الدين الأفتن” بديل “الدين الأمتن”
من “التسلف الأعلى” إلى “التسلف الأدنى”
من شواهد القول والنظر:
“إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق”
“أفتان أنت يا معاذ !“
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاتب معاذا لكونه أطال في الصلاة ولم يرفق بمن خلفه من ضعاف المأمومين، وذلك بقوله: أفتان أنت يا معاذ !؟ فما عسانا نقول في قوم انتصبوا لفتنة الناس في العقيدة والعبادة والشريعة، في الأصول والفروع بمنطق القطعية والحدية في مسائل الخلاف المعتبرة، أوغلوا فيها بغلظة وشدة، و أقاموا محاكم القضاء والتفتيش في العقائد والعبادات والشعائر والأحكام ورشقوا الناس بالتكفير والتضليل والتبديع بمظنونات الفهم الأهوج لنصوص الشرع وللنقول عن الأئمة الأعلام.
لا أريد أن أتحدث عن التوظيف الدولي والإقليمي الخليجي للسلفية الوظيفية الناطحة والتي جعلوا منها أداة لإنتاج “الدين الفاتن” أو “دين الفتون”، فذلك أمر معلوم، إنما البغية التنبيه الإجمالي إلى مخاطر “التسلف الوظيفي” الذي أحدثته “السلفية المحدثة الناطحة”.
“التسلف الأدنى” هو الذي يراهن على “الشذوذ الغريب والاختلاف الذميم” بدل “المعهود المعتبر والائتلاف الحميم”، ويرابط في ثقوب “التفريق والتفكيك” بدل المرابطة في ثغور “التجميع والتوليف”، هو ذاك الذي يحتكر النجاة لنفسه تأويلا منه فاسدا لحديث الافتراق لو صح إذ قد صح عنده.
“السلفية الناطحة” “سلفية وظيفية” فظة غليظة، لا رحمة فيها ولا ليونة، جوالة رحالة بالمقصلة الدينية ، تشد الرحال من بلد إلى بلد، تثير “الهرج الديني” حيث تؤمر من طرف رعاتها والقائمين عليها، نشيطة حريصة على نشر “دين الفتون”، ما دخلت بلدا -فيما أعلم- من بلاد الإسلام إلا كانت فيه فتنة للناس صريما للمجتمع،”زقوما دينيا” لا يكاد يسيغه أو يطعمه إلا الأميون الجاهلون.
“السلفية الوظيفية الناطحة” دخيلة على “علم السلف” و”هدي السلف”، وجدت لنفسها مسارح ومراتع فيمن تغربوا عن “العلم المتين النافع” الذي يورث جيلا بعد جيل عن “العلماء” العدول الثقات من مذاهب العلم ومدارس الفقه الرسيخة.
“التسلف الوظيفي الأدنى” هو الذي لا يرى على الحق والجادة إلا نفسه، يحتكر الحقيقة الدينية، يعتبر نفسه الناطق الرسمي بما كان عليه النبي صلى الله علبه وأصحابه في العقيدة والعبادة والشريعة، لا احتمال عنده لتعدد الفهم وتنوع النظر في محتملات الدين علما وعملا.
هو ذاك الذي تصبح “الأنا” في مأثور (ما أنا عليه وأصحابي) “أناه” يقينا واحدا لا “أنا” النبي صلى الله عليه وسلم يقينا وظنا، ويصبح “الأصحاب” في المأثور أصحابه هو لا أصحاب النبي صلى الله علبه وسلم.
“السلفية الوظيفية الناطحة” بتسلفها “الأدنى” – الذي لا مذاهب للفقه عنده ولا مدارس للسلوك فيه- تعتقد في تُبَّعِها من “الأشياع” أنهم “الفرقة الواحدة الوحيدة” الناجية استنادا منها إلى منقول (كلها في النار إلا واحدة) دون فحص علمي دقيق لمرويات هذا الباب من حيث الصحة والدراية إن صح، مع المحرومية من “سعة الفقه” و”رحابة العمل” الذي يتألف عموم الأمة، وهكذا أمسينا في واقع الأمر أمام “فرقة نازية” لا ترقب في عموم المسلمين إلا ولا ذمة.
“التسلف الوظيفي الأدنى” عند التكشيف البنيوي لمنطق ومسالك اشتغاله هو وقود النار المستعارة من التحريف الانتحالي لحديث الافتراق، أوقدت وتوقد من “أشجار الجهل والغلظة والفظاظة”، ثم تنسب لله عدوانا وظلما، يجري بها “التسلف الأدنى” في عموم الأمة ليحرق بها الحرث والنسل.
إذا لم يرع النصارى من قبل رهبانيتهم التي ابتدعوها والتي لم تكتب عليهم لكونها دخيلة على الدين، منافية للفطرة، عادية على وسطية الدين، فإن “التسلف الأدنى” الذي ابتدعته “السلفية الوظيفية الناطحة” مكتوب عليه الموت مقدور عليه الزوال لكونه منبتا لا يقطع أرضا ولا يبقي ظهرا، إنه بالمقابلة “الشبيه النقيضي” للرهبانية لاشتراكه في نفس العلل والأفات، ولكن في الوجهة النقيضة….
ما ذكرناه من علل وآفات “السلفية الوظيفية الناطحة” في “تسلفها الأدنى” كفيل بأن يطمئننا إلى أن قرونها لا محالة منكسرة، وقد بدأت تعمل فيها منذ حين معاول “الانكسار“.
نحن على ميثاق يقيني من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام أن”الهدي الوسطي” في “العلم الشائع” و”العمل الجاري” غالب على أمر “الغلو” دوما، والمتنطعون عندنا هلكى بلا ريوب، تلك سنة الله الجارية القاضية بين المختلفين، ولا تبديل لما تآلفت عليه الأمة وتمالأت عليه في “المعهود الديني” المتوارث في “العلم الشائع” والعمل الجاري” إلا بالعلم المتين نفسه .
مستقبل هذا الدين ليس مع “التدين الشطيح” ولا مع “التدين النطيح”، ولكن مع “التدين القوام” على الحق والخلق باهتداء وسطي سديد واقتداء معتدل رشيد .