“ذَلك هُو التَّحدي”.
بهذه العِبارة التي تختزِل العَشرات من الإشكَالات المعرفية والتسَاؤلات المنهجية المرتَطبة بمسَار تشكُّل الشَّريعة الإسلامية وتطَورها، وامتدادَاتها الأخلاقِية والسّياسية والقَانونية والحيَاتية، ومركَزية القُرآن في ذلك كلِّه، يخْتتم الدكتور وَائل حلاق كتابه الموسوم ب: «القُرآن والشَّريعة: نحْو دُستورية إسْلامية جدِيدَة» الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في طبعته الأولى سنة 2019م بيروت، والذي ترجمه كل من أحمد محمود إبراهيم ومحمد المراكبي، مراجعة وتقديم هبة رؤوف عزت.
تجدُر الإشارة إلى أن هذَا الكتاب هو في أصْله عبارة عن أربَع مقالاتٍ علميةٍ كُتبت في أزمنة متَفرقة على امتِداد العقدين الأخيرَين، تُشكل بمجموعها اشتبَاكا معرفيا ومنْهجيا مع الأطروحات الاستِشراقية حول علاقَة الشريعَة بالقُرآن الكَريم، وعلاقتهِما معًا بالأخلاق ونِظام الحُكم، وإلى أي حد يمْكن إحيَاء الشَّريعة من جَديد؟
في المقَالة الأولى أو الفصْل الأول المُعنون ب:”أُسسُ القَانُون الأخْلاقِي.. نظرةٌ جديدَة في الأخلَاق وتشكُّل الشَّريعة”، يفنِّد “وائل حلاق” أطروحَات المستشرقين حول مرْكزية القُرآن ومَصدرتيه في التَّشريع، حيث يبدأ مع المسْتشرق الألماني “جُوزيف شَاخت” في كتابِه “أُصول الفِقه المحَمدي” الذي أكد أن القُرآن الكريم كان قاعدةً للأحكام الشرعية في مرحَلة متأخرة، في بداية القرن الثاني الهِجري تقريبا، ويرى أن الحَديث النبوي هو معيار تطَور الفِقه، ذلك أن الفِقه المحمدي في نظر شَاخت دائمًا لم يؤخذ مبَاشرة من القرآن لكنه تطور من الممَارسات الشَّعبية والإدَارية في ظل حُكم الأمويين، وهذه الممَارسات كانت في الغَاِلب مفارقة لنَوايَا القرآن، بمعنى آخَر أنه كان يحَاول تأكيد الدور المحدُود للقرآن الكريم باعتباره مصدرا تأسيسيًّا للتشريع والفقه.
إنَّ “شاخت” وهو يحَاول التدليل على ثانَوية النَّص القرآني في المصدرية التشريعية، وقع في خلل منهجي متَمثل أساسا في البحْث عن الجَانب القَانُوني التَّشريعي والأخْلاقي خارج منظومَة الوَحي، بيد أن حلاق استند في نقضِه لأطروحة شاخت على ما أورده المستشرق الألماني “هارالد موتسكي” ، والذي توصل إلى نتائج ترجع التَّاريخ قُرابة سبعين سنة قبل الوقت الذي حدده “شاخت” لتلك البِدايَات، مؤكدا أن المسلمين ” قد لجأوا بوعيٍ للقُرآن كمصْدر من مصادر التَّشريع طوال القرن الأول الهجري”، وأطروحة موتسكي نفسهَا أيضا نقضها حلاق لأنها لا تُعطي للقرآن وظيفتَه التشريعية إلا بعْد السنة 20 هجرية، وبالتَّالي فهي تقْفز على المرحلة المكِية والمدَنية من حياة الرسول عليه الصلاة و السلام، وخلافة أبي بكر ت 13ه، وعمر ت23ه رضي الله عنهما.
كما أن الدكتور وائل حلاق راجع سَردية المستَشرق البريطَاني “نويل كولسون”، والتِّي يقول فيها أن الدَّور التشريعي للقرآن يرجع إلى الفترة التي تلت وفَاة النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً، بالإضافة إلى ذلك فإن نويل كولسون لا يقبل القَول الذي يُؤكد أن القرآن الكريم يحْوي أكثر من 500آية تشْرِيع، وإنما يقول إن القرآن يحوي 80 آية فقط تتَعلق بموضوعات قَانونية خالِصة، والأمر نفْسه بالنسبة للمستشرق “شولومو غوتين”.
إن أهم ملمَح منهجي أكد عليه وائل حلاق هو أنه من الخَطأ أن نحكم على الآخر -أيا كان هذا الآخر- من خلال معَايير غير مُناسبة له وداخِلية عليه تمامًا، وهذا ما وقع فيه الكَثير من المستشْرِقين، ولذلك يدعو حلاق وائل العقلَ العلميَّ إلى التخلص تلك التصْنيفات والتقسِيمات والثُّنائيات المفَاهيمية، التي نشأت في أوربا الحَديثة من كانط وهوبز.
إن أهم ملمَح منهجي أكد عليه وائل حلاق هو أنه من الخَطأ أن نحكم على الآخر -أيا كان هذا الآخر- من خلال معَايير غير مُناسبة له وداخِلية عليه تمامًا، وهذا ما وقع فيه الكَثير من المستشْرِقين،
ومن ثمة فإن التَّشريعي والأخلاقي في مُمارسات المسْلمين لم يكن ينظر إليهما على أنهما تصْنيفان متمايزان في الخِطَاب القُرآني، وإنما حصل ذلك بعد التأثر بتقسيمات التنوير الأوربي، يقول حلاق:”وأنا على قنَاعة أن القُرآن منذ البداية قد مثّل للمسلمين نسَقا كونيًّا ينهض كليا على القَوانين الطَّبيعية الأخلاقية”[1]، ويطرح سؤالا عميقا وهو: ماذا يعْني عمليا أن تكُون عبد مُؤمنا صالحا؟[2]، ليجيب عليه من خلال جُملة من الآيات والسُّور القرآنية التي تؤكد أن “القَانون القُرآني هو أخلاق موضُوعية” والتي تفْضي إلى الوَعي القرآني بدَوره التَّشريعي، بمعنى آخر الرَّفض التام للتَّفريق السطْحِي-حسب غويتين- بين القَانون والأخْلاق، لأنه تفريق دخيل على الثقافة الإسلامية.
في خاتمَة هذا الفصل يؤكد وائل حلاق أن القَانون وُلد يوم وُلدت الأخْلاق من رحم الوَحي الإلهي في مستهل أول السُّور المكية، ففي ذلك الوقت والزمان بدأ “القَانُون الإسلامي”، وهكَذا اكتسى المشْروع الأخْلاقي المرَكَّب بُعدا “قَانُونيا” وسط أبعَاد أخرى، تلك الأبعَاد التي مثَّلت الشَّريعة المتكَاملة التي بُنيت على الأخلاق وأُسست على القُرآن منذ البِدايات الأولى[3].
المقَال الثاني أو الفصْل الثاني تحتَ عنوان: «الدُّستورِية القُرآنية وتحْكِيم الأخلَاق: نظراتٌ جديدَة في المبَادئ المؤسسة للمُجتمع ومَنظُومة الحُكم الإسْلامي»، يٌحلق حلاق عاليًا في بيان مِحورية الأخلاق في المنظُومة الإسلامية ودَور القرآن الكريم في تطوير الفقه في الحُكم باعتباره تشريعا لإدارة الشَّأن العام وتسييره، حيث يحَاول أن يتجاوز بعضَ النتَائج والأطروحات التي تَوصل إليها في كتابه “الدَّولة المسْتحِلية، الإسْلام والسِّياسة ومأزقُ الحَداثة الأخْلاقِي “[4]، وذلك من خِلال بيان أن القُرآن لم يكن فقط على إحاطة بالخلافات القانونية وبالتحكيم لهذه الخلافات يوما بيوم، لكنهُ كان مسؤولا مَسؤولية مباشرة عن تنظيم البِنية المعرفِية والسِّياسية التَّأسيسية للشَّريعة.
وفي ذلك دحْضٌ للأطروحة الاستشْراقية القائلة أن سُلطة القرآن كانت تبريرا لاحِقا و متأخرا لتعليلات الفُقهاء، بل إن تأثير القُرآن كان في وقت نزوله، والتي حَددت حقيقةَ الإسلَام وصيرورة أنسَاقه القَانونية والسِّياسية، ويستند في ذلك إلى التَّرتيب الزمني لنُزول القرآن، مع ضَرورة التَّمييز بين :1-المصْطلحات البنيوية والدلالية،2-الكلمات المبنية على السياق، الأمر الذي سيرفَع سوء الفهم الذي وقع فيها بعض المستشرقين -غويتين مثلا- حول المفاهيم الأساسية في القُرآن الكريم، ومنها مثلا مُصطلح “حُكْم” الذي توقفَ معه حلاق طويلا(ص72إلى85) و مفهُوم ” الأمر” ومفهوم ” العِلم”.
وبعد جولة معرفية متشابكة وكثيفَة يخْلص إلى أن النَّموذج الإسلامي القُرآني المقابل للنموذج الغربي(فوكو-غرامتشي – ما بعد البنوية) أكثر قوة، لأنه يتبنى بإصْرار مفهوما للعَدالة يتجاوز هيمنة الدَّولة، فإذا كان هناك خُلفاء أو ملُوكا أو حكَّاما فيجب عليهم جميعا أن يكونوا خاضعين لسُلطة الله، التي تتناغم مع المفهُوم الكَوني للعدالَة، لأن المفهوم الإسلامي للفصْل بين السُّلطات كانت له صفة مطلقة -إذا لم نقل مقدسة- بحيث تواجه أي تعدٍ يقع عليها، والنتيجة كانت “نظامًا للعدالة لا يمْكن الاعتِداء عليه”.
أما المقَال الثَّالث أو الفصْل الثَّالث، الموسوم ب:” أَوَّليَّة القُرآن في النَّظرية الأصُولية عند الشًّاطبي” فقد جلَّى فيه وائل حلاق موقف الإمَام الشَّاطبي ومنهجه في التعَامل مع القُرآن بوصفه واعتبَاره نصًّا كُلًّا مُتكَاملا، وكأني بوائل حلاق يرد على أطروحات المستشرقين مرة أخرى بالنَّموذج الأصولي المقَاصِدي في فهمه للقرآن الكَريم الذي جسده الإمام الشَّاطبي توفي 790ه.
ويؤَكد الدّكتور وائل حلاق أن الإمام أبَا إسحَاق الشَّاطبي يتجاوز الكثير من الأصوليين والفقهاء والمتكلمين في تحديدهم لمفهوم القرآن المجيد وتأويل آيه، ذلك أن كثير من صور الاعتِسَاف التأويلي المنكَر إنما هي نتيجة لا للافتِقار إلى التطبيق الصَّارم للقواعد والأعراف اللغوية السائدة إبان نزول الوحي فحَسب، ولكنها أيضا أثر من آثار غياب منهج كلي يتناول السِّياق الأوسع للمَقطع القُرآني قيد النَّظر.
ومنْه خلص الإمَام الشَّاطبي إلى أن الشَّريعة تَتألف من كُليات تنهض مرجعيتها على حشْدٍ وافر من حالات محتملة أوْ جزئيات معينة يعضد بعْضها بعضا حتى تبلغ درجة اليَقين القطعي، وتستمد الكليات الثَّلاث وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات أساسها الكامِل من القرآن، على أن الكَمال لا يسْتلزم بالضرورة نصًّا قرآنيا واحدا صريحَا يعين المقَاصد الثَّلاثة ويوجبها بألفاظ دقيقة ومفردات محددة، بل يهدي الاستقراء إلى عدد كاف من الآيات القرآنية تتضافر مجتمعة على معنى واحد[5].
ولقد كانت الغَاية عند وائل حلاق من إيراد هذا النَّموذج الأصُولي بأفقه المقَاصدي، هو الرد على المستشرقين بالتنصيص على أن “القُرآن لم يكن مصدر الشريعة منذ البدايات المبكرة للفترة المكية فحسب، بل إن الشريعة ظهرتْ مع القرآن وبأثر منه في أغْلب مناحيها”. وبالتَّالي فكل تفصيل في السُّنة هو امتدادٌ لمبدأ قرآني كُلي، ومنه فإن السنة والفقه مرجعهما الثابث هو القرآن المجيد.
في الفصل الرابع أو المقال الأخير، يطْرح وائل حلاق تسَاؤلا كبيرا: هْل يُمكن إحيَاء الشَّريعة؟[6] حيث يُرجع وائل حلاق سبب ضمُور الشّريعة في واقع المُسملين، إلى تبني الدُّول الإسلامية لمفهُوم القَومية، الذي كان إيذانًا بموت وزوال الشريعة، وأن إخضَاع الأوقاف الإسْلامية، لسُلطة الإدارة المركزية كان إيذانًا بنهاية دور الفقهاء في المجتمع الإسلامي، حيث سحب من تحت أيديهم المصْدر الرئيس لاسْتِقلال سلطتهم، وصاروا يعتمدون بشِدة على الرواتب التي تمنحها الدولة، التي صارت تتضاءل بدورها تضاؤلًا منظمًا مطردًا، بالإضافة إلى أسباب أخرى.
وقد قدم وائل حلاق نقدًا لاذعا لأطروحات من سماهم ب “المفكرين الإسلاميين النفعيين” و”الليبراليين الدينيين”، مبينا أن ثمَّة ثلاث مُشكلات أساسِية مرتبطة بهذه الأطْرُوحات التي تَعتسف في الاستدلال الفقهي ،1-لا يمتلكون نظرية منظمة شاملة، تضاهي النظرية الأصولية المتوارثة،2- محدودة الانتشار، ولا تتمتع بجاذبية لدى عموم المسلمين، 3- البعد عن مراكز السلطة والقرار.
وختاما إذا كان وائل حلاق قد قرر بأن”القُرآن ينهض مستقلا بوصفه نقدا إصلاحيا لما بعد الحداثة، وليس مجرد نظام قيمي مستقل فحسب”[7]، أعتقد بأن السؤال السَّالف ،وجب أن تعاد صياغته من هل يمكن إحياء الشريعة؟ إلى كيف يمكن إحياء الشريعة؟ وهو التَّحدي الحضَاري الذي يواجِه المسْلمين اليَوم.
“ذَلك هُو التَّحدي”.
الهوامش
[1]– وائل حلاق، القُرآنُ والشَّريعَة: نحْو دُستورية إسْلامية جدِيدَة، ص:42.
[2] – وائل حلاق، القُرآنُ والشَّريعَة: نحْو دُستورية إسْلامية جدِيدَة، ص:52.
[3] – وائل حلاق، القُرآنُ والشَّريعَة: نحْو دُستورية إسْلامية جدِيدَة، ص :66.
[4] -وائل حلاق، الدَّولة المستَحيلة: الإسْلام والسِّياسة ومأزقُ الحَداثة الأخْلاقِي، ترجمة عمر عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى سنة 2014م،
[5] – وائل حلاق، القُرآنُ والشَّريعَة: نحْو دُستورية إسْلامية جدِيدَة، ص :148.
[6] -يؤكد وائل حلاق أن هذه المقالة لم تعد تمثل ما يدين به من آراء في القضايا التي تواجه الإسلام في الوقت الراهن، وقد وضح ذلك في كتابه:”الدولة المستحيلة”
[7] – وائل حلاق، القُرآنُ والشَّريعَة: نحْو دُستورية إسْلامية جدِيدَة، ص :9.