أصبحت آلية “البودكاست” آداة فعالة في تعزيز النقاش وبناء الوعي المجتمعي والمساهمة في خلق أفق انتظار يحمل البشارة، بالرغم من بعض التجارب التي تصر على غمر هذه التجربة الحديثة بالتنميط والاجترار بل والتفاهة حتى.
في اتجاه معاكس وتفرّد واضح، طلع علينا قبل أسبوع الدكتور سلمان بونعمان ضمن “بودكاست أثر”، ليقدم نموذجا لافتا للمثقف المغربي الشاب، المعانق لقضايا الوطن، المشبع بهموم الأمة، والمثخن بجراحاتها، فاستطاع أن يحاور بذكاء واع، ونفَس استشرافي، وتحليل عميق، وليتفاعل مع محاوِرتِه التي عرفتْ كيف تنتزع منه أفكارا لامست باقتدار كبير الشأنَ السياسي والفكري والثقافي المغربي والعربي والإسلامي.
وقد لفت انتباهي في الحلقة أمور أذكر بعضها كما يلي:
1 ـ اللغة:
كانت لغة الدكتور سلمان سهلة لكنها ممتنعة، وظيفية لكنها ممتعة، أكاديمية تحليلية لكنها واقعية، قدم على مدى 70 دقيقة خطابا يفهمه ذوو الصلة بالشأن الثقافي والفكري والسياسي دون عنت، حرص طيلة الحلقة على عدم تغليف خطابه بقاموس الغرابة، ولم يغرقه في الإبهام، ولم يشوش عليه بالالتباس، وإنما قدّمه نديّا، قويّا، مسكوكًا يحمل الشيء الكثير من أثر الوعي، وبصمة الفكر، ومتابعة جادة لقضايا الأمة، فجاءت الحلقة آية في الإمتاع، غاية في المؤانسة.
2 ـ الحس النقدي:
الدكتور سلمان منسجم مع نفسه كباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية، يعرض المعلومة، ويبسط الفكرة، ويشرّح الخيارات، ويحدد مكامن الخطر، ويضع أصبعه على الجرح، لكنه لا ينسى أن يختار الأنسب والأنفع من الحلول، ولا يتوانى عن تعزيز اختياراته بما يقنع، مع الإحالة على المصادر والتجارب إذا لزم الأمر ذلك، وفي إحالاته تجد دائما ما جدّ في عالم الدراسات والإصدارات القيمة، ما ينم عن اطلاع واسع وفعل ثقافي مواكب.
3 ـ القدرة على التشريح والتحليل:
الدكتور سلمان لا يكتفي بتفكيك المفاهيم ورصد الأعطاب، ليغادر على عجل وفي كبرياء إلى برجه العاجي كما يفعل آخرون، الدكتور سلمان يشعرك أنه مراقِب يقظ لما يجري من حوله، تحس أنه ماهر في تخصصه متقن له، إذا بدأ تشريح قضية أو تحليل وضع أو تفكيك ظاهرة لا يكتفي بوضع الإصبع ثم يغادر، بل يزاوج بين كفاءتين اثنتيْن: التحليل مع الاقتراح، التفكيك مع إبداء الرأي، يشعرك أنه دائم التساؤل، دائم التفكير، دائم البحث عن الإجابات، لا يكتفي بما هو موجود، بل يفعّل مهاراته بل وحواسّه ليعبّر عن أفكاره بطريقة مؤثرة، وينجح في نقلها بأسلوب سلسل يتسم بالدقة والإقناع.
4 ـ القوة الاقتراحية:
حرص الدكتور سلمان على أن يجعل من الحلقة مرجعا، وذلك من خلال سلة الاقتراحات التي كان ينزلها في ثنايا حديثه، مؤمنا أن من شأنها المساهمة في تجاوز أزمة، أو تحسين وضع، أو تخطي محنة. أشعرَنا الدكتور سلمان بعد انتهاء الحلقة أننا قضينا 70 دقيقة أمام سيل من الرؤى وطوفان من الأطروحات في مجالات مختلفة أكاديمية وسياسية وثقافية واجتماعية، كان في جلّها محللا بارعا، وناقدا متميزا، لكنه أيضا صاحب قوّة اقتراحية من صورها المشرقة عندما لوّح بصوته النافذ: “نحتاج دينامية فكرية تواجه حالة التصحر والسيولة والتفاهة”. إنه فعلا وباختصار: إنسان ” سلبته الكتابة، وسكنه هم الإنتاج العلمي، وظل مشغولا بسؤال النهضة” كما وصفته محاوِرته سارة الحمداوي.
على سبيل الختم:
نجح القائمون على “بودكاست أثر” إعدادا وتقديما في استضافتهم لسلمان بونعمان على إتاحة الفرصة لمفكر شاب، لا نقول إنه ما يزال يتلمس طريقه، بل نجزم أنه خطّ باقتدار مسارا ملهما تكتمل صورته من خلال كتاباته ومحاضراته وحواراته، وتشهد له بقدرة مبكرة على التأسيس الممنهج لخطاب فكري بعيد عن الابتذال، بعيد عن الاجترار، قريب إلى هموم الناس، متطلع للمساهمة في نهضة مأمولة لعلها تكون قريبا.