كثر الحديث منذ إعلان المغرب عزمه إطلاق عملية تلقيح شاملة ضد فيروس كورونا عن اللقاح الصيني وفوائده ومخاطره، بين مدعم للقاح الصيني وبين متشكك ومتخوف من استعمال ذلك اللقاح، بحكم مصدره الصيني، وما تمثله الصين في المخيال الجمعي من عنوان للرداءة وانعدام الجودة والشفافية، مما دفع الكثيرين للتشكيك في مدى احترام اللقاح الصيني للشروط العلمية المتطلبة في مثل هذه اللقاحات، على خلاف القبول باللقاحات ذات المنشأ الغربي مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا وألمانيا.
لكن السؤال الذي ينبغي طرحه، من الذي وضع ويحدد المعايير العلمية لاعتبار لقاح أو دواء ما صالح للاستعمال البشري دون مضاعفات ومخاطر؟
والجواب عن هذا السؤال سيزيل الكثير من الغشاوة والأوهام، وسيجعلنا نعي حقيقة الصراع الدائر بين قوى رأسمالية توظف وتتلبس لبوس العلم في صراعها مع قوى مناقضة لها.
فالحقيقة هي أن الشركات الرأسمالية الاحتكارية الغربية هي من وضع تلك المعايير والشروط العلمية لاعتبار لقاح أو دواء ما صالح وآمن للاستخدام البشري، وهي معايير تم وضعها خدمة لمصالح تلك الشركات حتى تستمر في احتكارها وهيمنتها على سوق الأدوية في العالم. إنها معايير تم وضعها في المختبرات والجامعات التابعة/المتواطئة/الخادمة لتلك الشركات، وتم فيما بعد إكسابها صفة العالمية بعد اكتسابها صفة العلمية، نتيجة هيمنة تلك الشركات وتحكمها من خلال دولها في المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، ونستذكر هنا تهديد واشنطون سنة 2018 بفرض عقوبات على دول قدمت مشروعا بمنظمة الصحة العالمية لتشجيع الرضاعة الطبيعية خدمة لمصالح شركات حليب الأطفال. وهو ما يفسر جزءا من أسباب تأجيل إعلان الشركات الأمريكية عن اكتشافها للقاح ضد فيروس كورونا لما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية، بحكم معاداة ترمب للمنظمات الدولية ومنها منظمة الصحة العالمية، في مقابل تحمس الرئيس المنتخب بايدن الكبير للعودة للمنظمة ورفضه لقرار الانسحاب منها، لأنها منظمة تخدم في جزء كبير مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى، وأي انسحاب أمريكي منها لن يخدم مصالح تلك الشركات.
في عالم اليوم حيث هيمنة الرأسمالية المتوحشة والاحتكارية لا وجود لعلم مستقل عن الأيدولوجيا، على خلاف ما كان عليه الوضع قبل الرأسمالية وبنسبة أقل زمن الرأسماليات الوطنية. وبالتالي فشركات الأدوية هي من يضع المعايير والشروط العلمية، وهي من تحرص على الدفاع عنها حتى تستمر في الهيمنة على هذا السوق الضخم، وتمنع دول الجنوب من تطوير صناعاتها الدوائية بعيدا عن الرأسمالية المحتكرة، لأن الالتزام بتلك المعايير العلمية يتطلب أموالا جد باهظة لا تستطيع تلك الدول توفيرها، لكن الصين الرأسمالية تستطيع توفيرها وهو أمر ليس في صالح الشركات الغربية المهيمنة.
ويكفي الاستشهاد بتأثير الشركات الاحتكارية في قضايا متعلقة بصحة الإنسان، عبر تدخلها لتغيير النتائج التي توصل إليها الخبراء وطمسها، بحكم هيمنتها شبه المطلقة على سلطة التمويل المالي للأبحاث العلمية، مثل تدخلها لتغيير وطمس النتائج التي توصل إليها الخبراء في قضايا مثل تأثير السكر والمشروبات الغازية واللحم الأحمر والتدخين على صحة الإنسان لعقود طويلة، وتدخل شركات الأدوية لسحب بعض الأدوية من السوق بعد أن تكون قد تسببت في كوارث صحية، دون الحديث عن تزييف النتائج العلمية، وإجراء التجارب غير الأخلاقية على فقراء العالم في دول الجنوب.
إن الصراع الحقيقي الدائر اليوم حول لقاح كورونا لا يتعلق بعلمية اللقاح ومدى سلامته، فهذا أمر متروك للسنوات المقبلة للتحقق من ذلك، بل هو صراع بين رأسمالية غربية بقيادة أمريكية تريد الحفاظ على هيمنتها المطلقة على سوق الأدوية، ورأسمالية شرقية صينية تريد المنافسة على هذا السوق الضخم، وكسب ود الدول النامية من خلال توفير اللقاح لها.
صحيح أن النظام الصيني يكذب كما يتنفس، ويتحمل جزءا كبيرا عن انتشار الفيروس لانعدام الشفافية والاعلام “المستقل”، وصحيح أن الصين هي الأخرى أضحت تطبق تلك المعايير العلمية لقدرتها على الاستجابة لها وبالتالي استفادتها منها؛ لكن هذا لا يعني أن الدول الغربية تقول الحقيقة، فلا وجود لدولة في العالم تقول الحقيقة، والدول تسعى في نهاية المطاف لخدمة مصالحها بكل الوسائل. وهنا لابد من تذكر الأشرطة المصورة لأناس يتساقطون في الشوارع في الصين بسبب إصابتهم بفيروس كورونا، وهي الأشرطة التي تناقلتها وسائل الإعلام الغربية بكثافة وتم شن حملة إعلامية قوية ضد الصين للتخويف منها ومن مواطنيها؛ لكن الغريب هو أن فيروس كورونا أصاب كل دول العالم وأصبح أمرا مألوفا، غير أننا لم نرى أناسا يتساقطون في الشوارع جراء إصابتهم بالفيروس.
بالإضافة لما سبق فالصين كانت أول دولة تكتشف الفيروس، مما محنها أفضلية السبق في معرفة حقيقة الفيروس قبل الدول الغربية، ومع تطورها التكنولوجي والطبي الكبير ووجود دولة مركزية بإمكانيات مالية وعلمية ضخمة سخرتها لمحاربة فيروس كورونا يجعلها في وضع أفضل من الدول الغربية.
لقد أحسن المغرب حين لم يضع كل بيضه في سلة واحدة في سعيه لتوفير لقاح كورونا، وعدم انتظار توفر اللقاح الغربي، والذي لن يكون متاحا إلا بعد اكتفاء دول الشمال والدول الغنية منه قبل أن يصل لدول الجنوب، مع تكلفته المالية الكبيرة. ولهذا فالمغرب لم يكتفي بالتفاوض مع الصين من أجل اللقاح، بل تواصل كذلك مع روسيا والشركات الغربية المنتجة للقاح كورونا، بل إن هناك حديثا روسيا عن تحول المغرب لمنصة لتصدير اللقاح للدول الأفريقية، كما أن هناك حديثا عن الأمر نفسه فيما يخص اللقاح الصيني، وهو أمر في غاية الأهمية من الناحية الدبلوماسية والاقتصادية، لتعزيز مكانة المغرب افريقيا، خصوصا أن روسيا والصين تفضلان المغرب على حليفتهما التقليدية الجزائر لتصنيع وتصدير أهم منتوج تطالب به البشرية.