البحث حول أسباب ودوافع العنف في اتجاه آخر ينطلق من التساؤل التالي: تحت أية ظروف يمكن لأية أيديولوجية كيفما كانت أن تنتج العنف وتشجعه؟ إذ إنه من الثابت أن جميع الأيدولوجيات تمتلك قابلية لممارسة العنف تحت شروط وظروف معينة، وهذا هو المسار الذي يجب أن تتبعه الأبحاث التحليلية لظاهرة العنف بدل الانطلاق من القناعة المسبقة التي تفترض تلازم العنف بالدين.
كما أن تفكيك هذه الأسطورة سيمكن من امتلاك نظرة نسبية لظاهرة العلمانية باعتبارها خيارا من بين خيارات وبدائل أخرى من الممكن أن تتبناها المجتمعات الأخرى، فهي ليست قدرا كونيا مطلقا، ولعل الإيمان بهذه القناعة سيحرر الذهنية الغربية من المسبقات والأحكام النمطية والتحيزات التاريخية التي أسهمت في التأسيس لثنائية الـ “نحن” والـ “هم” وكانت سببا في إغلاق جسور التواصل والحوار الحقيقي بين الأمم.
وإذا كانت الأسطورة تؤسس لتهميش الفاعل الديني، فإن تفكيكها والتخلي عنها مفيد في إعادة التصالح معه والحسم مع مأساة التدخلات العسكرية التي تستهدف حقه في الوجود وتسعى إلى تهميشه خاصة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية التي ستتخلص من أكبر عائق يقف في طريق فتح أي نقاش أو حوار حول أسباب معاداة سياساتها الخارجية.
[1] أسطورة العنف الديني ص 89/90
[2] وليام كافانو؛ أسطورة العنف الديني ص 131
[3] وليام كافانو؛ أسطور العنف الديني ص 167
[4] وليام كافانو؛ أسطور العنف الديني ص 193
[5] وليام كافانو؛ أسطورة العنف الديني ص 310