تقديم
تعد الهجرة والاندماج من القضايا المعقدة والمتعددة الجوانب، التي لطالما كانت موضوعا للكثير من النقاشات سواء في الأوساط العلمية والسياسية والاجتماعية…، حتى أن أول تقرير لمنظمة الهجرة الدولية سنة 2000 أعتبر بمثابة مرسوم لتعميق النقاش والفهم السديد للهجرة لدى واضعي السياسات العمومية، إذ شدد على أن ظاهرة الهجرة هي ظاهرة قديمة أصبحت تتسارع في إطار تحولات العولمة. لتتوالى بعد ذلك التقارير والأبحاث والاتفاقيات والمؤتمرات والسياسات العمومية التي ساعة جاهدة كل من منصبها لحل القضايا المتعلقة باندماج المهاجرين والهجرة، إلا أن ما ميز هذه المقاربات هو التعدد في الاتجاهات والمنطلقات، فهناك من تبنى نموذج الاستيعاب وهناك من رأى أن العيش المشترك هو الأنسب… أما على مستوى التفسيرات والتنظيرات السوسيولوجية التي تناولت هذين التيمتية فهي الأخرى عرفت تنوعا وتعددا، وهذا ما سنعمل على توضيحه بشكل مسهب من خلال المحاور الآتية.
المحور الأول التأصيل النظري لمفهوم الهجرة والاندماج
ورد في لسان العرب لابن منظور أن الهجرة ضد الوصل، والاسم الهجرة، ويقال هجرت الشيء هجرا إذا تركته وأغفلته، وقال اللحياني: “الهجرة هي الخروج من أرض إلى أرض”، ونقول هجرت الرجل هجرا إذا تباعد ونأى.[1] أما معجم المعاني فاعتبر أنها مصدر الفعل هاجر، والجمع هجرات، وهي خروج الفرد من أرض وانتقاله إلى أرض أخرى؛ بهدف الحصول على الأمان أو الرزق، أو انتقال المرء من بلد إلى بلد أخر ليس مواطنا فيه ليعيش فيه بصفة دائمة.[2] في حين جاء في معجم أوكسفورد الأمريكي، أن الهجرة هي حركة أعداد كبيرة من الناس أو الطيور أو الحيوانات من مكان إلى أخر.[3] تجمع المعاجم بهذا المعنى على أن الهجرة في معناها اللغوي العام هي الترك والانتقال والمغادرة.
أما من الناحية الاصطلاحية فتختلف دلالات مفهوم الهجرة حسب العلم الذي تُدرس فيه، حيث يحيل مفهوم الهجرة في علم الاجتماع إلى انتقال الأفراد أو الجماعات عبر الحدود سواء كانت رمزية أو سياسية للإقامة في مناطق سكنية أو مجتمعات محلية جديدة. وتتميز الدراسات السوسيولوجية للهجرة بالتنوع، وعادة ما تشكل جزءا من دراسة مشكلات أوسع مثل البحوث في مجال القرابة أو الشبكات الاجتماعية أو التنمية الاقتصادية، كما يستعمل هذا المفهوم لدلالة على الانتقال القسري والتلقائي، المستمر أو المؤقت بالنسبة للفرد أو الجماعات الواسعة، علاوة على أنه يستعمل أيضا للإشارة إلى التغيير الجهوي أو المحلي لمكان الإقامة، كما يشير أيضا إلى التنقل الموسمي للأفراد والجماعات الذين يذهبون للعمل في المدن أو مناطق أخرى. فالهجرة بهذا المعنى هي كل انتقال من مكان لأخر، يترتب عنه انتقال من مجال حياتي إلى مجال حياتي أخر وتغير على مستوى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والعمل. وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم الهجرة قد يتخذ معاني متعددة، فقد نستخدمه للإشارة إلى الوفود Immigration أو النزوح Emigration أو بصفة عامة إلى الهجرة Migration أي ذلك الفعل الذي من خلاله ينتقل الفرد أو الجماعة من مجال حياتي إلى مجال حياتي آخر.
- مفهوم الاندماج
ورد في لسان العرب لابن منظور فعل “دمج يدمج دموجا”، أي دخل في الشيء واستحكم فيه، فيقال مثلا اندمج الشيء وأدمج ” دخل في الشيء واستحكم فيه “. ومنه فالمقصود بالاندماج لغة “الاستحقاق” و”الاستواء” ، وإلى حد ما “التقويم”، أما اصطلاحيا فيقصد بالاندماج السيرورة الإثنولوجية التي تمكن شخصا أو مجموعة من الأشخاص من التقارب والتحول إلى أعضاء في مجموعة أكبر وأوسع، عبر تبني قيم نظمها الاجتماعي وقواعدها، لذلك يستلزم الاندماج شرطين هما : إرادة الانسان وسعيه الشخصي للاندماج والتكيف، أي التعبير الطوعي عن اندماجيته، ثم القدرة الاندماجية للمجتمع عبر احترام اختلاف الأشخاص وتمايزهم[4].
في محاولة للإحاطة بهذا المفهوم (الاندماج) استندت الفرنسية مادلين جراويتز ” “Madeleine Grawitz إلى مجموعة من المقاربات: الاقتصادية، السيكولوجية، الاجتماعية…، من أجل تقديم رؤية متكاملة حوله، فسیکولوجيا يشير مفهوم الاندماج إلى ذلك السلوك الجديد الذي يتكيف مع مجموع سلوكيات الفرد، أما من الناحية السوسيولوجية. فقد أثارت جراوينز أن الاندماج هو مفهوم غامض جدا، يصعب تحديده أو تقديم تعريف شامل له، لكن حسب تقديرها، فإنه يشير إلى محاولة تكيف جزء من المجموعة مع باقي أجزائها، لكن بدرجات متباينة وبطرق مختلف، مراعاة لخصوصيات كل جزء من هاته الأجزاء. كما أن أصعب شيء بخصوص مفهوم الاندماج، هو إيجاد مؤشرات دالة ومضبوطة لقياس معدلاته.[5] في هذا السياق كذلك، يشير عبد الرحمن المالكي إلى أن الاندماج سيرورة يتمكن من خلالها فرد أو مجموعة أفراد من الانخراط في سيرورة أخرى أعم وأشمل، أي أن الفرد يكون هو الفاعل الأساسي في هذه السيرورة، وذلك في إطار مؤسسات وآليات يوهبها له المجتمع لتسهيل عملية اندماجه، أي من خلال عمله بالطابع السائد في الجماعة المراد الاندماج بها، وكل فشل قد يتعرض له الفرد في عملية اندماجه هاته، قد تجعله في حالة عدم تلاؤم مع معايير وقيم المجتمع”[6]. فالفرد المعني بعملية الاندماج إذن يكون دورة إيجابيا في هذه العملية، بحيث لا ينتظر تدخل مؤثرات خارجية فقط من شأنها الدفع به نحو تحقيق غايته، وإنما الإرادة الحرة والمبادرة التي يهدف من خلالها إلى خلق التكيف والتوازن مع النسق الذي يحاول الاندماج فيه.
كما يشير الاندماج الاجتماعي إلى مجموعة من التدابير التي يتبناها المجتمع والجماعة لقبول عضو جديد في صفوفه وتسهيل عملية القبول، وعليه فالاندماج يجب أن يكون شاملاً متكاملاً، ولا يمكن أن ينجح في مستوى معين ويفشل في مستوى أخر. فالاندماج الاجتماعي يعد بمثابة عملية تستهدف تقليص الهوة بين المهاجرين وبين المجتمع الحاضن أو المستقبل لهم، وذلك عن طريق التركيز على الجوانب الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية من خلال توفير فرص العمل والتعليم والسكن اللائق والمساواة في الحقوق القانونية والكرامة الإنسانية ومحاولة تجنيبهم الوقوع في الجريمة والميز العنصري. إذاً فالمجتمع المندمج يفرض انسجاما وتماسكا اجتماعيا بين مختلف الأجزاء المكونة له، باعتبار الاندماج هو ذلك التطابق السلوكي والمظهري إلى حد ما من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والنفسية من قبل الأفراد، مع تقاليد وقيم وممارسات المجتمع “بلد المهجر”، وقد تكون طواعية ولا إرادية لغرض تقريب المسافة الاجتماعية والثقافية لخلق نوع من الانسجام بين أبناء هذا البلد سواء أكانوا مواطنين أم مهاجرين بغية الاستفادة القصوى منهم وتجنباً لخلق أي نوع من الأزمات الداخلية.
لقد أوضح إميل دوركايم في سياق شرحه للسيرورة التي تنتقل فيها المجتمعات من نمط التضامن الآلي إلى نمط التضامن العضوي، أن الهجرة تعد بمثابة ميكانيزم يساعد على نمو المدن (المجتمعات العليا)، التي تزداد كلما انمحت الخطوط الفاصلة والعراقيل، وتوفرت وسائل المواصلات أكثر. فالأبناء لا يظلون مرتبطين ببلاد أبائهم، على صورة جامدة لا تتغير، بل إنهم ينطلقون باحثين عن الثروة في كل مكان. فتختلط الشعوب وهذا ما يعجل بالقضاء على الفوارق الأصيلة القائمة بينها.
“من المؤسف أن فقد المعلومات الإحصائية لا يسمح لنا أن نتقصى سر هذه الهجرات الداخلية خلال التاريخ، ولكن هناك أمرا واحدا يكفي لتقرير أهميتها المتزايدة وهو نشوء المدن ونموها، والحق أن المدن لا تتكون بنوع من النمو العفوي، ولكن عن طريق الهجرات، وليس الأمر في ذلك انها مدينة بوجودها لارتفاع المواليد عن الوفيات، إذا أنها تكشف في هذه النقطة عن عجزها العام. فمن الخارج إذن تتلقى من العناصر التي تزداد بها يوميا، وبحسب دونان (Dunant) إن الزيادة السنوية لمجموع سكان إحدى المدن الأوربية الكبر مدين للهجرة بنسبة 784,6 ‰ ، أما فرنسا فإن غحصاء عام 1881 قد أثبت وجود زيادة 766,000 نسمة بالنسبة إلى عام 1871[…]، ولا تتجه حركة الهجرة هذه إلى المدن الكبرى فحسب، بل إنها تنتشر في المناطق المجاورة. وقد أحصى السيد برتين (Bertillon) أنه على حين أن 11,25 % من السكان فقط كانوا يولدون خارج المنطقة وذلك كمتوسط لفرنسا كلها عام 1887، كان من يولد في منطقة السين 34,68 % وتزداد نسبة الغرباء هذه كلما كانت المدن التي تحتويها المنطقة أكثر سكانا، ففي الرون 31,48 %، وفي “البوش دي رون ” 26,29 %، وفي السن والواز26,41 % وفي الشمال 19,46 %، وفي الجيرون 17,62 %، وليست هذه الظاهرة خاصة بالمدن الكبرى، بل إنها تحدث أيضا في المدن الصغيرة ولو بشدة أقل.
وتتزايد كل مناطق التجمع هذه على حساب الدوائر الأصغر منها، بصورة ثابتة، بحيث نجد بعد كل إحصاء عددا من فئة من الفئات يزيد ببعض الوحدات. وعلى ذلك، فإن هذه الحركة المتزايدة للوحدات الاجتماعية التي تقتضيها ظاهرة الهجرة تحتم ضعفا في كل التقاليد […]. وبما أن المعتقدات والطقوس المشتركة تستمد قوتها إلى حد كبير من قوة التقاليد، فمن البديهي أن تقل قدرتها على مضايقة النمو الحر للتنوعات الفردية. وأخيرا إن المجتمع بقدر ما يتسع ويتمركز يقل تضييقه على الفرد وتقل بالتالي احاطته إحاطة تامة بالميولات المتناقضة التي أخذت بالظهور[…] لئن كانت هذه الظاهرة أكثر وضوحا في المدن الكبيرة، فهي ليست خاصة بها، إنما تحدث أيضا في المدن الأخرى، حسب أهميتها”.[7]
يعتبر كارل ماركس في الجزء الأول من كتابه رأس المال، أن تطور الرأسمالية يؤدي إلى إفقار الطبقة العاملة، ولكي يزيد المقاولون في الربح يلجؤون إلى تخفيض الأجور، فالعمال وحدهم ينتجون ويخلقون القيمة أو فائض القيمة، التي يستحوذ عليها الرأسماليون، والروح التي تحرك الرأسمالي هي مراكمة رأس المال، والتراكم يعني غزو الثروة الاجتماعية، وتوسيع النفوذ الخاص والزيادة في الأتباع وهذا طموح لا نهائي. يمكن تفسير عملية الهجرة من خلال هذا المنظور، انطلاقا من مقاربة التوزيع اللامتكافئ لعوامل الإنتاج “، حيث توجد مناطق تعتبر أكثر غنى من مناطق أخرى، ولذلك تنطلق اليد العاملة تطلعا للحصول على أجر أحسن. فالرأسمالية سبب في تفشي الفقر واللاتوازن في توزع الخيرات بين الدول وتصعيد عمليات الهجرة خارج الوطن مما يؤدي لا محالة إلى هدر في الموارد البشرية بالنسبة لمجتمعات الانطلاق واستفادة الدول المستقبلة من سواعد عضلية تزيد من قوة الإنتاج وتكسرالوعي الطبقي الذي تكونه الطبقة العاملة المنتمية للمجتمع الصناعي. وهنا نعود إلى المفاهيم المهمة في الفكر الماركسي التي تتحدث عن المستغل والمستغل ” والذي درج ماركس على تقديمه في تحليلاته التي تناهض على التمييز بين نظم فعالة: ومسيطرة وأخرى مستجيبة في البنية الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة ومنه تمثل الهجرة نوعا من الاستغلال الذي تمارسه الدول الصناعية عبر عملية التحفيز وتشجيع الأفراد على الهجرة من اجل تحريك عملية الإنتاج وأيضا أشكال القهر التي تسببها للبلدان غير صناعية من أجل ضمان تبعيتها. إن فعل الهجرة لما يتحول إلى ظاهرة اجتماعية بالمعنى السوسيولوجي، أي عندما تصبح فعلا شاملا ممتدا في الزمان والمكان فإنه من غير المفيد دراسته على مستوى الوحدات المكونة له أي الأفراد. بل ينبغي البحث عن تلك التنظيمات التي تمارس سحرها على الأفراد وتقنعهم بالهجرة.
كما أن كارل ماركس (خاصة في كتاب الأجور) يرى أنه في اقتصاد ما قبل الرأسمالية لم يكن هناك وجود للبطالة، فكل من يستطيع العمل يعمل بيده ويأكل؛ أما باستحداث النظام الرأسمالي امتلكت الطبقة الغنية(البرجوازية) عملية الإنتاج برمتها وقامت بتقنينها حسب ما يخدم مصالحها بحيث أصبحت تتحكم في حجم انتاج الاقتصاد برمته وتحدده عن المستوى الذي يحقق لها أعلى عائد بأقل تكلفة. مما يعني أن الرأسمالية هي التي اخترعت البطالة، إذ أن هذه الظاهرة لم يكن لها وجود في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، إذ إن من مصلحة البورجوازية أن تتكون البطالة في المجتمع التي تصبح بمثابة جيش عمال احتياطي يتم استدعاؤه متى وجب ذلك، وهو الأمر نفسه الذي قامت به البورجوازية بريطانيا مع المهاجرين الايرلنديين حيث تم استخدامهم كجيش عمال احتياطي منخفض التكلفة وبلا حقوق سياسية لتغذية النظام الرأسمالي في بريطانيا. على النهج صار العديد من الباحثين الذين اتخذوا من النظرية الماركسية مرشدهم في التحليل والبحث، أي اعتبار أن النظم الرأسمالية هي التي بنت جسور الهجرة بين الدول غير المتساوية في التنمية الاقتصادية لتتمكن المتقدمة منها من الوصول إلى اليد العاملة الرخيصة، وكما تتحكم الطبقة الغنية في مستويات الإنتاج فإنها تتحكم أيضا في مستويات الهجرة، فتغلق الأبواب في فترات الركود وتفتحها في فترات الازدهار.
في هذا السياق يعالج بول بران Paul Baran ظاهرة الهجرة من خلال نظرية التبعية (التي تعود في جدورها للإرث الماركسي) ليوضح أن انقسام اليد العاملة يظهر في تلك الماهرة وأخرى غير المؤهلة التي تتكدس في الدول الفقيرة، فيصبح التأهيل والهجرة شرطين متلازمين يؤدي أحدهما إلى الآخر، ليظل ضعف بيئة التأهيل والتدريب في الدول الفقيرة من دوافع الهجرة، مثلما أن قلة فرص العمل المناسبة للمؤهلين والمهرة من العمالة في الدول الفقيرة من دوافع الهجرة أيضا، فيهاجر غير المؤهلين ليكسبوا تأهيلا ويهاجر المؤهلون ليجدوا وظائف. إضافة إلى هذا فإن سوق العمل في الدول الرأسمالية الغنية ينقسم إلى قسمين: أساسي، يشمل الوظائف التي تعد بمستقبل جيد ويسعى المواطنون إلى نيلها؛ وثانوي، أي تلك الوظائف الدنيا ذات السقف المحدود والتي تتميز بكونها قصيرة الأمد ومؤقتة وأجورها تحدد تبعا لقوى السوق وعائدها ضعيف. وهكذا تصبح التبعية الاقتصادية جسرا بين الدول الفقيرة يعبره المهاجرين بلا انقطاع مادامت الظروف التي أدت إلى هذه التبعية قائمة.
لم يقدم ماكس فيبر تصورا واضحا وكامل حول الهجرة كما هو الحال عند تناوله لقضايا الاقتصادي والسياسة والدين، وإنما تناولها بشكل متكرر في الكثير من الكتابات في سياق حديثه عن الجانب الاقتصادي…، إلا أنه يمكننا أن نستعين بإرثه السوسيولوجي في معالجة تيمة الهجرة من خلال ربطها بتفسيراته السوسيولوجة للظاهرة الدينية والعقلانية والبيروقراطية ومسألة موضوع علم الاجتماع عنده.
تعتبر الهجرة فعلا اجتماعيا بالمعنى الفيبيري؛ حيث أن المهاجر عندما يقرر الهجرة ينخرط في بناء استراتيجية خاصة ودقيقة من خلالها يتمكن من الانتقال من مجال حياتي إلى مجال حياتي آخر مختلف عنه تماما. ولكن هذا الانتقال لا يحدث على شكل طفرة أو قفزة في المجهول. لأن المهاجر ليس هو المتشرد أو التائه بل هو إنسان اقتصادي بالدرجة الأولى يقوم بأفعال عقلانية وغائية (بالمعنى الذي يعطيه لها ماكس فيبر) [8]، وبالتالي فإن الهجرة ليست فعلا اعتباطيا، ولكنها قرار مدروس ومحسوب بين مزايا الهجرة ومساوئها أي أنها فعل اجتماعي عقلاني موجه بهدف، حيث أن المهاجر عندما يقدم على فعل الهجرة فهو يحدد بشكل مسبق هدفه من هذه الهجرة والوسائل، وفي هذا السياق نستحضر مثالا لأقوال إحدى شريكات البحث (المبحوثة) من الدراسة التي قام بها عبد الرحمان المالكي في كتابه الثقافة والمجال دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة بالمغرب ” …إن أهل قريتي يهاجرون كثيرا لفاس لأنها هي الأقرب إليهم من حيث المسافة، وتوفر لهم بعض فرص الشغل (صناعة الأحذية\البلغة) وهم غالبا ما يسكنون بشكل جماعي بدوار ريافة وباب فتوح. ومن بين العوامل التي جعلتني أفضل الهجرة لفاس هو أن أختي وزوجها شجعاني على ذلك لأني كنت أراهم “مرتاحين من مشاكل البشر” ولذلك أردت أنا الأخرى أن أستقل بأبنائي وبيتي[9]“ وبخصوص النتائج الثانوية تقول ” …إن بيت أصبح شبه زاوية الضيوف يأتوننا من البادية دائما … لهذا من المستحسن أن يهاجر الإنسان إلى أبعد نقطة ممكنة[10] ” حيث يتبين من خلال هذه المعطيات أن المهاجر دائما ما يضع الهدف من هجرته نصب أعينه ويختار لنفسه الوسائل المناسبة لبلوغه، والتي هي بهذا المثال القرب الجغرافي وتوفر المسكن علاوة على وجود أقارب، أما بخصوص النتائج الثانوية فذكرت كثرة الزيارات والضيوف والتي ترتبط بالأساس بالقرب الجغرافي.
يتناول ماكس فيبر موضوع الطوائف الدينية وعلاقتها بالحداثة في العديد من كتاباته، إن اهتمامه بهذا الموضوع دفعه للقيام بتقعيد سوسيوتاريخي لهذه الظاهرة عبر التاريخ، حيث تناول حركية هذه الطوائف مند العصور القديمة وصولا إلى المجتمعات الحديثة.
يرى فيبر أن ظاهرة نزوح مهاجرين من شتى المعتقدات الدينية في العالم، من هنود وعرب وصنيين وسوريين وفينيقيين ويونانيين ولومبارديين…، بوصفهم ناقلي تجربة تجارية من أقطار متطورة إلى أخرى، لظاهرة كونية عامة[…] ذلك مما توافر في كل العصور وفي كل البلدان، وماهم بخاصية تنفرد بها الرأسمالية الحديثة،[11] ليضيف أن الاختلاف الذي وقع مع البروتستانتية أنها أصبحت من ركائز تطور الرأسمالية الصناعية الحديثة.
إن اهتمام ماكس فيبر بهذا الموضوع قاده للقيام بدراسة في الولايات المتحدث الامريكية، فيرى أنه بالرغم من كون أن الولايات المتحدة الأمريكية قد التزمت منذ أمد بعيد بمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، وتجاهلها الكلي للطوائف الدينية عن طريق افتقاد كافة أشكال المكافأة، التي كانت معظم الدول الأوربية تعطيها في سبيل الانتماء لكنائس معينة تتمتع بالامتياز، إذ قدر أنداك عدد غير المنتمين إلى عقيدة دينية بالولايات المتحدة الأمريكية، رغم تدفق المهاجرين إليها بأنه لا يتجاوز 6 %، مع العلم أن الانتماء إلى جماعة كنسية (طائفة) كان يعني تحمل أعباء إضافية لاسيما بالنسبة إلى الفئات المعوزة. إلا أن هذا الفعل يعد بمثابة فعل عقلاني لكونه يرتبط بمنطلقات وأهداف عقلانية يضعها المهاجرة قبل الإقدام على هذا الفعل، يقول ماكس فيبر” ذات يوم أحد جميل في أوائل شهر تشرين الأول/ أكتوبر واكبت صحبة بعض الأقارب على ضفة بركة ماء يخترقها جدول ينحدر من جبال الحافة الزرقاء، حفل تعميد على طريقة المذهب التغطيسي (الباتيست)، كان الطقس باردا وقد نزل الصقيع شيئا ما خلال الليل. واحتشدت على سفح الهضبة عائلات المزارعين بأعداد غفيرة، توافدت على متن العربات الخفيفة ذات العجلتين من الأماكن المجاورة وحتى من بعيد. ووقف داخل البركة القسيس بردائه الأسود، يغمره الماء إلى الحزام. وولج البركة-عقب تحضيرات شتى- حوالي عشرة أشخاص من الجنسين، الواحد تلو الاخر، بلباس عادي، وتم تكريسهم في عقيدتهم ثم غطسوا بأكملهم في الماء، النساء منهم بمساعدة القسيس، ثم ظهروا ثانية و غادروا البركة وهم ينخرون ويرتعشون في ثيابهم المبللة؛ وتقبلوا “التهاني” من الناس حولهم ودثروا على عجل بأغطية سميكة وتم نقلهم في الحين إلى بيوتهم. وكان بجانبي أحد الأقارب يتابع الحدث، على عادة الألمان، دون حماس ديني ولا يلبث أن يبصق مشمئزا، إلى أن شد انتباهه تغطيس أحد الشبان فقال: أنظر إليه-لقد أنبأتك بما سيحدث- وعلى سؤالي(بعد نهاية الحفل): لماذا توقعت مسبقا، كما تقول؟ أجاب: “لأنه يعتزم فتح مصرف بنكي[…] إنه بتعميده هذا يجلب إليه الزبائن بالمنطقة أجمعين، ما يخول له أن يحبط كل منافسة”،[12] فعلى هذا الأساس يكون القبول والانتماء الطائفي يرتبط بمستويات اقتصادية وأهداف عقلانية للأفراد، الذين هم بالأساس من المهاجرين حيث أنه يتحتم عليهم الدخول في هذه التنظيمات(الطائفة) كخطوة أساسية من أجل الاندماج الاقتصادي والاجتماعي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالهجرة حسب أفكار ماكس فيبر فهي بدورها تعد بمثابة ميكانيزم اجتماعي يساهم في تنامي العقلانية والبيروقراطية، هذه الفكرة التي لا يمكن فهمها إلا من خلال العودة إلى المنطلقات الفكرية للتصور الفيبري التي تم الحديث عنها آنفا. فالبيروقراطية هي النمط الوحيد الذي يمكن أن يسود وينظم المجتمعات التي تعرف هجرات ويسكنها المهاجرين، وذلك راجع لتعدد الأعراف والتقاليد. أما من ناحية دوافع الهجرة فقد ربطها ماكس فيبر في سياقات عدة بمسألة “الاضطهاد” الديني، حيث عرض شواهد من التاريخ كهجرة اليهود والكاثوليك خاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
يعتبر وليام “إسحاق طوماس” (W.I, Thomas) (1863-1947) إلى جانب “روبرت بارك” العالمين اللذين تركا بصماتهما الواضحة في مجموع السوسيولوجيا الأمريكية وبالخصوص في فترة ما بين الحربين العالميتين، وإليهما يرجع الفضل في وضع لبنات وأسس مدرسة شيكاغو. ولقد كان تأثيرهما الواضح يتمثل أساسا في تأسيسهما للمنهجية السوسيولوجية المتبنية للمقاربة الكيفية بالخصوص، وخروجهما بالسوسيولوجيا من المكاتب إلى مواجهة الوقائع في الميدان. ويعتبر “إرنيست بيرجس” (E. Burgess) « أن أهمية طوماس تكمن في أنه كان المعلم الأول للسوسيولوجيا الحضرية في شيكاغو، كما أن دوره الكبير يرجع أساسا إلى شخصيته الفذة، وإلى التأثير الذي أحدثه في وسط زملائه، وإلى حيويته، وقدرته الكبيرة على العمل ».[13]
- مساهمة وليام إسحاق طوماس وزنانيسكي
كان وليام طوماس ضمن أول فوج يسجل في قسم الأنتربولوجيا والسوسيولوجيا بجامعة شيكاغو سنة 1892، وبذلك كان أيضا ضمن أول فوج يتخرج من هذا القسم، وسيلحقه “ألبيو نسمول” مباشرة بعد تخرجه بهيئة التدريس بنفس القسم، وستظهر أولى مقالاته في 1907، إلا أن إنجازه العلمي الأكبر سيكون هو الدراسة التي أنجزها بمعية “فلوریا نزنانیکي” (F. Znaneicki) حول الفلاح البولوني في أوروبا وأمريكا. وهي الدراسة التي أنجزاها ابتداء من سنة 1908، والتي ستكون أول بحث سوسيولوجي ينجز بفضل منحة مالية هامة (50 ألف دولار) من طرف السيدة “كليفر” (Madame Cluver) والتي مكنها ما ورثته من أموال عن أبيها في تمويل مشاريع بحثية عديدة. واختيار الهجرة البولونية بالتحديد كموضوع جاء نتيجة لكون طوماس كان يجد نفسه حائرا أمام السلوكيات الغريبة للمهاجرين البولونيين في الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك اعتبر أن هذه السلوكيات المتناقضة تجعل من هذه الجماعة مشكلة اجتماعية[14] تستحق أن ينكب عليها بالبحث والدراسة.
في 1918 سيشرع وليام إسحاق طوماس وفلوریا زنانیکي في نشر دراستهما المشتركة “الفلاح البولوني في أوروبا وأمريكا” (مونوغرافيا جماعة مهاجرة). وسيصبح هذا الكتاب الذي اعتبره جون میشیل برطلو “شهادة ميلاد السوسيولوجيا الأمريكية الحديثة” واحدا من المراجع التقليدية في علم الاجتماع الحديث، ويعتبره مؤرخو علم الاجتماع أول مؤلف يستحق نعت “بحث سوسيولوجي” لأن متن مادته ومفاهيمه ونتائجه من تحقيقات ميدانية واسعة ووثائق متنوعة، تم التنقيب عنها وتجميعها وتحليلها من طرف الباحثين أنفسهم، وتتطرق هذه الدراسة التي تم نشرها في خمسة أجزاء ما بين 1918 و1920 لوضعية الفلاحين البولونيين في موطنهم الأصلي ثم وضعيتهم بعد هجرتهما لأمريكا، ومحاولة التعرف على نمط عيشهم في بولونيا ثم ما طرأ من تغيير على نمط العيش هذا بعد هجرتهم إلى أمريكا. يقول طوماس وزنانیكي في مقدمة هذه الدراسة: “إن هذا الكتاب عبارة عن مونوغرافيا لفئة اجتماعية فعلية في مرحلة من مراحل تطورها”. وهذا ما يستدعي دراسة هذه الفئة من المهاجرين في مكان انطلاقهم وفي مكان الوصول، ومحاولة رصد أنماط وأشكال التفاعل والعلاقات التي ينسجونها فيما بينهم بعد الهجرة ومع المهاجرين المنتمين لمختلف الأعراق والأجناس الأخرى، وهذا ما يستدعي بالضرورة التطرق إلى موضوع الاندماج أو الانصهار، ومسألة القيم والمعايير الاجتماعية ومظاهر سوء التنظيم الاجتماعي، وإعادة التنظيم.
إن التطرق لهذه المواضيع الهامة سيتم من خلال وثائق خامة ستتم معالجتها اعتمادا على مناهج وتقنيات جديدة ومبتكرة تم توظيفها لمقاربة الوقائع ودراستها، فالمنهجين الرئيسيين الذين تم استعمالهما أكثر في هذه الدراسة هما: تقنية “دراسة الحالة” وتقنية “تحليل المضمون”. أما بخصوص المعطيات الميدانية فكانت عبارة عن وثائق ورسائل شخصية متبادلة بين البولونيين المهاجرين وذويهم في بلد المنشأ – حيث وضع طوماس إعلانات في الجرائد يطلب فيها من هؤلاء المهاجرين تزويده بهذه الوثائق مقابل مكافآت مالية- وقصص وحكايات الحياة والمذكرات الحميمية، كما تم الاعتماد على مقالات الجرائد ولوائح الانتساب لجمعيات المهاجرين، ومحاضر واجتماعات الجمعيات البولونية-الأمريكية، وتقارير المحاكم والشرطة ومؤسسات المساعدة الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى تقنية السيرة الذاتية.
- مساهمة روبرت بارك
استلهاما للنموذج الإيكولوجي يعتبر روبرت بارك الهجرات الإنسانية هجرات طبيعية كما هو الحال في هجرات النباتات والحيوانات، وفي هذا الإطار سيسعى بارك للبحث عن مفاهيم إيكولوجية للتأكيد على أن ظاهرة الهجرات الإنسانية قابلة للدراسة العلمية، ومن بين تلك المفاهيم مفهومين أساسيين هما “الاستخلاف” ( succession) ومفهوم ” التوازن” (équilibre)، فالاستخلاف يعني أن تستخلف جماعة لجماعة أخرى في أرض معينة كما يقع عند الحيوانات والنبات أن تستخلف بعضها البعض، إلا أن الاستخلاف البشري إضافة لكونه جغرافي وديمغرافي فهو ثقافي أيضا (أي استبدال نمط عيش بنمط عيش أخر)، أما بخصوص “التوازن” فلما يصل ضغط السكان على الموارد الطبيعية مستوى معينا من الكثافة فإن شيئا ما سيحدث فإما أن يتشتت السكان ويتحررون من ذلك الضغط عن طريق الهجرة أو الفناء، فالهجرة تعتبر إذا من المكانيزمات المنظمة للحياة وعلاقات الاجتماعية على المستوى المجال كما أنها تعمل على إعادة التوازن للمجتمع. ويضيف بارك إلى مفهوم الهجرة مفهوم الحراك الاجتماعي الذي يعتبره مفهوما أوسع منها، فإذا كانت الهجرة تعني وتشير أساسا إلى الانتقال في المجال فإن الحراك يعني بالإضافة لذلك تغيرا على مستوى الإدراك والتربية،[15] وبالتالي فهو تغير مجالي متبوع بتغير ذهني وفكري أيضا، وقد يكون في تنظيم اجتماعي سوي أو في إطار تنظيم اجتماعي متفكك، في هذا السياق يرى بارك أن كل تغيير اجتماعي يتبعه تغير على مستوى المكان وكل تغير اجتماعي –حتى الذي نعتبره تقدما- ينتج عنه سوء تنظيم اجتماعي.
من خلال تصوره السوسيولوجي هذا المستلهم من الإيكولوجيا الطبيعية، سيحلل روبرت بارك عملية سوء التنظيم وإعادة التنظيم من خلال أربع سيرورات ومراحل كبرى: هي “التنافس”(compétition) التي يعتبرها الشكل الأول لتفاعل الذي يتم بدون اتصال اجتماعي، وانعدام الاتصال هذا بين الأفراد يساعد على ظهور الصراع (conflit) الذي ينتج بشكل طبيعي عن التنافس بين الجماعات المختلفة، إن مرحلة الصراع تعني بلوغ التنافس أعلى درجاته، وهي مرحلة يكون الوعي فيها تاما لأن سائر الأفراد يشعرون أنهم معنيون به لما يحلون في بيئة جديدة، لذلك فإن الصراع يقوي التلاحم بين الأقليات التي تأخذ من خلال ذلك في الانخراط في النظام السياسي القائم، لتأتي مرحلة التأقلم (accommodation) والتحول التي تتطلب من الأفراد والجماعات العمل من أجل التفاعل والانسجام مع المؤسسات التي انبثقت عن مرحلتي التنافس والصراع، وهكذا فإن التأقلم عبارة عن ظاهرة اجتماعية تهم الثقافة عامة كما تهم العادات الاجتماعية ومختلف التقنيات والمهارات السائدة في المجتمع[16]، وفي هذه المرحلة أيضا يتم الوعي بالاختلاف بين الجماعات وتقبل ذلك الاختلاف عن طريق وسائط وقواعد الضبط الاجتماعي بغرض استمرار حالة الأمن في المجتمع. ثم المرحلة الأخيرة الاستيعاب (assimilation) التي تأتي كنتيجة طبيعية لمرحلة التأقلم؛ حيث تخف وتختفي بالتدريج الخلافات بين الجماعات المكونة للمجتمع كما تتقوى وتتعدد أشكال الاتصال والتواصل بينها ويأخذ الوعي الجمعي في التشكل، فهي مرحلة يتشكل فيها المجتمع المبني على قوانين موضوعية ومقبولة من طرف الجميع، ذلك من خلال عدة وسائل منها بالخصوص التربية والمدرسة، التي تعمل على تكوين المهاجر الوافد وتسهيل اكتسابه لروح مواطنة جديدة.
في نفس هذا السياق سيخصص بارك جزءا من اهتمامه لمسألة (الهجرة والهامش)، ومن بين الأفكار التي انتهى إليها بارك الربط بين الهجرات والتقدم، على اعتبار أن تقدم أي ثقافة يبدأ بمرحلة هجرات الجديدة، وهكذا فإن نتيجة كل حراك هجري هو تشكل وظهور نمط “الشخصية المنقسمة ” أي الشخصية الموزعة بين ثقافتين، ولهذا يشعر المهاجر الجديد بالعزلة داخل الوسط المستقبل مما يفجر لديه مفهومه الخاص للقيم والعادات والتقاليد، وهذا ليس أمرا سلبيا تماما في نظر بارك لأن أهم ما يميز الإنسان الهامشي هو خاصية عدم الاستقرار والشعور بالحرية والاستعداد الدائم لخوض غمار تجارب جديدة وابتداع أشكال متميزة من العلاقات الاجتماعية[17]، ما يجعل من المهاجر المحرك الأفضل لتقدم الحضارات فكل مرحلة تقدم بشري جديدة تبدأ بمرحلة هجرات جديدة.
لقد كان رواد مدرسة شيكاغو ينتمون كلهم لما كان يسمى آنذاك بالاتجاه التقدمي، الذي كان يؤمن بقدرة المجتمع الأمريكي على استيعاب وصهر كل الأقليات العرقية الوافدة. لذلك كانت التغيرات الاجتماعية الهائلة التي تعرفها مدينة شيكاغو، حاضرة دوما في هذا المجهود البحثي الميداني الذي كان يسعى إلى إيجاد التفسير النظري الأنسب لمختلف السيرورات المتعلقة بما يسميه وليام طوماس سوء التنظيم الاجتماعي وإعادة التنظيم، وهما العمليتان الاجتماعيتان اللتان تمسان في البداية حياة الأفراد قبل أن تتحولا إلى نمط عيش جماعي يهيمن على كل المجال الحضري. ويمكن القول بأن هذه المنطلقات الفكرية المتقدمة والمتفتحة، وهذا الانشغال بمسألة استيعاب وانصهار المهاجرين في مجتمعهم الجديد هي التي ساعدت على ابتكار وابتداع مجموعة من المفاهيم التي ستصبح مركزية في السوسيولوجيا الأمريكية من جهة، وسوسيولوجيا الهجرات من جهة أخرى.
المحور الثاني: الاتجاهات والنماذج الكبرى للاندماج
يعتبر مفهوم العيش المشترك من بين أهم المفاهيم والنماذج التي تم ابتداعها من قبل الباحثين لترسيخ قيم التعددية والاختلاف داخل المجتمع، في محاولة لتجاوز المفاهيم التي تبتغي إعادة إنتاج الفوارق بين الافراد وترسيخ الاختلاف كمخل للصراع (العرق؛ الثنية؛ الاقلية…)، كما ينبغي التميز في هذا السياق بين مفهوم التعايش والعيش المشترك، فالتعايش هو معاشرة الجماعات المختلفة بعضها لبعض في إطار احتكاك متواصل وطويل، حيث يؤدي إلى تعايش يساهم في إرساء علاقات إيجابية ومتبادلة تصب في مصلحة الأفراد، وهو يؤدي إلى صيغة أرقى هي العيش المشترك. فالتعايش هو قبول الاخر من منطق الجيرة والمصادفة، أما العيش المشترك فيعني القبول القوي والمتعمد للآخر.
تبدأ الخطوة الأولى من الاعتراف للآخر بحقه في الاختلاف وفي الاستقرار والاشتغال في البلد والمدينة التي تنتمي إليها، بغض النظر إن كنت معجبا بثقافته؛ بمعنى الخضوع لمبدأ الحق والواجب، فكلما أتاحت المرافق الحياتية (الأسواق، مقرات العمل، السكن…) فرصة أكبر للالتقاء مع الآخر المختلف (المهاجر) إلا وتمكن الأفراد سواء أكانوا من المجتمع المستقبل أو المهاجرين، من التعرف أكثر على بعضهم البعض وفهم بعضهم البعض، ومن تم تكوين علاقات انسانية واجتماعية تكون أساس ومنطلق التعايش مع الأخر. ويعد نموذج العيش المشترك في جوهره امتدادا لفلسفات التنوع والاختلاف وحسن الضيافة والسلام والمشترك الانساني، إلا أن هذا المفهوم سيعرف انتشارا أكبر وتوظيفات إجرائية أوسع لما سيرتبط بمسألة الهجرة والاندماج، حيث أن المهاجرين سيميطون اللثام عن حجم التحديات التي تطرحها قضية المساواة بين الأفراد واحترام حقوق الانسان، ومعاملة الأفراد المنتمين إلى فئات “أقلية”، وتبني هذا التوجه باعتباره نموذج يتم من خلاله تحقيق الاندماج بين المهاجرين والمجتمعات الاستقبال سيستدعي تصميم سياسات تعتبر العيش المشترك ضرورة حتمية، إضافة إلى مشاركة جميع الجهات المعنية بهذا الموضوع بدون استثناء وتعزيز العمل التواصلي والتشاركي، وتعزيز التعبير عن الرأي وتنمية الثقة وتدعيم الأفراد مهما كانت صفاتهم. فالعيش المشترك ينبغي أن يحقق شعور جميع الأفراد كيف ما كانوا بانتمائهم إلى المدينة والبلد الذي يستقرون فيه، بكونهم يعيشون تفاصيل يومهم، يعملون ويدرسون ويلتقون بأصدقائهم ويعبرون عن ذواتهم بشكل أفضل ويكتشفونها باستمرار، هو إحساسهم بتقدير الآخرين لهم واحترامهم، في جميع الأماكن والفضاءات التي يرتادونها، إذ بذلك تنمو ثقة الفرد بنفسه أولا وبالآخرين من حوله ثانيا، ومن ثم تقدير دور الآخر والعيش معه ضمن نفس المجال دون التدخل في حياته الخاصة أو معتقداته الفردية، ومتى ما أحس الأفراد بأنهم متساوون في الحقوق والوجبات إلا وتحسن أداؤهم المهني والتعليمي…
يتكون مفهوم التلاقح الثقافي من مفهومين أساسيان وهما التلاقح والثقافة، لغة يشير الأول إلى لقح لقحا، ويقال ألقحت الريح السحاب بمعنى خالطتها ببرودتها فأمطرت، أما مفهوم الثقافة فيعتبر من أكثر المفاهيم إثارة للجدل في السوسيولوجيا، بسبب تعدد واختلاف معانيه، حيث يمكن تعريف الثقافة بكونها جهاز يتألف من أنماط فكرية وقيم ومعتقدات شائعة بين مجموعة من الأفراد، سواء كان هؤلاء الأفراد ينتظمون ضمن مجتمعات صغيرة أو كبيرة، فالثقافة هنا وبهذا المعنى هي جزء لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، كما أن الثقافة هي التيمة التي تميز جماعة ما عن جماعة أخرى، هذه الجماعة التي قد تكون طبقة أو فئة أو أقلية…، حيث أن لكل طبقة أو طائفة… ثقافتها التي تميزها عن الباقية، وتعمل هذه الجماعة أو الطبقة أو الطائفة على الحفاظ عليها وإعادة إنتاجها من خلال التنشئة الاجتماعية ونقلها من جيل إلى جيل حتى تصبح المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد… تنحو نحو الطبيعي، أي تصبح مفروضة على الأفراد ويتصفون بها كما لو أنها طبيعية.
في هذا السياق يعرف إدوارد برينت تايلور الثقافة باعتبارها “كل مركب يضم المعرفة والمعتقدات، والفن، والاخلاق، والقانون، والأعراف، وكل المهارات الاخرى أو العادات المكتسبة من طرف الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع”، كما أن هذا التعريف الذي قدمه تايلور تبنت منظمة اليونسكو في المؤتمر العالمي حول السياسات الثقافية المنعقد بالمكسيك سنة 1982، تعريفا للثقافة مشابها له حيث عرفتها على أنها “مجموع الخصائص الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة لمجتمع أو مجموعة اجتماعية ما، وهي تشمل فضلا عن الفنون والادب، أنماط العيش والحقوق الأساسية للإنسان ونظم الاخلاق والتقاليد والمعتقدات”.[18] بصفة عامة يمكن تعريف الثقافة باعتبارها نمط عيش، أي تلك الطبيعة الثانية التي تحدد من خلالها طرائق التفكير والفعل والوجود…، والتي كرست من خلال التنشئة الاجتماعية باعتباره هي السيرورة التي يتم من خلالها دمج الفرد في المجتمع أو الجماعة الخاصة عن طريق استبطان أنماط التفكير والإحساس والفعل، أي النماذج الثقافية الخاصة بذلك المجتمع أو الجماعة. لكن عندما يرتبط الأمر بالهجرة باعتبارها تلك العملية التي يتم من خلالها انتقال الأفراد من مكان لآخر، ومن مجتمع وثقافة معينة إلى مجتمع وثقافة أخرى، يبرز إشكال تعدد أنماط العيش، فمن جهة نجد مهاجر يسعى للحفاظ على ثقافته، ومن جهة أخرى مجتمع مستقبل يسعى هو الآخر للحفاظ على ثقافته، ولتفادي الاصطدام برز لنا مفهوم التلاقح الثقافي، الذي يشير في معناه العام إلى تعدد الثقافات وتداخلها مع بعضها البعض فتفرز نمط عيش جديد.
في هذا السياق لا مناص من الحديث عن مفهوم التثاقف، حيث يشير هذا المفهوم إلى مجموعة الظواهر الناتجة من تماس موصول ومباشر بين مجموعة أفراد ذوي ثقافات مختلفة، تؤدي إلى تغيرات في النماذج (Patterns) الثقافية الأولى الخاصة بإحدى المجموعات أو كليهما.[19] كما أن التثاقف كعملية لا يحدث دفعة واحدة وإنما يتطلب مجموعة من المراحل، وعبر امتداد زمني قد يستغرق عقودا وأجيال، وهو ناتج بالأساس عن دخول عدد من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة وما ينتج عنه من اتصال وتفاعل وتأثير وتأثر.
هذا على المستوى التحديد المفاهيمي أما على مستوى التنفيذ ذلك سنجد أن بلجيكا هي رائدة هذا النموذج من خلال اعتمادها على مبدأ التلاقح الثقافي في سياساتها العمومية المتعلقة بالهجرة والاندماج، حيث سنجد أن الحكومة البلجيكية ترعى مجموعة من المؤسسات والمنظمات سواء الحكومية والغير حكومية منها التي تنظم أنشطة دورية، وفي جوانب متعدد تسعى إلى تحقيق مبدأ التلاقح الثقافي بين الأفراد.
وظف هذا المفهوم خلال فترة تشكل السوسيولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية (أكثر منه في فرنسا)، للإشارة إلى السيرورة التي عن طريقها يصبح المهاجرون الجدد أعضاء في مجتمع الاستقرار، ففي كتاب “مقدمة لعلم الاجتماع” الذي هو عبارة عن مجموعة من النصوص التي جمعها وعلق عليها كل من روبرت بارك وبيرجس، فإن جزء من تلك النصوص يتعلق ب”دورة العلاقات الأثنية”: المنافسة، الصراع، التكيف، والانصهار. ويوجد هذا الأخير الانصهار في قلب ما سمي أنداك “مشاكل الهجرة”. فالانصهار حسب الباحثين هو سيرورة من التأويل والذوبان من خلالها يمتلك الأشخاص أو المجموعات الذاكرة، المشاعر، الأحاسيس ومواقف الأشخاص والمجموعات الأخرى، بمشاركة تجاربهم وتاريخهم. بمعنى أن الانصهار هو سيرورة للتعديل، بموجبها يتم استباق وتخفيض الصراعات، ومراقبة المنافسة وضمان أمن النظام الاجتماعي… .
هكذا “فبيرجس وبارك” يعتبران بأن تداول لغة مشتركة ومعرفة تاريخ بلد الاستقرار يمثلان البعدين الأساسيين في عملية الانصهار، وهذه الأخيرة يمكن أن تتحقق بطريقة مباشرة، بل وغير مباشرة كذلك.
يحتفي هذا النموذج بالتنوع الثقافي من قبيل التعدد اللغوي؛ المرجعية…، فالتعددية الثقافية تنبثق من ملاحظة أنه يوجد في المجتمع فروقات ثقافية، وترى أن الاعتراف بتلك الفروقات أمر صائب، أو على الاقل في أدنى الحالات مستحب، وفي الحالة القصوى تعتمد التعددية الثقافية على صورة للمجتمع، هي صورة عدد من الفئات الثقافية المتمايزة، التي يفترض أنها تقبل بالعيش معا ديمقراطيا.
المحور الثالث نماذج من السياسات العمومية للهجرة والاندماج
لفهم السياسة الإسبانية للهجرة والاندماج لا مناص لنا من تقديم لمحة ولو مختصرة عن تطور تشريعات الهجرة بإسبانية، ففي الستينيات 1960 كان وجود المهاجرين والاجانب بإسبانيا منخفضا جدا، بل كانت تعتبر من الدول المصدرة للمهاجرين، وإلى حدود الثمانينات 1980 كان عدد المهاجرين بإسبانيا لا يتجاوز نسبة 1% من عدد السكان في حين كانت هذه النسبة تتراوح بين 8% و 10% بفرنسا وبلجيكا وألمانيا، إلا أنه مع بداية الثمانينات سيبدأ صناع القرار بإسبانية التفكير في بلورت قانون ينظم مسالة الهجرة، ذلك ما سيطبق على أرض الواقع من خلال القانون الاساسي للأجانب لعام 1985، والذي كان هدفه الرئيسي هو مراقبة الهجرة وضبطها؛ فكان له طابعا أمني بالدرجة الأولى ويعزى ذلك للالتزامات التي أصبحت تربط اسبانيا خلال هذه الفترة مع دول أوربا تحت إطار الاتحاد الأوربي، كما لم يول هذا القانون أهمية كبيرة للمشاكل الاجتماعية للمهاجرين كالتجمع العائلي؛ الصحة؛ التعليم… .
قبل عام 1996 (السنة التي ستعرف مستجدات فيما يخص قضية المهاجرين من خلال استحداث بطاقة الوصول إلى الصحة والتعليم، وكذا افتتاح تسوية جديدة وتوحيد نظام حصص الاقامة الدائمة للمهاجرين الذين كانوا بإسبانيا قبل يناير 1996) كانت جميع المخالفات المرتكبة من قبل المهاجرين تنتهي بالطرد، دون تميز في حجم المخالفة ودرجات خطورتها، هذه المسألة التي سيتم العمل على تنظيمها وتدقيقها بشكل أفضل ضمن القوانين والتعديلات اللاحقة. القانون 4/2000 والذي يعد بمثابة تعديل للقانون 7/1885، حيث سيلامس هذا القانون بشكل أبلغ من سابقيه قضية الحقوق الحريات والاندماج الاجتماعي للمهاجرين، حيث سيحقق تقدما هاما في الاعتراف بالحقوق وزيادة الأمن القانوني، والتقدم في الخدمة الاجتماعية، واحداث تغييرات في تنظيم رخص الاقامة والعمل وفتح إمكانيات الاندماج الاجتماعي للمهاجرين. يكرس الباب الأول من هذا القانون الحقوق والحريات الاساسية للمهاجرين، بما في ذلك التجمع العائلي والعلاج المجاني المناسب باعتباره حقا أساسيا نص عليه اجتهاد المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان، فضلا على أن هذا القانون أصبح يعبر عن هجرة بمعنى ومظهر جديدين، فنص على التساوي في الحقوق بين المهاجرين وباقي المواطنين كحرية التنقل والتجمع وتكوين الجمعيات…، باستثناء الحق في التصويت والوصول إلى الوظائف العامة، علاوة على الحق في المساعدة القانونية المجانية والسكوت الايجابي لتجديد رخصة الاقامة، وإمكانية توظيف المهاجرين كموظفين في الادارات العمومية الإسبانية وإمكانية مشاركة المنظمات، وتجدر الاشارة هنا إلى أن الحق في التغطية الصحية والتعليم قد شمل حتى المهاجرين الغير النظامين وأطفالهم.
فيما يخص مسألة الطرد فوفق هذا القانون تم استبدال الطرد في الكثير من الحالات بالغرامة، واقتصر الطرد على الحالات الخطيرة، كالمشاركة في الأنشطة غير المشروعة أو حالات الطرد التي يمليها القاضي بعد إدانته المهاجر بحكم قاضي، مما سيساهم بشكل كبير في التقليل من حالات الطرد المستعجل الذي كان يعيق تدخل المحامي من أجل الطعن في القرار الإداري، بالإضافة إلى أنشاء مكتب الهجرة على مستوى الأقاليم، وإنشاء المجلس الأعلى لسياسة الهجرة. أثناء الازمة الاقتصادية التي ضربت اسبانيا، تبنت الحكومة برنامج العودة الطوعية للمهاجرين(مرسوم 4/2008)؛ وكان الهدف منه هو تشجيع عودة المهاجرين النظامين والغير النظامين إلى بلدانهم الأصلية من خلال برنامج مساعدات لإنشاء مشاريع ببلان المنشأ بحيث يحل المستفيدون من دعم 40% من إسبانيا و60% من دول المنشأ. مرسوم قانون 557/2011 بتاريخ 30 أبريل 2011، الذي عدل قانون 2000/4 المتعلق بحقوق وحريات الأجانب واندماجهم الاجتماعي، حيث جاء بنصوص قانونية تنظم دخول وإقامة الأجانب من خارج الاتحاد الأوروبي إلى إسبانيا، وكذلك الحقوق المعترف لهم بها بالإضافة إلى المسطرة المتبعة في العقاب والتنسيق مع السلطات العمومية ومكاتب ومراكز الهجرة، فوفق هذا القانون أصبح يأخذ بعين الاعتبار مدة الاقامة في حالة ارتكاب المهاجر لمخالفة قد تؤدي إلى طرده.
عرفت فرنسا مند نهاية القرن التاسع عشر موجات هجرة متتالية، بدأ ببعض جيرانها الأوربيين، ثم من مستعمراتها السابقة، علاوة على هذا فحتى سياساتها في الهجرة والاندماج عرفت تجديدات عديدة، -لعلها اتسمت في السنوات الاخيرة بالعميقة- ففي فرنسا يتم تقاسم الاختصاصات في شؤون الهجرة والاندماج بين وزارة الداخلية وهي المسؤولة عن الهجرة ووزارة الشؤون الاجتماعية مختصة في عملية الاندماج، وتقع مسؤولية التنسيق على عاتق اللجنة المشتركة بين الوزارات للاندماج، التي تم إنشاؤها في عام 1989 وأعيد تنشيطها في عام 2002، والتي تحدد المبادئ التوجيهية لسياسة الاندماج، ويتم تنفيذ سياسة الاندماج بفرنسا من خلال مؤسستين تحت إشراف وزارة العمل والتماسك الاجتماعي والاسكان؛ وهما الوكالة الوطنية لاستقبال الأجانب والهجرة: التي تعمل على استقبال المهاجرين الجدد في فرنسا، من خلال تقديم تدريب مدني ولغوي لهم، والوكالة الوطنية للتماسك والاندماج وتكافؤ الفرص: وهي المسؤولة عن إجراءات الاندماج للمقيمين الاجانب، وتجدر الاشارة هنا أنه بالنظر إلى السعي الدائم إلى إذكاء البعد اللامركزي في الإدارة الفرنسية، فقد أعطيت في المقام الأول مسؤولية تنفيذ هذه الإجراءات للأقاليم والمحافظات ومديريات الاقليمية.
أدركت بلجيكا صعوبة تطبيق نموذج استيعاب المهاجرين في دولة متعددة الجنسيات (فلاندرو وألونيا)، حيث أنه في فترة ما بعد الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، تم الانتقال من مرحلة الترحيب بالعمال المهاجرين ليكونوا جزءا من معاول إعادة الاعمار بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الترحيب بالمهاجرين ودمجهم باعتبارهم ليسوا مواطنين من جهة، ومن جهة ثانية ليسوا مهاجرين وأجانب فقط، أي باعتبارهم فئة وشريحة اجتماعية تتلاقح هي الأخرى مع باقي الفئات والشرائح الاجتماعية.
يرتكز المغرب في مجال السياسات العمومية للهجرة على استراتيجيتين إحداهما موجهة للوافدين واللاجئين وأخرى لمغاربة العالم:
تعتبر الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء بمثابة سياسة عمومية متعددة الأبعاد، تهدف لإدماج المهاجرين وتسوية أوضاعهم قانونيا، وقد انخرط فيها المغرب منذ 10 شتنبر 2013. تهدف هذه الاستراتيجية إلى ضمان إدماج أحسن للمهاجرين بالمغرب وتدبير أفضل لتدفقاتهم في إطار سياسة منسجمة، شاملة ذات بعد إنساني ومسؤول، من خلال تسهيل عملية اندماج المهاجرين الشرعيين؛ تأهيل الإطار القانوني؛ وضع إطار مؤسساتي ملائم وتدبير تدفق المهاجرين في إطار احترام حقوق الإنسان. وقد وضعت هذه الاستراتيجية ضمن رهاناتها، الرهان الإنساني؛ رهان الاندماج؛ رهان السياسات العمومية والحكامة؛ الرهان الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، كما ترتكز هذه الرؤية الاستراتيجية على ستة مبادئ موجهة ( مقاربة انسانية؛ مقاربة شاملة؛ احترام حقوق الانسان؛ مطابقة القانون الدولي؛ تعاون متجدد مع مختلف الاطراف؛ مسؤولية مشتركة.) تتوزع على إحدى عشر برنامجا (التربية والثقافة؛ الشباب والترفيه؛ الصحة؛ السكن؛ المساعدة الانسانية والاجتماعية ؛ التكوين المهني؛ التشغيل؛ تدبير النفقات ومحاربة الاتجار في البشر؛ التعاون والشراكات الدولية؛ الاطار القانوني والاتفاقيات؛ الحكامة والتواصل.).
يعتبر دستور المملكة لسنة 2011 خاصة الفصول (16؛17؛18؛163) والخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش سنة 2010؛ وذكر ثورة الملك والشعب سنة 2012 التي دعا فيها الملك محمد السادس إلى “ضرورة العمل على تعزيز العلاقات بين المغاربة ووطنهم الأم وتسهيل اندماجهم ببلدان الإقامة والتضامن معهم لتجاوز الأزمة الاقتصادية”، إضافة إلى البرنامج الحكومي 2012-2016 الذي خصص بدوره حيزا هاما يدعوا فيه إلى تعزيز السياسات العمومية المتعلقة بتدبير شؤون مغاربة العالم، أهم المرجعيات والمنطلقات التي ستبنى عليها الاستراتيجية الوطنية لمغاربة العالم، التي تهدف إلى تعزيز روابط مغاربة العالم بالمغرب والحفاظ على الهوية المغربية لمغاربة العالم وحماية حقوق ومصالحهم وكذا مساهمتهم في التنمية بالمغرب، وذلك من خلال الاستجابة لأربع رهانات أساسية تخص مغاربة العالم والمجتمع المغرب والدولة المغربية، وهي رهان تعزيز الهوية والثقافة؛ رهان حماية حقوق ومصالح مغاربة العالم؛ رهان النمو السوسيواقتصادي؛ رهان تمثيل المغرب بالخارج، وقد سطرت هذه الرؤية الاستراتيجية برنامجا يتوزع على 8 قطاعات (الثقافة؛ التربية والتكوين؛ الجانب الاجتماعي؛ المواكبة القضائية والإدارية؛ تعبئة الكفاءات والشبكات؛ الاستثمار والتنمية التضامنية؛ التعاون والشراكة؛ الحكامة والتواصل.).
تعد مسألة الاندماج الاجتماعي للمهاجرين من أبرز القضايا السوسيولوجية التي تطرحها مسألة الهجرة، على اعتبار أن الهجرة متغير مستقل ومسألة اندماج المهاجرين في مجتمعات الاستقبال متغير تابع، وذلك بهدف التصدي وتفادي الصراعات التي قد تنشأ بين الجماعات، سواء المهاجرة منها أو مجتمع الاستقبال، وهنا تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الاندماج الاجتماعي هو مفهوم ينشئه كل مجتمع وكل دولة بالنموذج الذي يلائم خصوصياته البنيوية.
علاوة على هذا –كما ذكر آنفا- فالاهتمام بموضوع الاندماج الاجتماعي لا يعتبر من المواضيع الحديثة على السوسيولوجيا بل يدخل ضممن صلب اهتماماتها حتى خلال مراحلها الأولى لكونه موضوعا مرتبطا بمسألة تشكل المجتمعات والقيم والمعايير، إلا أن هذا الموضوع بموازاة تقدم وتطور المجتمعات سيعود ليشغل بال الدارسين، لكن من خلال قضايا معينة وفي علاقة بعمليات محدد، فأصبحنا نتحدث مثلا عن الهجرة وقضايا الاندماج، وليس الاندماج هكذا وفقط في معناه العام، وإنما باعتباره احد أهم المتغيرات التابعة التي تطرحها مسألة الهجرة، ولن نبالغ إذا قلنا أنها أهم الإشكالات السوسيولوجية التي تطرحها الهجرة، حيث أن مسألة الاندماج ترتبط بالمهاجر كمهاجر سواء فيما بينهم أو مع المجتمع المستقبِل والمجتمع المستقبل سواء على مستوى العلاقات بين أفراده أو في علاقتهم بالمهاجرين. هذا من جهة، أما إذا ما استفضنا الحديث أكثر حول الهجرة والاندماج فنجد أنفسنا أمام إشكال آخر مرتبط باتجاهات الاندماج والنماذج كبرى التي تتباين من مجتمع وقطر لآخر.
مراجع باللغة العربية
- إيميل دوركايم، “تقسيم العمل الاجتماعي “، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت 1989.
- دونيس كوش، “مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية “، ترجمة منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2007.
- عبد الرحمان المالكي، “مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة”، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ال طبعة الثانية2019.
- عبد الرحمان المالكي.” الاندماج والادماج: مستويات الدلالة السوسيولوجية في التكوين الجامعي والاندماج السوسيومهني”، المغرب، منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله،فاس، 2001.
- عبد الرحمان المالكي، ” الثقافة والمجال دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة بالمغرب “، منشورات مختبر سويولوجيا التنمية الاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الانسانية فاس ظهر المهراز، الطبعة الاولى 2015.
- منظور، “لسان العرب”، الجزء السابع، هجر، الدار المصرية لترجمة و التأليف، القاهرة.
- مالكي أمحمد، “المؤتمر السنوي الثاني للعلوم الاجتماعية والإنسانية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مارس 2012.
- ماكس فيبر، “مقالات في سوسيولوجيا الدين“، ترجمة منير الفندري، المنظمة العربية لترجمة، لبنان، الطبعة الأولى 2015 .
مراجع باللغات الاجنبية
- Zniecki&W.IThomas, Fondation de la sociologie américaine ,préface et coordination de la traduction par sizie Guth ,éd L’Harmattan ,paris 2000.
- Grawitz, Madeleine, “Lexique des sciences sociales ” , Paris France: Dalloz,
- Reneé Duchac, sociologie des migrationaux Etats-Unis, Ed Mouton paris,
مواقع الكترونية:
- https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar اطلع عليه في 22/01/2021، على الساعة 21:00.
- https://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/english/migration اطلع عليه في 22/01/2022، على الساعة 22:30.
الهوامش
[1] – ابن منظور، “لسان العرب”، الجزء السابع، هجر، الدار المصرية لترجمة و التأليف، القاهرة.
[2] – https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar طلع عليه ف22/01/2021، على الساعة 21:00.
[3] – https://www.oxfordlearnersdictionaries.com/definition/english/migration طلع عليه ف22/01/2022، على الساعة 22:30.
[4]– مالكي امحمد، “المؤتمر السنوي الثاني للعلوم الاجتماعية والإنسانية”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مارس 2012.
[5] –Grawitz, Madeleine, “Lexique des sciences sociales ” , Paris France: Dalloz, 2004 p.231.
[6]– عبد الرحمان المالكي.” الاندماج والادماج: مستويات الدلالة السوسيولوجية في التكوين الجامعي والاندماج السوسيومهني”، المغرب، منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله،فاس، 2001، ص16.
[7] – إيميل دوركايم، “تقسيم العمل الاجتماعي “، ترجمة حافظ الجمالي، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، بيروت 1989، ص 331-339.
[8] – عبد الرحمان المالكي، ” الثقافة والمجال دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة بالمغرب “، منشورات مختبر سويولوجيا التنمية الاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الانسانية فاس ظهر المهراز، الطبعة الاولى 2015، ص183،184.
[9] – نفس المرجع، ص 183.
[10] – نفس المرجع، ص 183.
[11]– ماكس فيبر، “مقالات في سوسيولوجيا الدين“، ترجمة منير الفندري، المنظمة العربية لترجمة، لبنان، الطبعة الأولى 2015،ص 40-41.
[12] – نفس المرجع،ص227- 228.
[13] -Reneé Duchac, sociologie des migrationaux Etats-Unis, Ed Mouton paris, 1974 p 71 .
[14] – F.Zniecki, &W.I Thomas, Fondation de la sociologie américaine ,préface et coordination de la traduction par sizie Guth ,éd L’Harmattan ,paris 2000 p320.
[15]– المالكي، عبد الرحمان، “مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة”، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية 2019، ص 137.
[16] – نفس المرجع، ص 141.
[17] – نفس المرجع، ص 145.
[18] – المالكي، عبد الرحمان، “الثقافة والمجال: دراسة في سوسيولوجيا التحضر والهجرة في المغرب”، منشورات مختبر سوسيولوجيا التنمية الاجتماعية كلية الآداب والعلوم الانسانية ظهر المهراز، فاس، الطبعة الاولى 2015، ص 44.
[19] – دونيس كوش، “مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية “، ترجمة منير السعيداني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2007، ص 93.