لا تحاول أبدا تغيير رأي أي شخص من الأشخاص، بل ساعدهم في العثور على دوافعهم الخاصة للتغيير. لقد أخطأت عند مجادلة أكثر شخص عنيد أعرفه قبل بضع سنوات. أرمز له بحرف “ر” حماية لخصوصيته، وهو “صديق العمر”، وحدث هذا الجدل عندما جاءت عائلته لزيارتنا، فذكر لنا أن أبناءه لم ولن يتم تطعيمهم بتاتا.
لست مع التأييد الأعمى لإعطاء أي لقاح كيفما كان لكل مولود جديد، لكنني كنت قلقًا على سلامة أبنائه، لذلك بدأت في سرد بعض الأساطير الشائعة عن اللقاحات، وبعد أيام من النقاش بدا علي الإرهاق والغضب، وآثرت الحفاظ على صداقتنا، فعزمت على عدم التحدث معه في موضوع اللقاحات مرة أخرى.
جاءت سنة 2020. ولربما قد يكون الخوف من اللقاح أكبر عائق لوقف انتشار وباء كوفيد 19. وهو يمتد إلى ما هو أبعد مما يسمى بمجتمع مناهضة التطعيم، إذ هناك نحو نصف الأميركيين الذين يحملون أسئلة حول سلامة لقاحات كوفيد 19، كما أن 39 في المائة منهم يقولون أنهم بالتأكيد أو باحتمال كبير لن يحصلوا على أيٍ منها. فقررت أن أرى ما إذا كان بالإمكان تنوير رأي وعقل صديقي “ر”. لكن ما لم أدركه أن عقلي ورأي هما من سينفتحان بشكل جيد تبعا لذلك النقاش.
لقد قضيت -كطبيب نفساني تنظيمي- السنوات القليلة الماضية في دراسة كيفية تحفيز الناس على التفكير مرة أخرى. وأجريت تجارب قادت مؤيدي حقوق امتلاك السلاح ومؤيدي سلامة السلاح للتخلي عن بعض العداء المتبادل، وجعلت مشجعي “يانكيز” يتخلون عن ضغائنهم ضد أنصار “ريد سوكس”. لكنني لا أطبق دائمًا ما أقوم بتدريسه. حين يبدو شخص ما دغمائيا (منغلق التفكير)، تحملني غريزتي على مجادلته بنحو معاكس. لكن عندما أواصل الهجوم، إما أن يصمت معارضيي أو أن يقاومون بشدة، وفي عدة مناسبات نُعث بـ”البلطجة المنطقية”.
عندما نحاول تغيير رأي شخص من الأشخاص، فإن الباعث الأول لدينا هو الوعظ المتمحور حول سبب كوننا على صواب ومحاكمتهم في المقابل لكونهم على خطأ. ومع ذلك فقد أظهرت التجارب أن الوعظ والمقاضاة عادة ما تأتي بنتائج عكسية، وأن ما لا يؤثر على الناس قد يقّوم معتقداتهم، فبقدر ما يقوم اللقاح بتطعيم جهاز المناعة الجسدي ضد الفيروس، فإن فعل المقاومة يعمل على تقوية جهاز المناعة النفسي. وبالتالي فإن دحض وجهة نظر ما ينتج أجسامًا مضادة تستهدف المحاولات المستقبلية للتأثير، مما يجعل الناس أكثر وثوقية في آرائهم وأكثر استعدادًا لدفع البدائل الأخرى.
هذا ما حدث مع صديقي، فعندما أردت منه أن يعيد التفكير في مقاومته لفكرة اللقاحات، كان علي إعادة التفكير في مقاربتي للموضوع.
الرغبة في التغيير تتولد من الذات
قبل عدة عقود، عند علاج مشاكل تعاطي الظواهر السلبية، طور علماء النفس تقنية تسمى المقابلات التحفيزية. وتقوم الفرضية المركزية لتلك المقابلات على أنه بدل محاولة إجبار الآخرين على التغيير، من الأفضل لك مساعدتهم في العثور على دوافعهم الذاتية للتغيير. ويمكنك القيام بذلك عبر مقابلتهم -طرح أسئلة مفتوحة ومغلقة والاستماع بعناية- من تم إبراز مرآة شاخصة أمامهم حتى يتمكنوا من رؤية أفكارهم بشكل أكثر وضوحًا. وإذا أعربوا عن رغبتهم في التغيير، فما عليك إلا القيام بتوجيههم نحو خطة معينة.
لنفترض أنك طالب في “هوجورتس”، وتريد مساعدة عمك في رفض “فولدمورت”. فيمكن البدء هكذا:
أنت: أود أن أفهم بشكل أفضل مشاعرك حول ” X”.
العمّ: حسنا، هو أقوى ساحر على قيد الحياة. أيضاً، كما وعدني أتباعه بلقب فخم.
أنت: شيء مثي للإعجاء. هل هناك أي شيء لا يعجبك فيه؟
العم: هممم. أنا لست مجنونًا بكل عمليات القتل.
أنت: حسنا، لا أحد مثالي. ما الذي يمنعكم من التخلي عنه؟
العم: أخشى أن يوجه الاغتيال في تجاهي.
أنت: هذا خوف معقول – لقد شعرت به أنا أيضًا. هل هناك أي مبادئ تهمك بشدة لدرجة أنك على استعداد لتحمل هذه المخاطرة؟
في التجارب المنضبطة، ساعدت المقابلات التحفيزية الأشخاص على الإقلاع عن التدخين، وتعاطي المخدرات والكحول، والقمار، وكذا تحسين نظامهم الغذائي وممارسة الرياضة، إضافة إلى التغلب على اضطرابات الأكل، وفقدان الوزن، كما حفز هذا النهج الطلاب على الحصول على نوم جيد، علاوة على فتح المجال أمام الناخبين لإعادة النظر في أحكامهم المسبقة وتحيزاتهم، والوالدين المطلقين على التوصل إلى تسوية بينهم.
في الآونة الأخيرة، بفضل هوس اللقاح، شجع “أرنود غاغيور” طبيب أطفال في كيبيك الآباء المترددين على تحصين أطفالهم. وعبر تجاربه؛ أدت مقابلة تحفيزية في جناح الولادة إلى ارتفاع عدد الأمهات الراغبات في تطعيم أطفالهن من 72 بالمائة إلى 87 بالمائة، كما ازداد عدد الأطفال الذين تم تطعيمهم بالكامل بعد عامين بنسبة 9 بالمائة، أي أن محادثة واحدة كانت كافية لتغيير السلوك خلال الـ24 شهرًا اللاحقة.
الجدل العقيم يعمق الفجوات الخلافية
أجريت محادثة بين الدكتور “غاغيور” وصديقي “ر”، وبعد 90 دقيقة، أيقنت أن موقف “ر” من التطعيم لم يتغير، ثم كتب لي الدكتور غانيور عبر رسالة بالبريد الإلكتروني مفادها: “لقد حاولت تطبيق جميع مبادئ إجراء المقابلات التحفيزية، ولكن كان لدي شعور سيء بأنني لا أقوم بعمل جيد”، وأضاف إن “ر” على دراية كبيرة وينتهي به الأمر دائمًا إلى إيجاد الحجج التي تدعم قراره”، إن الغريب في هذه المسألة أنني لم أشعر بالهزيمة أو الغضب، فقد أردت أن أعرف كيف يمكن أن تتطور آراء صديقي في القضايا الخلافية.
لطالما حذر رواد المقابلات التحفيزية، أمثال “ويليام ميلر” و”ستيفن رولنيك”، من استخدام هذه التقنية للتلاعب بالناس. لأن الأمر يتطلب رغبة حقيقية لفهم دوافع الناس ومساعدتهم على الوصول إلى أهدافهم. فهنا نجد أنه رغم أني وصديقي (ر) نرغب في الحفاظ على صحة أطفاله، إلا أنني أدركت أني لم أحاول أبدًا فهم وجهة نظره بشأن اللقاحات من قبل، لذا اتصلت به في صباح اليوم التالي.
في مناقشاتنا السابقة، ركز صديقي “ر” فقط على الجوانب السلبية المحتملة للقاحات، وأقر خلال حديثه مع الدكتور جانيور أن اللقاحات يمكن أن تكون مفيدة للبعض لكنه رأى أنها ليست ضرورة للآخرين، فإذا كان يعيش في بلد يعاني من تفشي الملاريا على سبيل المثال، فهل سيفكر في التحصين؟ فقال لي “أنت تزن الإيجابيات والسلبيات”.
يجد علماء النفس أنه عندما نستمع بعناية فائقة إلى الفروق الدقيقة في تفكير الناس، فإنهم يصبحون أقل تطرفًا وأكثر انفتاحًا في آرائهم، وعليه فقد تساءلت كيف تنطبق ازدواجية صديقي على كوفيد، وكنت أعرف أن أنواع الأسئلة التي طرحتها ستكون مهمة. لقد جد علماء الاجتماع أن سؤال الناس عن كيفية عمل سياساتهم المفضلة في الواقع العملي، بدلاً من التساؤل عن سبب تفضيلهم لها، كان أكثر فعالية في انفتاح آرائهم. وبالتالي فبينما كان الناس يكافحون لشرح تشريعاتهم الضريبية المثالية أو خطتهم للرعاية الصحية، أدركوا مدى تعقيد المشكلة وعثروا على فجوات في معارفهم.
لذا في محاولتي الثانية، بدل أن أسأل صديقي “ر”، عن سبب معارضته لقاحات كوفيد 19، سألته عن كيف يود إيقاف الوباء. فكان رده: “لا يجب أن نضع كل بيضنا في سلة واحدة، نحن في حاجة إلى التركيز بقوة على الوقاية والعلاج”. وعندما سألته عما إذا كانت اللقاحات ستشكل جزءًا من استراتيجيته، أجاب: “نعم؛ بالنسبة لبعض الناس”.
التحفيز يوصل لفكر جديد
كنت متلهفاً لمعرفة ما الذي يدفع صديقي “ر” ليقرر أنه أحد أولئك الناس. ففي المقابلات التحفيزية، هناك تمييز بين استدامة الحديث وتغيير الحديث. فاستمرار الحديث هو إرادة للحفاظ على استدامة الوضع القائم. أما تغيير الحديث فيؤشر على الرجوع إلى الرغبة أو القدرة أو الالتزام بإجراء تحول ما. فالمحاور التحفيزي الحذق يستمع إلى حديث التغيير ويطلب من الناس أن يفصّلوا فيه، وكانت هذه خطوتي الثالثة.
سألت صديقي “ر” عن احتمالات حصوله على لقاح كوفيد، فأجاب بأنها “منخفضة جدا تبعا لعدة أسباب مختلفة”، فأخبرته أنه كان من الرائع بالنسبة لي أنه لم يقل صفراً. أجاب صديقي “ر” أن “هذه القضية ليست مسألة إما أبيض وإما أسود. وأضاف: “لا أعرف، لأن وجهات نظري وآرائي تتغير”. فضحكت: “هذه علامة فارقة هل يعقل أن أكثر شخص عنيد أعرفه يعترف بأنه مستعد لتغيير رأيه؟” فضحك قائلا: “لا، أنا مازلت أكثر شخص عنيد تعرفه! ولكن في مراحل مختلفة من حياتنا، لدينا أشياء مختلفة تهمنا، أليس كذلك؟”
لا أتوقع أن يتم تطعيم “ر” أو أطفاله في أي وقت قريب، لكن شعرت بإحراز تقدم تجسد في موافقته على أن يبقي عقله مفتوحاً، إلا أن الاختراق الحقيقي الذي حصل لي، هو أني أصبحت منفتحًا على أسلوب جديد من المحادثة، من دون السعي إلى تسجيل نقاط أو الجدال قصد الفوز، فالنصر الوحيد الذي أعلنته كان ضد نزعاتي الذاتية، إذ تغلبت على “البلطجي” المنطقي في باطني.
يرى الكثير من الناس أنه لوقف جائحة مميتة، فإن الغاية تبرر أي وسيلة ضرورية، إلا أنه يجدر بنا أن نتذكر أن الوسائل هي مقياس لشخصيتنا، لذلك إذا نجحنا في انفتاح الآراء والعقول، فإن السؤال لن يكون فقط متمحورا حول ما إذا كنا فخورين بما حققناه، بل سيتجاوزه إلى السؤال عن ما إذا كنا فخورين بكيفية تحقيق ذلك النجاح.
لم أعد أعتقد أن مكاني الطبيعي تغير رأي أي شخص من الأشخاص. كل ما يمكنني فعله هو أن أحاول فهم تفكير الناس، والسؤال عما إذا كانوا منفتحين بعض الشيء على مسألة إعادة التفكير، والباقي متروك لهم.
آدم غرانت*
عالم نفساني في مدرسة وارتون. ترتكز بحوثه على التحفيز والعطاء والإبداع. آخر كتبه كان بعنوان “فكّر مرة أخرى: قوة معرفة ما لا تعرفه”. حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة هارفارد، والدكتوراه من جامعة ميشيغان. حاز عدة ألقاب والتصنيفات في مجال التعليم وغيره. نشر المقال عبر الرابط الإلكتروني التالي: https://www.nytimes.com/2021/01/31/opinion/change-someones-mind.html