هذا المقال جزء ثانً مكمل للمقال الأول: بين زلزال الآفاق وزلزال الأنفس، عن مفهوم الهلاك والعذاب الشديد في القرآن الذي قد يتجلى بكارثة طبيعية أو اجتماعية، في مجتمعات ذات سماتٍ قارّة، سماها القرآن: القرى.
أقف فيها على مصطلح المترفين في القرآن، الذين ما ذكرت القرى إلا وذكروا معها!، فمن هم المترفون، ولماذا كانوا المؤشر أو المُشعر (Indicator)، الذي إن وصل حدا معينا، حقَّ الوعيد الإلهي بسنة طبيعية أو اجتماعية ماحقة.
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16). الإسراء
فمن هم المترفون، وما هو أمرهم؟
سأبدأ أولا بكتابة المواد الخام الأولية التي سأشيّد منها مفهومي عن الموضوع، كالتالي:
المعجم القرآني
- وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23). الزخرف
- وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35). سبأ
- وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16). الإسراء
- فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117). هود
- حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67). المؤمنون
فالمترفون في القرآن سماتهم كالتالي، وبحسب ترتيب الآيات أعلاه وقد تتكرر الصفة في أكثر من آية:
آبائيون أو سلفيون مستكبرون، أي يتبعون منهج آبائهم حتى وإن كان ضالا ويرفضون التغيير.وهم أغنياء ذوو مال وأولاد أي لديهم القوة المالية والبشرية. ولا يكتفون بأن يكونوا فاسدين في أنفسهم بل يمتد فسادهم إلى غيرهم، ويمنعون وجود أي مصلحين في المجتمع. فالقدوة والاتباع تكرر غير مرة في وصفهم، يضاف إليها الاستكبار في الآية الأخيرة.
المعجم اللغوي
ماذا تقول معاجم اللغة؟
في مختار الصحاح: أترفته النعمة: أطغته وأفسدته.
وفي لسان العرب: الـمُتْرَفُ: الـمُتَنَعِّمُ الـمُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدني وشَهواتِها. (إلا قال مُتْرَفُوها) أَي أُولو الترفةِ وأَراد رؤساءَها وقادةَ الشرّ منها. المُتْرَفُ: المَتْروكُ يَصْنَعُ ما يَشاءُ لا يُمْنَعُ، والمُتَنَعِّمُ لا يُمْنَعُ من تَنَعُّمِه، والجَبَّارُ.
أترفناهم: جعلناهم ذوي نعمة واسعة فأبطرتهم.
الملمح دقيق جدا إذن، سنقطره تقطيرا ابتداء من هذه الآية المحورية التالية:
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16). الإسراء
أمر المترفين: أمرنا مترفيها:
لا يمكن أن يكون المعنى هو المعنى القريب المعروف أي وجهنا لهم أمرا ففسقوا!، أمرنا هنا: فيها حزمة معان مندمجة، فمن معانيها اللغوية (الكثرة)، وقد ورد في تفسير ابن كثير: أمرنا مترفيها أي أكثرنا عددهم، وجاء في نهج البلاغة في الخطبة رقم ١٦، بشرح الإمام محمد عبده: (فلئن أَمَرَ الباطل لَقديما فعل، ،لئن قلَّ الحق فلربما ولعل!)، لاحظ التقابل بين القلة (قل الحق) و الكثرة( أَمِرَ الباطل)، فهل هي الكثرة الصرفة؟، هل أمِر=كثر، مساواة جبرية؟، لا أراها كذلك قط!
الشئ الذي يكثر فيأمر
ثمة شيء آخر يجب أن يضاف إلى معنى الكثرة، فليس القصد أنهم كثروا فقط، فكم من كثيرين لا وزن لهم وليسوا قوة مؤثرة، القصد أن المترفين هنا لهم كثرة وأمر، أي لهم سلطة تأمر وتُتبع، والأمر هنا لا يشترط أن يكون سلطة آمرة قاهرة، فهذا وجه من وجوهها، بل هم كثرة لهم أمر مستفحل مؤثر يتبعه الناس حتى بدون إكراه، فليس كل طاعة تأتي عن إكراه وقهر، ف (أمرنا مترفيها) أي كثرناهم كميا وكيفيا،
كميا: أي بزيادة عددهم وزيادة مالهم، كيفيا: جعلنا لهم أمر (شأن)، إما بالتحكم القاهر المباشر أو أن يكونوا مجتمعا مسيطرا بسماته وإعلامه وقوته الناعمة فيُتبع ويكون هو السائد، فالشيء إن أمرناه إذن، كَثُرَ وأَمِرَ، أو هو الذي يكثر ويأمر فهو متبوعا وليس تابعا.
ولاحظ أنهم قبل (الأمر) كانوا مترفين، فترفهم سابق على الأمر يوم قال (أمرنا مترفيها) إذن لا بد أنهم انتقلوا إلى طور أعلى وأقوى وأطغى، كثروا فيه وصاروا هم أئمة الثقافة والتوجيه وهذه كلها من عالم الأمر.
أمرنا مترفيها: هو الحال لا المقال، أي إنهم جرت عليهم السنن الأمرية التي تصيرهم بهذا الاتجاه كقوله تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم أو نمد لهم مدا… إلخ
فالمترفون ليسوا الأغنياء، فالغنى اسم حيادي فقد يكون خيرا وقد يكون شرا، أما المترف فلا يكون الا طاغيا جبارا لديه قوة المال والولد التي تمكنه من استدامة فساده وطغيانه، لذا فهو متبع له أمر ونهي، وهو قار على نهجه ورأيه ويحارب كل من يريد أن يصلح، أي لن يترك المجتمع وشأنه، بل يريد أن يكون شأن المجتمع هو شأنه هو أي شأن المترف الفاسق أي أمره، وهذا معنى ففسقوا فيها، فليس فسادهم أو فسقهم مقصورا عليهم، بل ممتد إلى غيرهم، فهو غني قوي فاسد مفسد، له قوة مالية وبشرية وسلطوية.
فإن كان الوجود خلق وأمر بناء على قوله تعالى: ألا له الخلق والأمر، فإن تعريف المترف يكون كالتالي:
ففي قوانين عالم الخلق: لديه مال وبشر
وفي قوانين عالم الأمر: فاسق بماله مُفسِقٌ لغيره ولديه موقف مكذب معاند مستكبر طاغ آمر.
ونعيد أن (آمر) أي: يأمر أمرا مباشر فيطاع =القوة الخشنة، أو يكون له أمر (حال/شأن) يسود ويتبع ويقتدى به =القوة الناعمة). يضاف إلى ذلك الكثرة. لتكون الكثرة النوعية.
فسقوا فيها: أفسقهم ترفهم، ففسقت قريتهم بهم
قال تعالى: فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين. إي فسقهم هو علة طاعتهم.
فالفسق في: أي أن تجعل لك اتباعا فاسقين يطيعونك، ففسقوا فيها أي أفسقوها لتطيعهم، ف(الفسق في): فيه معنى الامتداد إلى—، أي إن في فسق الفاسق غاية الانتشار والتأثير في الآخرين وقيادتهم وليس فسقا ذاتيا مكتفيا بنفسه، وقناعتي أن الفسق الذاتي لا علاقة له بأي عذاب جماعي، فأمره بين الإنسان وربه.
فنحن بين (بما كانوا يفسقون) و (فيما كانوا يفسقون)، أي بين أدوات الفسق وبين مجالاته ومواضيع اشتغاله
، فالمال والسلطان وأي شكل للقوة ينطبق عليه (بما) أي هو وسيلة الفسق أو أداته، ولكن ما هو محل الفسق أو مجاله؟ أين يقع؟ فهذا الذي ينطبق على (فيها)، فسقوا فيها فأفسقوها فأطاعتهم أو اتبعتهم..
فهم فسقوا بترفهم، وهي فسقت بهم، ترفهم أخرجهم عن أمر ربهم، وقريتهم خرجت بهم عن أمر ربها، أي هم سبب فسوقها مثلما كان ترفهم سبب فسقوهم، فهم اتبعوا ما أترفوا فيه: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)، وقريتهم اتبعهتم: بعد أن فسقوا فيها، أي أخرجوها عن الجادة فطاعتهم.
إذن:
أمرنا مترفيها ففسقوا فيها:
أي هو الانتقال الجماعي من عالم الأمر إلى عالم الخلق، أي كما نقول في علم الجينات، تحول المعلومة المشفرة أو المضمرة في الجين إلى بروتين مخلوق موجود، أي تأولت كل رؤاهم وآراءهم، وصارت أعمالا عامة، يطيعها العامة، فهي الطور النهائي في صيرورة القرى، بعد أن تنفي كل صالح مصلح وتصير شرا صافيا لا أمل منه، أي لو عاشت الدهر كله لن تتغير لأن قانونها المكذب المستكبر (ما وجدنا عليه آباءنا)، فهاهنا ينزل الهلاك أو العذاب الشديد….