ملخص
إن “الثورة”، التي يُنظر إليها على أنها كلّية خيالية تقطع فجأة مع الأنموذج الذي تحل محله، والتي يتجلى حلمها السياسي في جعلها تتداخل مع “الإرادة الجماعية”، ستكسب من الواقعية والتواضع، إذا تم تحويل الاهتمام نحو “الفعل الثوري”، الذي يرفض الهيمنة من خلال إعادة تكوين العلاقات الاجتماعية من خلال القوة التأسيسية للمجتمعات المتمتعة بالاستقلالية. هذه هي الأطروحة التي قدّمها ديفيد غريبر في كتابه “من أجل أنثروبولوجيا لاسلطوية” والذي يشكل هذا المقال مقتطفا منه.
يعرف مصطلح “ثورة” إسرافا في الاستخدام لدرجة أنه أصبح يعني الشيء ونقيضه. فهناك حاليا حديث عن الثورات كل أسبوع: ثورات مصرفية، ثورات إلكترونية، ثورات طبية، وثورة للأنترنت كلما طوّر شخص ما برنامجًا جديدًا متميزا.
وهذا النوع من الخطاب ممكن فقط لأن التعريف المشترك للثورة كان يعني دائمًا شيئًا يتعلق بالنقلة النوعية: قطيعة واضحة وأساسية في طبيعة الواقع الاجتماعي، وبعد ذلك يعمل كل شيء بشكل مختلف، وتصبح المقولات السابقة غير قابلة للتنزيل. هذا ما يجعل من الممكن، على سبيل المثال، التأكيد على أن العالم الحديث هو وليد “ثورتين”: الثورة الفرنسية والثورة الصناعية، على الرغم من أنه لا يوجد شيء مشترك بينهما سوى ما يبدو على أنه قطيعة مع ما سبقهما. هذه نتيجة غريبة، كما أشارت “إيلين ميسكينس وود” [Ellen Meskins Wood]، أننا معتادون على مناقشة ما نسميه “الحداثة” كما لو كانت تشتمل على مزيج من اقتصاديات عدم التدخل الإنجليزي [laisser-faire] والحكم الجمهوري الفرنسي في حين أن الاثنين لم يكونا متواجدين معًا أبدا: حدثت الثورة الصناعية في ظل دستور إنجليزي غريب، قديم، لا يزال إلى حد كبير يحمل في طياته سمات من القرون الوسطى، ولم تكن فرنسا في القرن التاسع عشر أبدا فضاءا لاقتصاديات عدم التدخل. (يبدو أن التأثير السابق للثورة الروسية على “البلدان النامية” ينبع من كونها المثال الوحيد لبلد بدا فيه أن نوعي الثورة قد تزامنا: التحكم في السلطة وطنيا أدى بعد ذلك إلى التصنيع السريع. وبالتالي، كان على جميع حكومات الجنوب في القرن العشرين تقريبًا، التي كانت عازمة على اللحاق اقتصاديًا بالقوى الصناعية، أن تدعي أيضا على أنها أنظمة ثورية.)
إذا كان هناك من خطأ منطقي يكمن وراء كل هذا، فهو تخيّلنا أن التغيير الاجتماعي أو حتى التكنولوجي له نفس الشكل الذي أطلق عليه توماس كون “بنية الثورات العلمية”. فهذا الأخير يحيل إلى أحداث مثل الانتقال من عالم نيوتن إلى عالم أينشتاين: هناك اختراق فكري والعالم لم يعد كما هو بعد ذلك. مإذا تم تنزيل هذا الأنموذج على أي شيء آخر غير الثورات العلمية، فهذا يعني أن العالم يتطابق حقًا مع المعرفة التي لدينا عنه، وبمجرد تغيير المبادئ التي تستند إليها معرفتنا، يتغير الواقع أيضًا. هذا هو بالضبط نوع الخطأ الفكري الأساسي الذي يقول علماء النفس التنموي أنه يجب علينا التغلب عليه في مرحلة الطفولة المبكّرة، ولكن يبدو أن القليل منا من فعل ذلك.
في الواقع، إن العالم غير ملزم بتلبية توقعاتنا، وبقدر ما تشير كلمة “الواقع” إلى شيء ما، فهو بالضبط ما لا تستطيع استيعابه بنياتنا العقلية تمامًا. إن الكلّيات (Les totalités)، على وجه الخصوص، هي دائمًا من اختلاق العقل. فالأمم والمجتمعات والأيديولوجيات والأنظمة المغلقة … لا شيء من ذلك موجود بالفعل.
إن الواقع دائمًا أكثر تعقيدًا من ذلك، حتى لو كان الاعتقاد بوجود هذه الكليات يشكّل قوة اجتماعية لا يمكن إنكارها. بادئ ذي بدء، فإن عادة تعريف العالم أو المجتمع كنظام شامل (حيث لا يكتسب أي عنصر معناه إلا في علاقة مع العناصر الأخرى) تميل بشكل حتمي تقريبًا إلى تصور الثورات على أنها تصدعات انقلابية. ففي النهاية، كيف يمكن استبدال نظام كلّي بنظام مختلف تمامًا من غير انقلاب يشكِّل قطيعة [مع ما سبقه]؟ وهكذا يصبح التاريخ البشري سلسلة من الثورات – ثورة العصر الحجري الحديث [néolithique]، والثورة الصناعية، وثورة المعلومات، وما إلى ذلك، ويصبح الحلم السياسي بعد ذلك هو السيطرة على هذه السيرورة بطريقة أو بأخرى. فــ”الثورة” بالمعنى الدقيق للكلمة هي القدرة على إحداث قطيعة من هذا النوع، واختراق كبير الذي لا يكتفي بالحصول فقط بل يشكّل نتيجة مباشرة لشكل من أشكال الإرادة الجماعية.
وفي هذه الحالة، ليس من المستغرب أنه بمجرد أن شعر المفكرون الراديكاليون بضرورة التخلي عن هذا الحلم، فإن رد فعلهم الأول كان هو مضاعفة جهودهم لتحديد الثورات التي كانت تحدث في مختلف الميادين. لدرجة أن القطيعة، في نظر شخص مثل بول فيريليو، هو حالتنا الوجودية الدائمة، أو أن العالم بالنسبة لجان بودريار يتغير تمامًا كل سنتين أو ثلاث سنوات، كلما كانت لديه فكرة جديدة.
هذه ليست دعوة للرفض المطلق لكليات خيالية كهذه، حتى ولو افترضنا أن ذلك ممكن، وهو ليس كذلك في أغلب الأحيان، لأنها على الأرجح أداة ضرورية للفكر البشري. إنها بالأحرى دعوة لعدم نسيان أن هذه الكلّيات مجرد أدوات فكرية. وعلى سبيل المثال، من الجيد جدًا أن نكون قادرين على طرح جملة من الأسئلة: “بعد الثورة، كيف سننظم وسائل النقل العام؟ من سيمول البحث العلمي؟” أو حتى “بعد الثورة، هل تعتقد أنه ستظل هناك مجلات أزياء؟” الكلّية هي تعبير عقلي مفيد؛ حتى لو أدركنا أيضًا أنه في الواقع -ما لم نكن مستعدين لذبح الآلاف من الناس (وربما حتى في هذه الحالة)- أن الثورة من شبه المؤكد لن تكون قطيعة واضحة كما توحي مثل هذه العبارات.
ما هو الشكل الذي ستتخذه الثورة إذن؟ لقد طرحت شخصيا بالفعل بعض الأفكار. فالثورة على نطاق عالمي سوف تستغرق وقتًا طويلاً. لكن يمكننا أيضًا الاعتراف بأنها قد بدأت بالفعل. وأسهل طريقة لفهمها هي التوقف عن التفكير في الثورة على هذا النحو -“الثورة”، هي القطيعة الانقلابية الكبرى- بل علينا أن نتساءل عن “ما هو الفعل الثوري؟” يمكننا بعد ذلك القول أن الفعل الثوري هو أي عمل جماعي يرفض، وبالتالي يتحدى، شكلاً من أشكال السلطة أو الهيمنة، وهو بذلك يعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية -حتى داخل الجماعة- انطلاقا من هذا المنظور. ليس بالضرورة أن يهدف الفعل الثوري إلى الإطاحة بالحكومات. إن محاولات إنشاء مجتمعات تتمتع بالاستقلالية في مواجهة السلطة (باستخدام تعريف كاستورياديس [Castoriadis] للمجتمعات التي تشكِّل نفسها بنفسها والتي تقرر بشكل جماعي بشأن قواعدها الخاصة أو مبادئ اشتغالها، والتي تخضعها للتقييم باستمرار)، على سبيل المثال، هي التحركات الثورية تقريبًا بحكم التعريف. ويظهر لنا التاريخ أن التراكم المستمر لمثل هذه التحركات يمكن أن يغير (تقريبًا) كل شيء.
الهوامش
[1] هذا المقال مقتطف من الترجمة الفرنسية لكتاب “Pour une anthropologie anarchiste” (p. 67-73) [من أجل أنتروبولوجيا لاسلطوية/أناركية] للأنتروبولجي الأمريكي ديفيد غريبر. هذا المقتطف نشرته مجلة “EcoRev” الفرنسية. وقد اضطررنا في بعض الأحيان للرجوع للنسخة الإنجليزية [Fragments of an Anarchist Anthropology] لتدقيق بعض العبارات.
Graeber, D. (2022). Un assez court manifeste concernant le concept de révolution. EcoRev’, 52, 15-18. https://doi.org/10.3917/ecorev.052.0015
[1] ديفيد غريبر “David Graeber” (1961-2020): أنثروبولوجي وناشط أناركي أمريكي، ومنظِّر الفكر التحرري في أمريكا الشمالية، ومن رموز حركة “احتلوا وول ستريت”. ويعتبر غرايبر أحد أكثر المفكرين تأثيرا في العالم الأنجلو ساكسوني وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز. عمل أستاذًا بكلية لندن للاقتصاد حتى أواخر أيامه. ترجم له إلى اللغة العربية كتاب “الدّين: الخمسة آلاف سنة الأولى عن المركز القومي للترجمة، مصر؛ و”مشروع الديمقراطية” ضمن سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 418.