“المسألة اليهودية” عند مالك بن نبي، هي جزء من مشروعه الكبير، حيث يجمع مالك بن نبي بين أمله في استئناف الحضارة، وبين محاولة تفسيرية لم تكتمل، لا في وضعانيتها ولا في تاريخيتها. الثغرات والثقوب النظرية التي يتسم بها فكر مالك بن نبي، هي نفسها الثغرات التي نجدها ماثلة أمامنا ونحن نقرأ الجزء الثاني من “وجهة العالم الإسلامي”، أي “المسألة اليهودية”. الزيف النظري الذي يقلب به مالك بن نبي “فعل الإنسان في الزمن”، النظارة المضببة التي يرى بها تغير وتحول العالم؛ ذلك ما يستصحبه في دراسته لحركة اليهود في زمن العالم.
القرآن معجز لا في بلاغته فحسب، بل في ظواهر الكون والحياة كلما تقدم بالناس الزمن.. حديثه عن اليهود يدخل في هذا الإطار، فلا بد إذن من إيجاد تفسير لظاهرة “اليهود” في إعجاز القرآن، ولا بد من تفسير ظاهرة في التاريخ ب”الظاهرة القرآنية”.. وفاء لكتابه “الظاهرة القرآنية”، من المفترض أن ينحو مالك بن نبي هذا المنحى. (راجع “الظاهرة القرآنية” لمالك بن نبي)
العالم الإسلامي يمتلك الحل، “الفكرة المركِّبة” التي تنتج الحضارة من تحفيز “الإنسان + التراب + الزمن” (راجع “شروط النهضة” لمالك بن نبي)… وجب إذن نفض الغبار عن هذه الفكرة بنقد “حركة الإصلاح” (جمال الدين الأفغاني)، ومعها “حركة التجديد” (طه حسين).. وجب أيضا وضع حد ل”الأفكار الميتة والأفكار المميتة”، التراثية البالية والدخيلة القاتلة، بما هي “قابلية الاستعمار”، وبما هي تعطيل للفكرة الدينية المحفِّزة. (راجع “وجهة العالم الإسلامي/ الجزء 1″ و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة” و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” لمالك بن نبي)
“القابلية للاستعمار” ليست حكرا على البلاد الإسلامية وحدها، ليست خاصية من خصائصها الأصيلة. إنها ظاهرة عامة تحلّ بالجميع حسب سنن تاريخية معلومة، تحققت في الغرب نفسه رغم “ريادته” الحضارية زمن مالك بن نبي.. ينتقد ابن نبي هذه “الريادة” ولا ينفيها، هنا وجه الخلاف بينه وبين سيد قطب (ينفي الحضارة عن الغرب في “معالم في الطريق” و”المستقبل لهذا الدين”). ولأن هذه “القابلية” ظاهرة عامة، فقد حلت بالغرب على هامش الريادة الحضارية لأمم أخرى، كالبابليين والفارسيين ثم المسلمين فيما بعد.
لم يكن اليهود ليجدوا متنفسا لأساليبهم وحركتهم المنحرفة في هذه الحضارات، فهاجروا بعيدا باحثين عن أوساط “قابلة لليهود”، “قابلة لاستعمارهم”، ليجدوها في أوروبا المتخلفة آنذاك. هناك مارسوا الربا كسلوك اقتصادي منحرف، وظهرت أصناف من اليهود: “اليهودي المثقّف، واليهودي المواطن، واليهودي الحديث، واليهودي المتزمّت، واليهودي العالمي، واليهودي الذي رمى القناع”. تحكمت هذه الأصناف في المشهد الأوروبي، ووجهت الفعل الحضاري فيه حسب مضمونها الديني والفكري. لم يخل مجال من يد يهودية، وكان الاقتصاد أهم تلك المجالات. (راجع “وجهة العالم الإسلامي/ الجزء 2: المسألة اليهودية” لمالك بن نبي)
يجب ربط الاقتصاد بمرجعية أخلاقية، بمرجعية فكرية ودينية تحفِّزه. “الفكرة المركبة” هي السبيل الوحيد لتحويل “المال إلى رأسمال”، ورفع الإنتاج حتى لا يقع الركود (تساوي الاستهلاك والإنتاج) أو التخلف (الاستهلاك أكبر من الإنتاج) (راجع “المسلم في عالم الاقتصاد” لمالك بن نبي). الفساد الاقتصادي لليهود لا يؤهلهم لقيادة العالم، لأن فكرتهم الدينية فاسدة لا تؤهلهم لقيادة أنفسهم، فكيف بالعالم؟!
يراهن مالك بن نبي على الإسلام لإنقاذ العالم، إذ من شأن استئناف الحضارة الإسلامية أن يعيد الاستقرار للعالم، وينهي “النكسة” التي حلت به، والتي بدأت باستقرار جزء مهم من الشتات اليهودي في أوروبا. مشروع صاحب “شروط النهضة” يدور حول “استئناف الحضارة الإسلامية”، وحل “المسألة اليهودية” جزء منه. إلا أن هذه المسألة أصل في تفسيره للظاهرة الاستعمارية، استغلت “القابلية الأوروبية للاستعمار” قديما، كما استغلت قابلية بلدان أخرى لافراز تشكيل استعماري حديث. بلغة أخرى أكثر تبسيطا: “الانحراف اليهودي هو سبب التشكيل الاستعماري الحديث”.. الكيان الصهيوني نموذج منه فقط.
يتكثف هذا التحليل في قول مالك بن نبي: “إن القرن العشرين هو قرن اليهود والدولار والمرأة”. هذا في نظره مشروع واحد، لا منجاة منه إلا بحضارة الإسلام، وما ينقص هذه الحضارة هو “الفكرة الدينية المركبة”. وبهذا تتضح غاية ابن نبي من تنبيهه إلى “مشكلة الأفكار في العالم الإسلام”. إنه يبحث عن فكرة قادرة على التحفيز، يتحقق بها التركيب بين الإنسان والتراب والوقت لاستئناف حضارة خاصة، لا يرى ابن نبي حضارة نموذجية غيرها. حضارة فكرية قائمة على أساس ديني، ذلك هو السبيل لتماسك مجتمعها واستمرارها في الزمن (انظر “ميلاد مجتمع” لمالك بن نبي).
هل ننفي التأثير اليهودي في أوروبا؟ نفيه لا يصح ويكذّبه التاريخ. لكن إثباته لا يعني جعله أساسيا في تفسير التاريخ الأوروبي، من تشكل الرأسمال التنافسي إلى تشكل الرأسمال الاحتكارية الإمبريالي. لا يولي ابن نبي اهتماما لهذه الظواهر، فيكتفي بالبحث عن “حقيقة خاصة به” في مظاهر هنا وهناك. يفسر الرأسمال بحركة اليهود في أوروبا، لأن الفكر عنده سابق على الواقع المادي، يفسر النظام الاجتماعي فيبمظهر من مظاهره، يرى ربوية اليهود أصلا لربوية النظام الرأسمالي لا امتدادا له.
سقط مالك بن نبي في نفس خطأ برونو باور، الذي رصد أزمة اليهودية في الدين لا في البنى التحتية لأوروبا الإقطاعية، ثم الرأسمالية في ما بعد. النقد الماركسي لبرونو باور بني على هذا الأساس، أي أن الانحراف اليهودي انعكاس لواقع اجتماعي قديم، وآخر وجديد. إنه انحراف مضاعف يجب البحث عن حقيقته في الجوهر الاجتماعي لنظام اجتماعي قائم. (انظر كتاب “المسألة اليهودية” لكارل ماركس، ترجمة إلياس مرقص”).
التفسير بالثانوي يستمر عندما يتحدث ابن نبي عن خروج المسلمين من الحضارة. يستمر هذا التفسير باستمرار منهج مالك بن نبي في تعريف المفاهيم، ومنها مفهوم “الحضارة”. يرى أن الحضارة تركيب بين المادي والفكري، مناهجه في تحديد المادي إما وضعانية ناقصة وإما لا تاريخانية، أما الفكري فتُضبَّب معالمه باضطراب الوعي بالمادي. يغيب التحديد الملموس للحضارة، فيعسر -بل يستحيل- تفسير الخروج منها. لقد كان الخروج منها تاريخيا، وكذلك سيكون استئنافها. لا ينظر ابن نبي في قواعد الخروج، كذا في قواعد الاستئناف. فلا يعرف بأي طريق في التاريخ سيصبح الإسلام بديلا لليهودية وحضارتها في الغرب. حديثه عن الإسلام كبديل صحيح، لكنه غير مفسَّر. حديثه عن فساد “اليهودية المحرفة” صحيح، لكن غير دقيق، بل زائف إذا ما أرجعناه إلى جذوره التاريخية.