عرف التاريخ الإنساني مراحل جد هامة في مسيرته طوال آلاف السينين الماضية، حيث مثّلت كل محطة لحظة من اللحظات الفارقة التي أضفت على البشرية سمات ومنحتها خصائص ومميزات جديدة انتقلت بها من مرحلة إلى أخرى ومن طور حضاري إلى آخر. فظهور الكتابة في العراق عند السوماريين، أو بروز الفكر الفلسفي عند اليونانيين، أو السلطة الإمبراطورية والنمط الفرعوني في الحكم عند المصريين، أو ولادة المسيح وأثره عند الإسرائيليين ثم تداعيات أثر فكره ونموذجه الروحي عند الرومانيين، أو بعثة الرسول الأمين واللحظة الفارقة في تاريخ العرب وامتداده الخارق من أقصى شرق آسيا إلى جنوب أوروبا عند المسلمين، وكيف ألقى بظلاله على البشرية جمعاء… كل تلك الأحداث المفصلية والطفرات الحضارية امتد إشعاعها من الحيز القُطري الضيق إلى الفضاء الإنساني الأرحب، فرسمت معا معالم إنسانية جديدة، وتاريخا إنسانيا متجددا يختلف من طور إلى آخر، ويشكل في مجموعه مسيرة واحدة تمر بمنعطفات ومحطات، فالتاريخ كما يقول شريعتي: «مسيرة وحدة متصلة له مبدأ حركة متميِّزة على أساس قوانين حتمية أو بتعبير القرآن سنن لن تجد لها تحويلاً، وفي مسيره الطبيعي يمرّ بمنزل معين، وذو خط سير علمي، ومرتفعات، ومنخفضات، وزوايا، وحنايا، وبطء وإسراع نحو هدفه الغائي أو على الأقل كما هو مسلّم به سائر نحو هدف”[1].
ويعتبر انطلاق عصر التنوير في أوروبا الغربية لحظة زمنية فارقة في مسار البشرية لما كان له من تداعيات وآثار لم تنحصر فقط في الحيز الجغرافي الأوروبي أو الأمريكي وانما امتد إلى باقي أرجاء المعمورة بفعل الرحلات الجغرافية وطرق التجارة والحملات الإمبريالية والتأثير الثقافي لسلطة الغالبين… فانتقلت بذلك كل المنتجات الحضارية التي أعقبت التنوير الأوروبي بدءًا من الآلات الصناعيات التي أحدثها الانقلاب الصناعي وصولا إلى القيم والأفكار ونمط الحياة التي أحدثتها منظومة الحداثة وقيم ما بعد الحداثة لاحقا، إلى كل البشرية! فصار الإنسان المعاصر محكوما بهذا المسار متأثرا به، تتداخل كل جوانب تلك القيم والأفكار والنُّظم مع حياته اليومية، انطلاقا من شكل الدولة المعاصرة التي ينتمي إليها وصولا إلى أدق تفاصيل حياته الخاصة!
ولا يخفى الأثر الذي جنته البشرية من تبني هذا النمط، خصوصا على المستوى الإنساني، والأثر الذي خلّفته تلك المنظومات وما يحيط بها، على الإنسان بكل أبعاده المركبة وخصوصيته الطبيعية والروحية، وباعتباره الشعار الأكبر والغاية الأسمى التي رُفعت ادعاءً بالبحث عن حريته ورفاهيته والتخلص من عبوديته وشقائه الأبديين! فهل استطاع العالم المعاصر بقيادة مَن صَنَعَ معالمه وبنى فلسفةَ تعميرِه في الأمس القريب، أن يخلص الإنسان من شقائه وشقاوته التي تتزايد يوما بعد يوم؟، وهل استطاع أن يمنح الإنسانَ ما وعده إياه من المكانة التي يستحق، أم أنه انتهى إلى امتهانه والحط من قدره وجلب كل أنواع الشقاوة والمهانة إليه، مع الوقوف متفرجا على انهياره وتفكك أبعاده واضمحلال عُراه؟
هل كان تجاوز الحقيقة الدينية فعلا لصالح الإنسان؟ أم أن الإعلان عن موت الإله كان إعداما حتميا للإنسان، فالدماء التي سالت تحت سكين نيتشه كانت دماء أخيه الإنسان ولم تكن للإله؟* وهذا ما ظهر جليا في ما أعقبَ الرؤية الإنسانية الهيومانية التي جعلت الإنسان في مركز الكون وألّهته، ثم لم تبرح حتى نزعت القداسة عن الإنسان نفسه تحت ضغط الرؤية المادية وأخرجته من المركز، فاتسمت بمعاداة الإنسان، بتسويته مع الطبيعة/المادة بتعبير الدكتور المسيري، حيث يقول عن هذه الرؤية أنها أساس الواحدية المادية التي أفرزها النموذج الغربي في الاستنارة والترشيد “التي بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الانسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة والأشياء والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماما لنفس القانون المادي الصارم”[2] ، قانونٌ يخضع له الكل ولا يحابي أحدا.
إن العالم اليوم يشهد انهيارا للإنسان لم يسبق له مثيل، وتراجعا حادا في التعبير عن هوية الإنسان الحقيقية بما يمثِّله ككائن فريد تُشكِّل الثنائيات المتقابِلة أحد أبرز خصائصه ومقوماته. فالإنسان كفرد له هوية خاصة وكيان مستقل، لكنه ينتظم داخل الجماعة فيرسم كيانا جماعيا يتفاعل فيه تأثُّرا وتأثيرا. كما أنه يتشكل من بُعدين مركزيين، وهما البعد المادي، الذي يمثل هويته الطينية ويمثل هيكله من لحم ودم وأسباب مادية، وشهواته من أكل وشرب وجماع.. وبعد روحي، يمثل تطلع الإنسان إلى العالم الغيبي، وتعلقه بالأبعاد الغائية بما يطبع سلوكه وأفعاله بمقاصد وغايات تمثل الجانب الفريد والمُفارِق في هوية الإنسان..
إن انهيار الانسان اليوم هو انهيار لمنظومة القيم والمبادئ والخصائص الثنائية المشكِّلة لهذه الهوية، بعد الحملات العنيفة التي تعرض لها والتي ازدادت يوما بعد يوم. ومع تزايد الانحدار وتكريس التراجع الإنساني في كل الأفكار والنظريات والممارسات الحديثة والمعاصرة، تزايد أيضا الوعي بالمخاطر المُحدقة سواء بالإنسان كإنسان أم بالفضاء الذي يعيش في ظلاله ويستفيد من خيراته وبه يستقيم معاشه وسعيه. وهذا ما تنبّه له عدد من المفكرين والفلاسفة أبرزهم نيتشه وهايدغر، دون أن ننسى المجهودات المقدرة لمدرسة فرانكفورت في نقد الأسس والمنطلقات الفلسفية والمعرفية للحداثة الغربية ودورها في انهيار الإنسان وإفقاده هويته وذاته، سواء في نقد المتن الديكارتي الذي ساهم في تأسيس “العقلانية الغربية” التي استحالت “عقلانية جزئية” وأسقطت الإنسان في براثين اللاعقلانية، أو الأفكار الماركسية التي أقصت البُعد الإنساني في التجربة البشرية وضحّت بكل الثنائيات الوجودية. ويعد أبرز رواد هذه المدرسة: ماكس هوركايمر و تيودور أدورنو و هربرت ماركوز، كما يعتبر يورغن هابرماس الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني من أهم منظري المدرسة المعاصرين. من المهم في هذا السياق الإشارة أيضا إلى أعمال الفيلسوف الفرنسي إدغار موران الجليلة حول أزمة الحداثة والضريبة الإنسانية التي أفرزتها.
بالنظر إلى تعدد المقاربات التي يمكن من خلالها ملاحظة انهيار الإنسان ضمن المنظومة الفكرية والفلسفية الغربية الحديثة والمعاصرة، فإن فقدان الهوية الإنسانية وانهيار الإنسان يمكن ملاحظته في عدة مجالات متعلقة بمنظومة الحداثة والتحديث، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو في الاجتماع والأدب والفن… إلا أن مرد ذلك كله يتوقف على مفاهيم كلية ونموذجية تمثل جوهر المجتمع الحديث وتعتبر الأساس الفلسفي لمشروع الحداثة وتجليات ذلك على مستويات ثلاث: الأسرة – المجتمع – الدولة. وهذه المفاهيم أو النماذج، على غرار النماذج المثالية لـماكس فيبر أو الخرائط الإدراكية لـعبد الوهاب المسيري، هي مفاهيم كلية تندرج تحتها وموازاةً معها شبكة مفهومية واسعة، تبرز فيها أزمة الإنسان المعاصر التي هي عبارة عن “تكاثر علامات أزماتية”[3] بتعبير إدغار موران، هذه العلامات يبرز أصلها ومنشأها ضمن هذه المفاهيم الكلية.
وقد اهتدى الباحث الأستاذ محمد الشيخ من خلال متون فلاسفة الحداثة، استطلاعا ورصدا لهذه المفاهيم/الأصول، التي تكررت ضمن كل المتون فوجدها ثلاثة[4]:
أولها: مفهوم “العقلانية” وما دار مداره من “عقل” و”تعقيل” و”استعقال” و”فكر” و”تفكير”…
وثانيها: مفهوم “الفردانية” وما تحلق حوله من مفاهيم “الأنا” و”الآنية” و”الذات” و”المنزع الذاتي”…
وثالثها: مفهوم “الحرية” وما حام حوله من مفاهيم شأن “التحرر” و”التحرير” و”الانعتاق” و”الاستقلال” و”التشريع” و”الإرادة”…
ويمكن أن نضيف مفهوما رابعا، لعب دورا أساسيا في النموذج التفسيري الذي صاغه الدكتور عبد الوهاب المسيري لتفسير النموذج المعرفي الغربي الحديث، وهو مفهوم “التقدم“، وتدور حوله عدة مفاهيم مثل “التنمية” و”التحديث” و”تشجيع الاستهلاك” و”السرعة”…
ونظرا لأن دراسات الدكتور المسيري جاءت وافية في التعريف بهذا المفهوم، واعتبار هذا المبدأ الركيزة الأساسية للمنظومة المعرفية (المادية) الغربية الحديثة، وبيان سماته، وحقيقته التي آل إليها وتأثيره على الإنسان والطبيعة، فإننا نكتفي بالإحالة إلى المجهود العلمي الذي قام به بهذا الخصوص[5].
العقلانية: من الطبيعيات إلى الإنسانيات
إن انهيار الانسان بدأ حقيقة مع بروز التيار العقلاني وفق متتاليةِ تَحقُّقٍ تاريخية، لم ينفك عنها الإنسان الحديث منذ صدور المتن الديكارتي مرورا بـغوتفريد لايبتنز وصولا إلى فريديريك هيغل الذي صاغ في كتابه (فينومينولوجيا الروح) 1807م أهم نظريات التعقل وتشكُّل الوعي الحديث تُجاه الطبيعة والحياة الاجتماعية والسياسية.
فمسار التعقل هذا الذي يعيش العالم المعاصر على أفكاره ونظرياته، لم يجلب السيطرة الكاملة على الطبيعة والتحكم فيها، كما كان يظن الإنسان الأوروبي في بداية حماسه وتطلعه وقراره الذي لا رجعة فيه، بل على العكس جلب الدمار والخراب للوسط الذي يعيش فيه (الطبيعة)، وأضعف مصادره، وأهدر موارده، وأصبح يهدد وجوده ككائن حي كما كل الكائنات الأخرى الضرورية للحفاظ على توازن الكوكب وحياة البشر. ولم يكن ذلك إلا نتيجة لفقدان المطلقات أو الغايات، نتيجة لتقديس العقل والجهل بحدود إمكانياته وإدراكه وسيطرته على محيطه. ويصف ذلك المسيري بقوله: “هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغايات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة وتسخير مواردها وتحقيق هيمنة الإنسان الكاملة عليها”[6]
وفعل “التعقل” الحديث لم يكتف بترويض الطبيعة والسيطرة عليها والتحكم بها، وإخضاعها لمنطق “العقلانية المادية الصلبة”، بل امتد إلى العلاقات الإنسانية والاجتماعية، مُحاولا فصلها عن كل القيم الأخلاقية غير النفعية، فبرزت أزمات على مستوى الأسرة والمجتمع والدولة.
ففي المجال الأسري ساد منطق التعاقد بدل التراحم، وفي المجتمع المنفعة بدل التعاون، وفي الدولة العَلمنة القسرية بدل عدم الإكراه. وتبدّت في كل دائرة من دوائر تجلياتِ فعل التعَقُّل أزماتٌ ومتتاليات أزماتية، ابتدأت في الأول كإحدى الانحرافات ثم صارت نزعات ثم آلت إلى نماذج منحرفة استحالت إلى ما عبر عنه الدكتور المسيري بـ”نماذجية الانحراف”، يقول إدغار موران: “إن الأزمة لا تظهر فقط عند حدوث انكسار داخل اتصال، أو عند حصول زعزعة داخل نسق كان يبدو ثابتا، لكنها تظهر أيضا عندما تتكاثر الاحتمالات وبالتالي التقلبات. إنها تظهر بفعل انقلاب التكاملات إلى عداوات، وعند تحول الانحرافات السريع إلى نزعات..”[7]
إن العقلانية المادية أو الطبيعية كمفهوم من المفاهيم المركزية وأحد الأسس الفلسفية لفكر الحداثة الذي يقوم عليه نظام الإنسان الحديث، تُعتبر تهديدا حقيقيا لهوية الإنسان في كل أبعاده وخصائصه، واختزالا مُخلا للذات الإنسانية، كما الكون المحيط بها، التي تحوي من الأسرار والألغاز في كينونتها وفكرها وأصل نشأتها ما لا يمكن اختزاله أو إقصاؤه أو تهميشه تحت أي دعوى كانت. فمنحوتة الإنسان “السِّلكي” كما ظهرت في أعمال النحات السويسري الشهير ألبرتو جياكوميتي (ت 1966م) والتي ترسم الإنسان على أنه مجموعة من الأسلاك المترابطة فيما بينها، لهي تعبير حقيقي عن الهوة السحيقة بين حقيقة الإنسان، المخلوق اللغز، والسر الأعظم، والتكوين المركب المعقد، وبين تصور الإنسان البسيط المنسوج من أسلاك، والذي يدور في عالم من الأسلاك والبراغي، فيمكن له متى شاء أن يأخذ مما حوله الأسلاك فيصنع ذاته ويحقق أناه ويصنع فرديته المتفردة والمسيطرة.
الفردانية: من الإبداع والاندفاع إلى العنف والتمرد
أما بخصوص مبدأ الفردانية الذي قامت عليه حركة النهضة وكان أحد أهم المنطلقات الأساسية لفكر الاستنارة والتحديث، فإنه تزايد ترسخا وتجذرا في المجتمع الغربي الحديث ومنه إلى باقي التشكيلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الحديثة والمعاصرة. ومع الشعارات التي أعلنها الإنسان الأوروبي بالقضاء على الاستبداد والعنف والوحشية التي كان يغرق فيها (إنسان العصر ما قبل الحديث)، من خلال تكريس مبدأ “الفردانية” وإعطاء الفرد قيمته واعتباره وتقديره وتوفير الإمكانات وتسخير الطبيعة والتشريعات لخدمة مبدأ استقلال وحرية وكرامة الفرد، ومخاطبته بدل الجماعة أو القبيلة أو الدولة أو التشكيل الديني الذي يدخل ضمن إطاره، فإنه ومع تزايد إحساسه باستقلاله ورفع “أغلال” كل المقدسات والعادات والتقاليد عنه، انطلق الإنسان الأوروبي مُعتدا بنفسه متوسلا بإمكانات الطبيعة التي ظن أنه هزمها واستحوذ عليها، ومتسلحا بعقلانيته التي أقصت كل مقدس أخلاقي أو محظور ديني، فعاد إلى وحشية أخرى أشد من الوحشية الأولى واستحال إلى كائن يمارس العنف ويتفنن في تطبيقه على الآخرين وفق ما أوصلته إليه فردانيته وتفرده ! فأبدل عنف البحث عن الموارد والمصادر بعنف السيطرة عن الأرض المقدسة وقيادة الحملات الصليبية، وأبدل وحشية الاحتلال والغزو لفرض “الديمقراطية” بوحشية التبشير وفرض العقيدة الدينية، وأبدل حروب الاستعمار وفتح الأسواق الجديدة وفرض التبعية بحروب التوسع الإمبراطوري والسيطرة المباشرة، والحروب الشاملة “العالمية” المدمرة بدل الحروب الجزئية المنعزلة والصغيرة…
إن هذا المسار نحو مزيد من العنف والتوسع فيه وتزايد ألوانه وتشكُّلاته، لهو دليل على تزايد ترسخ المبادئ الأولى التي قامت عليها فكرة الحداثة، حيث يتزايد بروز آثارها مع مرور الزمن وتحققها التاريخي المتتالي، فكلما تزايد التقدم الحضاري المبني على تلك الأسس كلما تزايدت معدلات الوحشية والعنف والصراع الناتج عن ذلك المبدأ الفرداني الذي كان أملا في تخليص الإنسان من استبداد الدولة أو الجماعة أو القبيلة وإدخال الفرد في صراعات لا معنى لها، حتى صار هذا المبدأ أساس الصراع ومُنتج العنف والوحشية ومدار الحروب والصراعات الكبرى الهائلة والمدمرة، يقول إدغار موران بخصوص إنتاج العنف والوحشية المتزايدة ضمن هذا المسار التقدمي الحديث: “يجب علينا أن نرى في الوحشية، لا فقط تلك التي لم يستطع التقدم الحضاري القضاء عليها، بل كذلك الوحشية التي أنتجها هذا التقدم الحضاري ذاته. بل بإمكاننا القول إن الأشكال الجديدة للوحشية، المترتبة على حضارتنا لم تفشل في تقليص الأشكال القديمة للبربرية، بل إنها أيقظتها واقترنت بها. وهكذا تبلور شكل جديد من الوحشية بشكل معقلن، وتكنولوجي، وعلمي، يسمح بظهور تدفق قتّال حدث مع الحربين العالميتين، بل عمل على عقلنة الاحتجاز في صورة معسكر اعتقال، وعلى عقلنة التصفية الجسدية، باستعمال أفران الغاز، وعقلن التعذيب، وهي الوحشية الوحيدة التي بدت في السابق على أنها قد انقرضت في بداية القرن العشرين، ها هي الآن تعيش إعادة إحياء، بل إعادة تأسيس من قبل النازية والستالينية، ومن قبل فرنسا في فيتنام وفي الجزائر، وأصبحت ممارسة متداولة في العديد من بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، تحت صيغة رجعية وثورية، ورأسمالية أو اشتراكية”[8].
لقد شغل موضوع العنف كثيرا فكر موران وأطلق التحذير تلو التحذير أن دوامة العنف والعنف المضاد والوحشية تتزايد يوما بعد يوما إذا لم يتخلص الإنسان المعاصر من مبدأ الأنانية والتعالي والفردانية وأصر على الارتكان إلى إحدى ثنائيتي (العنف أو اللاعنف)، إذ اقترح بديلا فاعلا بأهمية الوعي الجماعي وتكتل مجموع الأفراد لمواجهته. وإلا ازدادت هذه الدوامة عنفا واقترن عنف ووحشية الأفراد الناتجة عن الفردانية، بالعنف بين الدول، “وهكذا ستلتقي دوامات العنف العاصف داخل الدول بدوامة العنف الحاصل بين الدول والحاملة للموت الهائل والصاعق، الذي يحوم حول الإنسانية، وهو في الحقيقة سُخد العدم”[9]
ولقد كان لظهور فكرة التطور لـداروين الذي أصدر كتابه “أصل الأنواع” سنة 1859م و”أصل الإنسان” سنة 1871م، الأثر الكبير في تطور نظرية القوة والمزيد من الشراسة، فكان من بين الآثار العميقة التي تركتها هذه النظرية، إحساس الفرد بحاجته الدائمة والمتواصلة إلى القوة والسلاح لفرض بقائه وكبح جماح الآخرين في دوامة من الصراع الوجودي، البقاء فيه للأقوى، لا يحكمه إلا القوة ونظرية الردع. إن هذا المبدأ وما ترتب عنه لا يمكن إلا أن ينتج لنا مسارا تصاعديا في منحيين:
الأول: تزايد القوة واستمرار صعودها وامتلاك “أدوات” أكثر شراسة، ووسائل حربية أكثر عنفا للحفاظ على البقاء والاستمرارية، تماما مثل تطور مخلب الحيوان وازدياد حدته وطوله مع البيئة التي تواجد فيها، ونشوء منقار الصقر وتزايد دقته لملاءمة اصطياد أشد الحيوانات ضراوة واستعصاءً على الاصطياد والانقياد، وتطور جلد الحيوانات القطبية وتزايده سماكته حقبة زمنية بعد أخرى حسب درجة برودة محيط عيشه من أجل هزيمة ظروف الطبيعة التي لا ترحم… وهكذا انتقلت نظرية التطور من نظرية في النشوء والانتخاب والتطور إلى فلسفة في القوة والتكيف وتطور وسائل البقاء والغلبة والتفرد على الآخرين، بتسخير كل الممكن من أجل زيادة العنف والقوة والوحشية تماما مثل الطبيعة ! وهو ذاته ما قاله أدولف هتلر يوما حيث خاطب جيوشه: يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة أو الشفقة.
الثاني: نظرية التطور هذه أحدثت رجة فكرية غير مسبوقة حيث زعزعت الإيمان بالثبات والاستقرار في كل شيء وجعلت من التطور والتغيير وعدم الاستقرار لازما لا ينفك عن أي شيء، فالحياة تتطور، والإنسان تطور عبر مراحل، وباقي الأحياء كذلك، والأفكار والمجتمعات تتطور، والدين تطور، بل وفكرة “الله” أيضا فكرة تطورية لم تكن بهذا الشكل من قبل… ! وهكذا حدثت صدمة عنيفة لفكرة الثبات، فــ “إذا كانت الحياة تتطور من الخلية الواحدة إلى الإنسان المعقد الشديد التعقيد؛ وإذا كان الإنسان ذاته قد تطور من حيوان سابق إلى حيوان يشبه الإنسان، إلى إنسان يشبه الحيوان.. إلى إنسان.. فماذا يمكن أن يكون ثابتا على وجه الأرض على الإطلاق؟”[10]. والملاحَظ أن هذه المبادئ متناغمة فيما بينها متناسقة فدراسة مبدأ الفردانية وتناوله في الأدبيات المؤسسة للنهضة الغربية أرجعنا إلى مبدأ العقلانية الذي انتهى إلى إقصاء وتطوير فكرة “الله” بمفهومها المسيحي الكنسي أو الديني بشكل عام أو الأبعاد الغائية أو التفسيرات المفارقة للعقل الحديث وادعاء تفرده وإحاطته وشموله بدراسة الظواهر الطبيعية ومن ثم دراسة الاجتماعيات والانسانيات بنفس الروح الواثقة والذات المتفردة الموقنة بتزايد دائرة المعلوم وتناقص المجهول وصولا إلى المعرفة العلمية الكاملة المحيطة بأسرار الكون والخليقة!
وإن كانت نظرية القوة والسيطرة على الطبيعة وهزيمتها قد تجلت في نظرية التطور والانتخاب عند داروين على المستوى الطبيعي ثم في بعض الميادين الاجتماعية والإنسانية، فإن تجلياتها في المجال السياسي ظهرت قبل ذلك بكثير، منذ مرجعية الأمير في بداية القرن السادس عشر الميلادي، التي بُنيت على الفصل بين الأخلاق وشؤون الحُكم، ولعبت دورا كبيرا في تصريف القيم الأخلاقية بعيدا عن الحياة العامة، والتأسيس لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، فيما عُرف بالنفعية السياسية، حيث يقول نيكولا ميكيافيلي رائد النظرية وصاحبها (1469م-1527م) في تسويغها: “وذلك لأننا إذا نظرنا للأمور نظرة صحيحة لوجدنا أن بعض ما يبدو فضائل قد يهلكنا لو طبقناه، والبعض الآخر يبدو من الرذائل قد يسبب سلامة الإنسان وسعادته”[11]
إن فردانية الإنسان الحديث التي كرسها مساره التاريخي منذ زمن التنوير إلى اليوم إعلاءً من شأنه على باقي الموجودات تحكما وسيطرة وادعاءً بإمكانية التغلب على الطبيعة ومكونات الوجود بعد إقصاء الغيب، جعل منه كائنا متعاليا، يعيش “خيلاء” التعالي هاته على باقي الموجودات، “تلك هي الرسالة التي كانت موكولة إلى حركة الحداثة. ذلك أن الإنسان الحداثي إنما تميز عن الإنسان القدامي بما صار يسمح لنفسه بالسمو على الجماعة التي يحيى فيها والتعالي؛ ومن ثمة بالتفكير فيها، وبما صار يتعالى على الكون الذي ينتمي إليه ويسمح لنفسه بالنظر فيه، وبما صار يسمو على فكره فينظر بفكره في فكره، وبالتالي صارت عنده (الأنا المتفكرة) أعلى من (الأنا الناظرة)”[12].
هذا التعالي هو الذي دفع أمثال المفكر فرانسيس فوكوياما لكتابة أطروحته الشهيرة نهاية التاريخ[13] وخلُص إلى نتيجة أن المسار الوحيد والأوحد للتطور الإيديولوجي للبشرية يؤدي حتما إلى سيادة النموذج الغربي الليبرالي الديمقراطي، فيما برزت في نفس التوجه أيضا نظرية صدام الحضارات لـصامويل هنتنجتون حيث خَلُص إلى أن الصراع اليوم -بعد سقوط الاتحاد السوفياتي- لم يعد بين الدول القومية وإنما بين الحضارات الانسانية العامة، وأن الحضارة الإسلامية أحد أخطر الحضارات التي تواجه الحضارة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والتي تسعى إلى وقف مسيرتها والحد من تطورها، وقد تُرجمت خلاصات هاتين النظريتين وغيرهما على مستوى الممارسات السياسية الغربية والأمريكية بشكل خاص، إذ غيرت الولايات المتحدة الامريكية من طريقة تعاملها مع العالم الإسلامي وزادت من منسوب تدخلها في شؤونه الداخلية وتأثيرها على القرار السياسي لعدد من الدول العربية والإسلامية.
ويقول الدكتور جورج قرم حول ذلك: “وما إن زال الاتحاد السوفياتي، بنهاية القرن المنصرم، حتى عادت الثقافة السياسية الغربية مسرعة على نحو مثير للعجب إلى التقاليد القروسطية القديمة ثم تلك الاستعمارية، التي تظهر العدائية للديانة الإسلامية، بحيث لا ترى فيها إلا عائقا أساسيا يعترض سبيل تطور عبقريتها وقيمها وتوسعها في أصقاع العالم”.[14]
كما من المفاهيم التي أنتجها مبدأ الفردانية في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، ما يعرف بالتمرد، فالفردانية التي مثلت إجابة عن تحد من كبرى تحديات الفكر المسيحي القروسطي الذي كان يحكم الرعايا والأتباع بتحالف وثيق بين السلطات الدينية والزمنية ضمن تشكيلات دينية وجماعية وهوياتية، بدءَ هذا الانسان بعد نهضته عصيا على الانقياد، متحديا السلطات الكنسية منتفضا ضدا التحالف الإقطاعي-الديني ضد اختياراته الفردية وإحساسه بفردانيته، ليتحول هذا الشعور من الفردانية المنتفضة إلى “الفردانية المُطلقة”، هذه الفردانية تزايدت نزعتها مع الإحساس بفضاء الحرية الذي وفرته لها المؤسسات الليبرالية وجو الحداثة، فأخذ التمرد يزداد يوما بعد آخر من داخل نفس النموذج، فظهرت أفكار ونزعات واتجاهات أعلنت تمردها الصريح وانحرافها الكامل عن شعارات الحداثة نفسها، وإن مثّلت كما قلنا نموذجا انحرافيا من صميم تفاعل تلك المبادئ مع الواقع وتحققها التاريخي، تبدت سابقا في النازية والفاشية ومعاداة السامية، وحاضرا في الاباحية الجنسية والاسلاموفوبيا والصهيونية…
الحرية: من مغادرة الظلام إلى عمى الألوان
أما ثالث المبادئ التي قام عليها النموذج الغربي في التحديث، وهو مبدأ الحرية، فإنه مرتبط بالمبدأين السابقين، وكما أشرنا إلى أن كل مبادئ الحداثة مرتبطة ببعضها، فإنها تشكل دوائر متداخلة فيما بينها، وتصنع مجتمعة الإطار المعرفي والفلسفي والأخلاقي لمنظومة الحداثة التي يعيش في جوها العام الإنسان الحديث والمعاصر. ولا غرو أن هذا الإنسان اهتدى أخيرا إلى أحد أهم القيم والمبادئ الإنسانية التي كانت محط صراع وجدال قديميين بين الواقع الذي يفرض أشكالا وأصنافا من العبودية وسلب الحرية واحتكار توزيع الناس حسب المراتب والأعراق والأجناس والصنف ضمن ثنائية العبيد/الأحرار، وبين مقتضيات الكرامة الإنسانية والوجود الطبيعي للإنسان باعتباره كائنا عاقلا وذاتا مفكرة حرة. وقد بدا هذا الجدال قديما منذ أرسطو والفلسفة اليونانية التي كانت “ترى أن الإنسان يولد وقد سبقته إلى هذا الوجود طبيعته: إما هي “طبيعة عبد” أو “طبيعة حر”، وليس بمكنته أبدا أن يحيد عنها أو يبدل منها أو يعدل، وإنما شأنه أن يسكن تحت مجاري أقدارها راضيا. وكأن العبد والسيد، ههنا، كانا يشكلان نوعين حيوانيين قائمي الذات على جهة الدوام والأبد، وذلك بحيث لا يمكن لأية طبيعة متعينة منهما، كائنة ما كانت، أن تهجر المحل الطبيعي المقدر لها، إن عبودية أو حرية، إلى غيره”[15]. إلا أن الموقف الرواقي قد حاول الخروج من هذه الإشكالية، باختراعه مفهوم الحرية الروحية أو حرية الفكر والجوهر بدل حرية الجسد والمظهر، فكان الاعتقاد السائد أن حرية الفكر هي الحرية المطلقة والانفصام لا بد أن يكون بين الفكر والواقع لتحقيق الحرية والتحرر، يقول هيغل عن مفهوم الحرية في هذا الموقف الرواقي الإشكالي: “الحرية في الفكر ما حقيقتها إلا الفكر الصرف، وإنها لحقيقة ينقصها ملاء الحياة، وما هي إذن إلا مفهوم الحرية لا الحرية ذاتها. فمثل هذه الحرية لا تتجاوز ماهيته الفكر بوجه عام الصورة بما هي كذلك إذ انقطع رباطها باستقلال الأشياء فارتدت إلى ذاتها”[16]. كما كان للأديان السماوية نظرة متميزة ومنفردة لحقيقة حرية الإنسان، إذ ربطت بين تمام تحرر الإنسان بكمال عبوديته وطاعته للخالق واتباع أوامره واجتناب نواهيه، فساوت بين جميع البشر بناء على هذا المفهوم الذي يعني سواسية الخلق في مقابل الخالق بشكل عام، ثم سواسيتهم فيما بينهم بناءً على المبدأ الأول وعلى وحدة الخلق والميعاد بشكل خاص.
ومع مرور الزمن وتوالي القرون عرفت هذه المبادئ الدينية تراجعا حادا إضافة إلى توقف انسياح الدين وانحصاره في أماكن محددة من العالم وعدم دخول مبادئ الدين الخاتم الأقرب عهدا بتلك المبادئ والقيم إلى أجزاء واسعة من أوروبا، جعل هذه الأخيرة تعيش أوقاتا صعبة وقرونا مظلمة وفترات سوداء من تاريخها، مما دفع عددا من رواد نهضتها إلى الانتفاض والبحث عن التحرر وإقرار مبدأ الحرية كمبدأ أساس يقوم عليه عصر الأنوار وعملية التنوير والتحديث للمجتمع الغربي، فكانت أدبيات البحث عن الحرية، ونقد الظلم الكنسي والإقطاعي والاستعباد الفلاحي، واستغلال أكتاف وعرق جبين العبيد لمراكمة الثروات والغنى، كما كانت الحرية الشعار الأسمى للثورة الفرنسية والثورة الأمريكية وباقي الثورات الغربية.. فدعت كلها إلى ضرورة تحرر الإنسان وانعتاقه من القيود الغير “عقلانية” والتي تحد من “ذاته” و”فردانيته” لصالح السادة والجماعة والدين والمذهب … الخ
وقد كان بالفعل لموجة الحرية التي اجتاحت أوروبا أثرا إيجابيا على المدى المتوسط والبعيد نسبيا داخل المجال الجغرافي والحضاري الغربي رغم ما شابها من تجاوزات وانحرافات فيما أعقب الثورات، خصوصا الأحداث الدامية التي عمّرت كثيرا بعد الثورة الفرنسية والتقييد من الحريات وسلبها ومصادرتها تحت تهديد السلاح والمقصلات..
إلا أن التأثير السلبي الأكبر لموجة الحرية والتحرر! كان خارج القارة الأوروبية بدءً بالتوسع الكولونيالي وفرض الحماية والوصاية على أكثر الأقطار المعروفة خارج الجغرافية الأوروبية بدعوى مساعدة هذه البلدان على الخروج من عصور الظلام وتحريرها! في مقابل استغلال خيراتها والتحكم في مصادر عيشها وجعلها مكبا للمواد الاستهلاكية الفائضة عن السوق الأوروبية، وفرض تبعيتها الاقتصادية والتجارية للضفة الأخرى، كما كان لهذا الفعل التحرري جوانب عديدة من الاستعباد بمختلف أشكاله، ليس أقلها جلب مئات الآلاف من الأفارقة والعبيد السود لتشغيلهم في مجال الزراعة والفلاحة والأعمال الصناعية الشاقة التي هلك على إثرها عدد لا يُحصى كثرة..
ولن نطيل أكثر في سرد “الآثار الجانبية” للحرية، كما يُفضل أكثر المفكرين والسادة الغربيين وصفَ كل ما يتعارض من سلوكهم مع شعارات الحداثة والتحديث، فهي تمثل إشكالا حقيقيا ومفارقة واجهها النموذج الغربي، يقول الأستاذ لؤي صافي: “هذه المفارقة بين النزوع إلى التحرر من سيطرة الآخر والرغبة في توظيف القوة الناجمة عن تحرير الذات من الهيمنة لفرض إرادة الذات على الآخر هي جوهر إشكالية الحرية في الفكر والحضارة الغربية الحديثة. المفارقة ليست مفارقة نظرية صرفة، والإشكالية ليست إشكالية فلسفية وحسب، بل نجد تجليات ازدواجية مفهوم الحرية في الحركة التاريخية للمجتمعات الغربية، الحديثة أولاً، ثم المجتمعات غير الغربية التي تبنت النموذج الغربي”[17]..
والآن نتجه رأسا إلى الزمن المعاصر وما أفضت إليه الحرية الغربية وواقع الاستقلال الإنساني عن كل المقدسات والقيم الأخلاقية المبنية على اعتبارات غير مادية أو نفعية، ومن خلال نظرة سريعة إلى أثرها ومع مراعاة واعتبار لكل ثمراتها، التي لا يمكن تجاهلها في نفس الوقت، من حرية سياسية وما اندرج تحتها من حقوق للمشاركة والتعبير والتظاهر والانتخاب.. وحرية ثقافية وما يحيط بها من حق لإبداء الآراء والنشر والدفاع عن الأفكار والتبشير بها.. مع ما يشوب ذلك بين حين وآخر من تناقضات وإشكالات تمثل الصراع بين ثنائيات المصالح/والمبادئ، أو المجال الحضاري الأوروبي/والمجال غير الأوروبي، أو الإنسان الغربي/ والمغاير غير الغربي..
مع الأخذ في الاعتبار كل ذلك، فإن الأمر الأساس يتمثل في كون مآل تلك الحرية الجارفة الاتجاهَ نحو أقصى درجات العبودية والاستعباد!، فمن خلال نظرة فاحصة في آثارها على إنسانية الإنسان وتميزه الخِلقي والخُلقي كذات عاقلة، نلحظ تمردا وانفكاكا مريبا عن مقتضيات الحرية بالوقوع في مناقضات فلسفية وأخلاقية لهذا المبدأ الذي كان الشعار الأسمى لكل حركات التغيير الحديث. وما نلحظه اليوم من ممارسات تتم باسم الحرية وترافق عمليات “فرض الحرية” و”تطبيقها قسرا” لهو فشل كبير ودليل واضح على هشاشة القاعدة التي قامت عليها فلسفة هذا المبدأ والمنزع الأخلاقي الذي وجهها في السياق الغربي.
إن حرية الشذوذ أو “المثلية الجنسية” كما يحلو للغرب وقيمه تسميته، مثلا، لهو نموذج بسيط لانقلاب منزع الحرية بالفهم الغربي لها إلى عبودية واستعباد، فانزواء المجتمع الأوروبي الحديث للدفاع عن الارتهان إلى الجسد وتقديس الخضوع له، بالانفكاك عن كل قيم الإنسان الجامعة التي عرفها منذ عشرات آلاف السنين والتي تمثل سُننا ونواميس لولاها لما وُجد الجنس البشري، ومحاربة كل منطق لا يوافق النظرة المخصوصة لهذا اللون من الفهم الجندري. وقد صار الغرب يتوسل بكل المؤسسات والفضاءات التي كان من المفترض فيها نشر قيم الحرية والانفتاح وعدم التعصب، مثل مؤسسات الإعلام “الحر”، وفضاءات البرلمان “المنتخبة الحرة” ومؤسسات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، والمنظمات الحقوقية… صار يتوسل بكل ذلك لنشر هذه القيم السالبة للحرية، المُصادرة لمقتضياتها، فكم من مدرّس وأستاذ فُصل من عمله لعدم تقبله نشر قيم “المثلية” بين التلاميذ، وكم من مرب ومربيّة أطفال استقالت من عملها رفضا لتربية النشء على مفاهيم الشذوذ ومُخالفة كل القيم والمفاهيم الأخلاقية العملية بما فيها قيمة الحرية نفسها…
إن مظاهر سلب الحرية ومصادرتها باسم نشر “قيم الحرية” و”أفكار التحرر” كثيرة ومتعددة لم يسلم منها جانب من جوانب الفعل الثقافي والحضاري الغربي، ليس أقلها دعم الأنظمة الاستبدادية التي تقمع شعوبها وتصادر حرياته حفاظا على المصالح الاقتصادية والسياسية للغرب، والانقلاب على تجارب الديمقراطية والحرية في البلدان التي يُراد لها العيش تحت الحد الأدنى من شروط الكرامة والحرية والعدالة خوفا من نهضتها، ودعم الحروب ونشر العنف والاضطهاد ضد الشعوب المُطالبة بإنهاء الاحتلال، وتأييد قتل وتشريد وإبادة الشعب الفلسطيني المُطالب بإقامة دولته وتحقيق حريته وكرامته المهدورة ووقف الاستيطان ونهب الخيرات والمقدّرات… وقد شاهد العالم أجمع في الأيام القليلة الماضية، استنفار كبار المسؤولين السياسيين الأمريكيين وجميع السلطات الأمنية والسياسية والتدخلات العنيفة للشرطة الأمريكية لفض اعتصامات ومظاهرات طلبة عدد من الجامعات الأمريكية المُطالبين بوقف المجازر والإبادة الجماعية ضد الأبرياء في غزة والمنادين بحرية فلسطين وتحرر شعبها.
إن هذا الانهيار والسقوط الذي يشهده العالم أجمع فيما يخص قيمة ومبدأ الحرية الذي تحول إلى أداة للاستبداد ووسيلة لممارسة الاستكبار ومصادرة الحريات، كما استحال المبدآن الآخران وهما العقلانية والفردانية إلى “لاعقلانية”، أو “عقلانية متوهمة”، و”فردانية مطلقة” أو “فردانية متعالية” كما رأينا في الصفحات السابقة، إضافة إلى المبدأ الرابع الذي هو “التقدم” وما آل إليه من تراجع على عدد من المستويات (الإنسانية والأخلاقية والبيئية..) كما فصل فيه المسيري في أطروحاته القيمة، يوحي بانهيار وشيك للإنسان الذي بنى فلسفته وأسسه المعيارية والأخلاقية على نموذج أعلى من قيمة الإنسان ورفَعه عن باقي الموجودات سيطرةً وهيمنة وقوة وإرادة، بناء على مفاهيم وأسس سرعان ما صارت بعد قرنين أو ثلاثة الأداةَ الأولى لتفكيك الإنسان وهدم إنسانيته والعمل على تجريده من خصائصه الكاملة.
وأمام هذه التغيرات والمآلات يبقى السؤال حول ما إذا كان هناك نموذج بديل قادر على الحفاظ على خصوصية الإنسان وعدم هدم إنسانيته مقابل تحقيق تحرّره وإطلاق العنان لعقله دون تقديس ولا تبخيس، وإبداعه دون تجاوز لحدوده والتكبر عما ليس بمنطق حواسه، واستغلال الطبيعة المحيطة به دون هيمنة ولا صراع معها وإنما تسخيرها بما يلائم حاجة الإنسان منها وضرورة الحفاظ عليها في الآن ذاته، كما أن هذا النموذج قادر على تحرير الإنسان من نفسه أولا قبل أن يحرره من أخيه الإنسان، فلا معنى لأن يتحرر الإنسان من العبودية للآخر ويقع تحت عبودية أشد وخضوع لمطلقات أقسى وأعقد، كالخضوع الكلي للجسد أو التقديس الشامل للعقل، أو استعباد الضعيف وفرض الحرية التي يريدها القوي له، لا الحرية التي تليق به، ونيره تحت الاحتلال وخضوعه لمنطق الحماية والوصاية، بدل حرية الإرادة والاستقلال.
إن البشرية اليوم حاجتها تصير أكثر إلحاحا من أي وقت مضى إلى نموذج بديل يستحضر كل ما سبق في بناء نموذج يليق حقا بكرامة الإنسان ويحقق حريته الكاملة وتفرده ككائن حر مسؤول (مستخلف على أمانة) ومهتد بنور عقلٍ، يشع بالتواضع، ويستنير بالهدايات التي توجهه من أن يضل أو يشقى، وينفجر إبداعا وتألقا وبحثا لصالح الإنسان نفسه وحقيقته الوجودية الشاملة. والنموذج البديل هذا لا يعني أنه غير موجود ويُحتاج إلى أن يُستحدث، وإنما قد يكون موجودا لكنه غائب أو مغيب، يحتاج لمن يقيم بنيانه من جديد ويعلي معالمه وأسسه بعد أن درست بفعل عوامل الزمن وفعلها في حمَلة هذا المشروع، والانبهار بالمشاريع الأخرى التي صارت لها ميزة الانتشار والذيوع والوصاية على الأفكار والأخلاق والنُّظم المُعاصرة.
الهوامش
[1] : شريعتي، علي. العودة إلى الذات، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا، بيروت: دار الأمير، الطبعة الأولى 2006، ص:478.
* : الإشارة هنا إلى قول الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه Friedrich Nietzsche)) (1844 – 1900):
“الإله ميت. الإله يبقى ميتًا. وقد قتلناه نحن. كيف سنريح أنفسنا، قتلة كل القتلة؟ ما كان أقدس وأقوى ما يملكه العالم حتى الآن قد نزف حتى الموت تحت سكاكيننا: من سيمسح هذا الدم عنا؟ ما الماء الذي نملك لنطهر أنفسنا؟ ما هي مهرجانات التفكير، وما الألعاب المقدسة التي يجب أن نخترعها؟ أليست عظمة هذا الفعل كبيرة جدًا بالنسبة لنا؟ ألا يجب علينا ألا نصبح آلهة ببساطة لنبدو مستحقين لذلك؟”
[2] : المسيري، عبد الوهاب. العالم من منظور غربي، دار الشروق، طبعة دار الشروق الأولى 2017، ص69.
[3] : يُنظر: إدغار، موران، إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الأولى، 2009م، ص24.
[4] : الشيخ محمد، ما معنى أن يكون المرء حداثيا، منشورات الزمن، سلسلة شرفات17، ص24.
[5] : يُنظر: المسيري، عبد الوهاب، فقه التحيز، موسوعة إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، صادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي ونقابة المهندسين بمصر، الطبعة الثانية 1417هـ/1996م، ص40-45.
[6] : المسيري، عبد الوهاب. العالم من منظور غربي، سابق ص70.
[7] : إدغار، موران، إلى أين يسير العالم، ترجمة أحمد العلمي، سابق، ص24.
[8] : إدغار، موران. إلى أين يسر العالم، سابق، ص36،37
[9] : إدغار، موران. إلى أين يسير العالم، سابق، ص77.
[10] : قطب، محمد. التطور والثبات في حياة البشرية، طبعة دار الشروق، ص20.
[11] : ميكيافيلي، نيكولا. كتاب الأمير، ترجمة أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا القاهرة، 2004م، ص 80.
[12] : الشيخ، محمد. ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟، سابق، ص104.
[13] : يُنظر: فوكوياما، فرانسيس. نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مركز الإنماء القومي، بيروت 1993م.
[14] : قرم، جورج. تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، ترجمة: د. رلى ذبيان، دار الفرابي بيروت، الطبعة الأولى 2011م، ص55.
[15] : الشيخ، محمد. ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟، سابق، 110.
[16] : نفسه، ص103.
[17] : صافي، لؤي. مفهوم الحرية في الغرب بين النظرية والممارسة، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 31-32، 2003، ص238.