منذ ما يقارب 50 عامًا، شدد المدرسون والسياسيون في الولايات المتحدة الأمريكية بداية من حجرات الأقسام الدراسية وصولا إلى المكتب البيضاوي على أهمية تخريج طلابٍ يتمتعون بمهارات المفكرين النقديين. فقد أضحى المحتوى الذي كان لابد من نقشه في أذهان الطلاب مجرد تمرير سريع لليد على شاشة الهاتف، ولكن القدرة على استيعاب هذه المعلومات يستوجب التفكير النقدي حيالها. وبالمثل، فإن ديمقراطيتنا اليوم مهددة ليس بسبب ضعف القدرة على النفاذ إلى البيانات والآراء حول أهم القضايا اليومية، ولكن الأحرى بسبب عدم قدرتنا على فرز الحقيقي من المزيف (أو المغرض).
لقد حققنا بالتأكيد تقدما في تدريس التفكير النقدي على مدى خمسة عقود الأخيرة. ويُمكن العثور على الدورات المخصصة لهذا الموضوع في فهارس العديد من الكليات والجامعات، فيما لا يشدد جيل من معايير الأكاديمية “K-12” على المحتوى فقط، ولكن أيضًا على المهارات الضرورية للتفكير النقدي حول المحتوى المدرس في اللغة الإنجليزية، والرياضيات، والعلوم والدراسات الاجتماعية.
بالرغم من هذا التقدم، يزعم 75 في المائة من أرباب العمل أن الطلاب الذين يوظفونهم بعد 12 أو 16 عامًا أو أكثر من التعليم الرسمي يفتقرون إلى القدرة على التفكير النقدي وحل المشكلات، وعلى الرغم من حقيقة أن جميع المدرسين تقريبًا يزعمون أنهم يعطون الأولوية لمساعدة الطلاب على تطوير تلك المهارات بالتحديد. وقد ضُمنت هذه الإحصائيات في كتاب Academically Adrift، 2011 للكاتبين “ريتشارد أروم” و”جوسيبا روكسا”، والذي تسبب في ضجة عندما أكد المؤلفان أن الطلاب لم يحرزوا أي تقدم في القدرة على التفكير النقدي خلال سنوات دراستهم الجامعية.
مع ازدياد المخاطر، التي يُعزى الكثير منها إلى قلة التفكير النقدي حيال الموضوعات ذات الأهمية الكبرى، يجب علينا بوضوح أن نبذل المزيد لضمان أن يصبح طلاب اليوم مفكرين ماهرين في الغد. لحسن الحظ، نحن في وضع يمكننا من القيام بذلك دون الاضطرار إلى قلب نظام التعليم العالي الحالي.
ماذا نقصد بـ”التفكير النقدي”؟
إن أحد أهم العوائق التي عرقلت إحرازنا مزيدا من التقدم في تعليم التفكير النقدي خلال العقود القليلة الماضية هو تصورنا بأننا مازلنا لم نستوعب المفهوم بالشكل الكافي لإقرر كيفية تدريس مهارات التفكير النقدي عبر دمجها في المناهج الدراسية.
يُستمد هذا العجز إلى حد ما من المناقشات داخل مجتمع التفكير النقدي حول كيفية تعريف المصطلح. لكن مثل هذه النقاشات، رغم كونها رصينة وبناءة، إلا أنه يجب ألا تحجب حقيقة أن هناك إتفاقًا بشأن المهارات التي تشكل التفكير النقدي، بالإضافة إلى البحث الجوهري حول القدرة على تدريس هذه المهارات بنجاح.
على سبيل المثال، ينطوي التفكير النقدي على التفكير بطريقة منتظمة. والمصطلح الشائع الاستخدام لوصف هذا النوع من التفكير المنتج والمنظم هو “المنطق”، إلا أن المنطق يصف عددًا من أنظمة التفكير المنهجي.
ويقلل المنطق الصوري الكلمات والأفكار إلى رموز يمكن التحكم، وعلى سبيل المثال، مثل الأرقام والرموز المستخدمة في الرياضيات. وبالرغم من أن المنطق الصوري قوي جدا (ما عليك إلا أن تسأل أي مبرمج كمبيوتر)، فبوسعنا أيضًا تنظيم تفكيرنا باستخدام المنطق غير الصوري الذي يسمح لنا بالتفكير في معنى الكلمات بدلاً من اختزالها في رموز تتناسب مع بنية معينة. هناك أيضًا مجموعة من الأنظمة التخطيطية لرسم خرائط للعلاقات المنطقية، بعضها سهل بما فيه الكفاية بحيث يمكن للمتعلمين المبتدئين الاستفادة منه، ويمكن تطبيقه على أي مجال من مجالات المحتوى.
ونظرًا لأن معظم التواصل الذي نحتاج إلى التفكير فيه بشكل نقدي يحتوي على لغة بشرية يومية، عوض استخدام رموز البرمجية الآلية، يجب أن يكون المفكرون النقديون بارعين أيضًا في ترجمة اللغة المنطوقة والمكتوبة إلى عبارات دقيقة يمكن هيكلتها في بنية منطقية. إن عملية الترجمة هذه فنية بقدر ما هي علمية، ولكن مع الممارسة، يستطيع الطلاب إجراء هذه الترجمة على أي شيء من الوثائق والمستندات التاريخية أو الأدبية وصولا إلى الأفكار العلمية والبراهين الرياضية.
وعندما يتم دمج هذه العبارات الدقيقة المترجمة في بنية منطقية، تتوفر لديك حجة –أي الوحدة الأساسية للاستدلال. إذن باستطاعتنا أن نعثر على الحجج في الخطب السياسية والافتتاحيات والإعلانات، وكذا في التواصل عبر مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، ويجب إدراك أن قواعد التحليل الخاصة بقوة الحجج قائمة منذ أكثر من 2000 عامٍ.
تلعب الحجج المنظمة دورًا خاصًا في تسليط الضوء على أهمية العلاقات السببية (التي تسمى “فكرة الربط المنطقي” في الجدل المنطقي)، مما يمنح الطلاب القابلية لاستيعاب لماذا يُمكن أن تؤدي المقدمات المنطقية إلى نتيجة خاطئة- بدل العمل في ظل اعتقاد خاطئ مفاده أن العالم يتألف من حقائق يمكن أن تكون صحيحة أو خاطئةً، وأن كل شيء آخر يقع في فئة الرأي (أو ما هو أسوأ منه، هو “مجرد رأي”).
هناك أسطورة أخرى أدت إلى إبطاء عملية دمج تدريس التفكير النقدي بشكل أعمق في المناهج الدراسية وتتلخص في الخوف من أن تأتي مهارات التدريس، بما في ذلك مهارات التفكير النقدي، على حساب تدريس المحتوى الأكاديمي. ورغم ذلك، لا يمكن للمرء أن يُفكر بشكل نقدي في موضوع لا يعرف عنه أي شيء. نظرًا لأن الخلفية المعرفية، بما في ذلك معرفة المحتوى المتعلق بالتخصصات الأكاديمية، تُشكل جزءًا حيويًا من كون الشخص مفكرًا نقديًا، ففهم المحتوى والتفكير النقدي حولها لا يحتاج إلى الدخول في أي صراع من الصراعات.
وفي الوقت الذي يستمر فيه الناس في مناقشة دور عناصر مثل الإبداع في عملية التفكير النقدي، هناك توافق عام في الآراء، يعود إلى أقدم التعريفات المبكرة للمصطلح، وينطوي المفهوم على ثلاثة عناصر مترابطة: المعرفة (على سبيل المثال، المعرفة بنظام منطقي واحد أو أكثر)، والمهارات (مثل المهارات في تطبيق هذا النظام المنطقي لبناء الحجج وتحليلها)، والمواقف والتوجهات (مثل الاستعداد والرغبة في تطبيق مبادئ التفكير النقدي، بدلاً من الرجوع إلى المعتقدات الحالية غير المدروسة، أو ببساطة الإيمان والتصديق بما تخبر به شخصيات من السلطة).
تعليم الطلاب التفكير الناقد
كما يوجد اتفاق كافٍ حول ماهية التفكير النقدي، كذلك لدينا اتفاق كافٍ بشأن أفضل الطريق لتعليم وتدريس التفكير النقدي على أتم وجه. إذ تُظهر البحوث أن عناصر التفكير النقدي في حاجة إلى أن تُدريس بشكل صريح، بدلاً من افتراض أنها تأتي أثناء المشوار الذي يقطعه المدرسون النبهاء مع الطلاب عند التعامل مع المادة المعقدة والمركبة. وكما ذكرنا في السابق، فإن جميع أساتذة الجامعات والكليات تقريبًا يعطون الأولوية لتطوير وتنمية قدرات التفكير النقدي لدى طلابهم، ولكن للانتقال من الطموح إلى التقدم، يتحتم عليهم مزاوجة هذه الأولوية مع الممارسات التي تجعل أوامر إعمال التفكير النقدي صريحة في التخصص.
على سبيل المثال، فالرياضيات هي موضوع يتم فيه تعريف الطلاب باستمرار على أمثلة للتفكير الاستنباطي في شكل براهين رياضية. ومع ذلك، كم هو عدد أساتذة مادة الرياضيات الذين ينتهزون هذه الفرصة لتعريف الطلاب بمبادئ التفكير الاستنباطي بشكل صريح، أو في مقارنة المنطق الاستنباطي بالمنطق الاستقرائي (النمط الأساس للاستدلال المستخدم في العلوم)؟ وعلى شكل مماثل، توفر الأنشطة التي تتضمن القراءة المعلوماتية والكتابة الجدلية فرصًا مثالية لتعريف الطلاب في الفصول الدراسية أساليب الكتابة الحجاجية المنطقية التي يؤدي فيها الدليل (في شكل فرضيات حجاجية) إلى استنتاج، علاوة على كيفية اختبار هذه الحجج للتحقق من صحتها، واختبار قوتها وضعفها.
كما هو واضح، فإن عدد موضوعات التفكير النقدي التي يحتاج الأساتذة والطلاب إلى فهمها صغير نسبيًا، مقارنةً بمجموعة المحتوى الضخم الذي يحتاجونه لإتقان اللغة الإنجليزية أو الرياضيات أو العلوم أو التاريخ، ولكي ينمو الطلاب كمفكرين نقديين، يجب عليهم استخدام هذه المعرفة للعمل عبر ممارسة عملية تركز بشكل خاص على تطوير مهارات التفكير النقدي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الأنشطة والواجبات الدراسية المصممة بعناية والتي توفر للطلاب فرصًا للممارسة التطبيقة لمبادئ التفكير النقدي قصد الإجابة عن الأسئلة وحل المشكلات الخاصة بمجالات المحتوى الأكاديمي.
ويوضح المثال السابق لأستاذ في مادة الرياضيات يغاير ويمازج بين المنطق الاستنباطي والاستقرائي ويشرح ما يقدمه كل شكل من أشكال التفكير المنطقي سابقة إلى التخصصات المختلفة إمكانية نقل مهارات التفكير النقدي بين المجالات الأكاديمية. نظرًا لأن التفكير النقدي قابل للتطبيق عالميًا، ويمكن لأعضاء هيئة التدريس أيضًا استخدام الأمثلة والتمارين المتعمدة لكي يوضحوا للطلاب كيف يمكنهم تطبيق تقنيات التفكير النقدي على قضايا خارج الفصل الدراسي، مثل كيفية اتخاذ قرارات منهجية في الكلية أو العمل أو كيفية تجنب التلاعب والمراوغة من السياسيين والمعلنين.
لقد اقترح أحد الباحثين من ذوي التفكير النقدي للحصول على مهارات مفكر نقدي نفس القدر من الممارسة المطلوبة لصناعة رياضي أو موسيقي على درجة عالية من المهارة: أي نحو 10 آلاف ساعة. وإذا كان هذا الاقتراح صحيحاً بشكل جزئي فإنه يشير إلى مشكلة معينة، لأنه لا يستطيع أي فصل دراسي منفرد، أو حتى سنوات من التعليم، أن يوفرا هذا القدر من الوقت المخصص للممارسة والتطبيق.
لهذا السبب لا يتوجب على المدرسين تدريس الطلاب مهارات التفكير النقدي ومنحهم الفرص لاستخدامها، ولكن يتعين عليهم أيضًا إلهامهم لمواصلة تطبيق هذه المهارات بأنفسهم عبر الموضوعات الأكاديمية وفي مجالات الحياة المتعددة. نظراً لأن التفكير هو شيء نقوم به في كل ساعة منذ الاستيقاظ، ولا يتطلب مجالات تدريبية أو أدوات أو معدات خاصة، فيمكن للطلاب الموهوبين تطبيق مهارات التفكير النقدي التي يتعلمونها في الفصل الدراسي لتحسين درجاتهم واتخاذ قرارات أفضل في الحياة، مع تعزيز قيمتها وخلق دورة فعالة من الاستخدام المستمر.
ممارسات تدريس التفكير النقدي عالية التأثير
إن التقنيات التي وصفتها أعلاه -التدريس الواضح لمبادئ وتقنيات التفكير النقدي، واعتماد فرص الممارسة التي تضع تلك التقنيات حيز التنفيذ، وتشجيع الانتقال بين المجالات، وإلهام الطلاب بغية ممارسة التفكير النقدي بأنفسهم- تمثل مجتمعة بدرجة عالية من التأثير ممارسات التفكير النقدي المطبقة في أي مجال من المجالات. وبالإمكان تطبيق مثل هذه الممارسات في مجالات المحتوى، مما يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن دمج ممارسات التفكير النقدي في المنهج الدراسي لا يحتاج إلى استبعاد الأنشطة الأخرى التي استخدمها مدرسو الكلية لعدة سنوات.
يمكن للأساليب الملموسة الرامية إلى تحسين قدرة الطلاب على التفكير النقدي أن تساعد الكليات والجامعات، بما في ذلك مدارس الفنون الحرة التي تكافح في ظل عصر يتجه إلى العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والتخصصات المهنية مثل الأعمال التجارية، وتحديد مهمتهم على أنها المكان الذي يتم فيه تدريس مهارات القرن الحادي والعشرين بشكل صريح. ويُعد مجال التعليم من بين أهم المجالات التي يمكن أن يؤدي فيه تطبيق مهارات التفكير النقدي إلى أحراز تأثير مزدوج، وذلك بعد تعليم الطلاب الملتحقين ببرامج إعداد المدرسين ممارسة التفكير النقدي، ويقومون بدورهم بنقلها إلى الفصول الدراسية عند النجاح في مباراة توظيف المدرسين.
لا يتطلب تغيير الكليات والجامعات قصد تبني مناهج وثقافة التفكير النقدي إصلاحًا للتعليم أو إلغاءً للمقررات الدراسية أو حتى مطالبة الأساتذة بالتضحية بالأساليب التي صقلوها واستخدموها بنجاح. إنه ينطوي ببساطة على إضافة أدوات جديدة إلى ترسانتهم الأكاديمية بحيث تسمح لهم بإنجاز ما يدعمونه بالفعل وبكل إخلاص: أي مساعدة الطلاب على تطوير المهارات اللازمة للتفكير النقدي بشأن العالم.
*جوناثان هابر “Jonathan Haber” هو مؤلف كتاب “أساسيات التفكير النقدي”، وقد نشر هذا المقال بالموقع الالكتروني “insidehighered” المختص في المجال التعليمي والتفكير الإبداعي، بتاريخ 2 مارس 2020، عبر الرابط الإلكتروني:
www.insidehighered.com/views/2020/03/02/teaching-students-think-critically-opinion